شكَّلت قضية اللاجئين السوريين أزمة ضاغطة على كل أوروبا بسبب تداعياتها الإنسانية
أمين أبوراشد
إنتهت مفاعيل صورة الطفل السوري إيلان كردي (3 سنوات)، الذي عرفه العالم جثّة على شاطئ بلدة بودروم التركية في أيلول 2015، وتجيَّشت من أجلها يومذاك أجهزة الإعلام العالمية المرئية والمكتوبة والمسموعة، وشكَّلت قضية اللاجئين السوريين أزمة ضاغطة على كل أوروبا بسبب تداعياتها الإنسانية، وباتت أولوية لدى الشعوب الأوروبية، وفُتحت منازل ريفية لرؤساء وزراء بهدف إعطاء المَثَل الصالح في احتضان نساء وأطفال يبحثون فقط عن حق الإستمرار بالعيش.
وانطَلَت الخديعة الأميركية – التركية على الشعوب الأوروبية، الخديعة التي قَضَت بفتحٍ الحدود أمام اللاجئين في الداخل التركي للعبور الى أوروبا عبر اليونان، في محاولة استغلالٍ أميركي لملف اللاجئين والضغط عبر تركيا على أوروبا بهدف تحفيزها لمحاربة الإرهاب لا بل المحاربة به، وفق أجندة أميركية إسرائيلية بقصفٍ أشبه بالإفتراضي، أدَّى خلال عامٍ كامل من الطلعات الإستعراضية على داعش وأخواتها الى مقتل 133 مسلحاً، بينما صاروخ روسي واحد من نوع كروز قضى على 600 إرهابي في دير الزور!
870 ألف لاجىء باتوا في أوروبا، مع غَرَق نحو 3000 في مياه المتوسط بحثاً عن الأمان المفقود في الشرق، وباتت أوروبا أمام واقع التعايش مع المحنة في الداخل، ومع الخوف من مليوني لاجىء ما زالوا داخل تركيا، وسعى الإتحاد الأوروبي بصورة عاجلة الى استضافة أردوغان وإغرائه بثلاثة مليارات يورو للإبقاء على اللاجئين لديه ووقف هجرتهم، ومحاولة إعادة قسم منهم الى تركيا مقابل مغريات مالية إضافية حيناً، والتحايل على أردوغان بإمكانية ضمّ تركيا الى الإتحاد الأوروبي في حال تعاونها لحل الأزمة، علماً بأن حلم الإنضمام في الظروف الحالية مستحيل لدولة ذات الثمانين مليون مُسلم وأوروبا تعيش حالة غير مسبوقة من الإسلامو- فوبيا بعد تفجيرات باريس.
وحدها ألمانيا حتى الآن عرفت كيف تُدير أزمة تدفُّق اللاجئين، ووجَّهت الحكومة الألمانية انتقادات لجهاز الاستخبارات الخارجي التابع لها، بشأن وثيقة حذَّر فيها من أن السياسة الخارجية السعودية تجنح إلى "الاندفاع" في اليمن وسوريا والعراق، خاصة منذ صعود الملك سلمان إلى سدة الحكم في يناير/كانون الثاني 2015 وممارسة نجله محمد صلاحيات أكبر منه، وقد اعترضت الحكومة على تقرير جهاز استخباراتها بعد تلقيها اعتراض سعودي على الإتهامات، لكن هذا لم يمنع "زيغمار غابرييل" نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من التصريح لاحقاً، أن المطلوب من السعودية التوقُّف عن تمويل التطرف الديني في ألمانيا، لافتاً إلى أنه "يتم تمويل مساجد وهابية في جميع أنحاء العالم من السعودية وهناك الكثير من الإسلاميين الذين يشكلون خطرا ويأتون إلى ألمانيا من هذه المجتمعات، ورأى غابرييل في حديث لصحيفة "بيلد أم زونتاج" الألمانية الأسبوعية، أنه "بالرغم من أنه يتم الاعتماد على السعودية لحل النزاعات الإقليمية فإنه يتعين علينا أن نوضح للسعوديين أن فترة التغاضي مضت"، مطالباً باتخاذ إجراء حاسم ضد المساجد الراديكالية في ألمانيا.
ووحدها ألمانيا من ضمن الدول الأوروبية الكبرى، أعطت مسألة اللاجئين بعداً إنسانياً، وعرفت في الوقت نفسه كيف تنظِّم وجودهم داخلها، والإستفادة منهم مستقبلاً للتعويض عن المتقاعدين عن العمل والحاجة الماسَّة لليد العاملة، وتدريبهم للعمل ضمن مصانع السيارات بشكلٍ خاص، ولو أن عامل اللغة سيأخذ وقتاً لتلقينهم إياها، ومنحهم الجنسية خلال خمس سنوات وقبولهم ضمن المجتمع الألماني كمواطنين ألمان.
ووحدها ألمانيا قادرة على فرض عدالة توزيع باقي اللاجئين على الدول الأوروبية الرافضة لإستقبالهم، بالنظر الى قوَّتها الإقتصادية الأولى ضمن الإتحاد الأوروبي، ودورها في دعم اليورو وحتى في المساعدة الأمنية التقنية للإبقاء جزئياً على إتفاقية "شنغن"، التي يبدو أنها سائرة نحو الإلغاء مع تصاعد الصيحات لتجميدها مدة عامين، بعد أن استنفرت كل دولة على حدودها لضبطها من تدفُّق اللاجئين، والتدقيق حتى بمستندات الأوروبيين الذين كانوا يتمتعون بحرِّية التنقل عبر الحدود بموجب قوانين "شنغن".
وبمعزلٍ عن أميركا التي تُحارب على جبهات الشرق بـ "الكفوف البيضاء"، بعد نكستي أفغانستان والعراق، وتجِد نفسها الآن ملزمة بتكثيف "طلعاتها الإستعراضية" ضمن التحالف بعد حادثة كاليفورنيا وتبنِّي داعش للعملية، فإن الحلفاء الأوروبيين وضعُهُم مختلف، ويواجهون الخوف من مسلمي بلدانهم بمزيدٍ من الإرتباك، وبالرغم من قرار فرنسا محاربة الإرهاب في أي مكان بعد تفجيرات باريس، وموافقة مجلس العموم البريطاني على مشاركة بريطانيا عبر القصف الجوي، ارتأت ألمانيا بعد موافقة البرلمان أن تُشارك لوجستياً، وتبدو الأمور وكأن أوروبا "تبلع الموسى"، سواء شاركت في التحالف أم لم تشارك، لأن الخطر الكبير في تنامي الإرهاب لن يكون على أميركا وكندا نظراً لعدم وجود تكتلات بشرية لديها من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولا على ألمانيا التي لم تغرق في وحول الشرق وعَرَفت كيف تستوعب اللاجئين إيجابياً، بل على فرنسا وبلجيكا والدانمارك والسويد وإيطاليا، وباقي الدول الأوروبية التي لديها أصلاً مهاجرون يعيشون ضمن أحزمة الفقر، ويشكِّلون بيئات حاضنة للإرهاب، لأن الإرهاب المطلوب دخول عناصره الى أوروبا قد دخل مع اللاجئين، وقنابل "المولوتوف" يُمكن صناعتها في المنازل لبث الرعب في أية لحظة كلما شاءت أحزمة الفقر "هز العصا" للأنظمة، وإذا كانت أوروبا ستعيش شتاء ساخناً، فإنها بعد تصاعد عمليات التحالف ضد الإرهاب في سوريا والعراق ومؤخراً في ليبيا، ستشهد ربيعاً حارقاً قد يُطيح بأمنها الداخلي وأسواقها المشتركة وبالإتحاد الأوروبي...