ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين،
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
تطلّ الأمّة العربيّة والإسلاميّة على مرحلةٍ هي من أشدّ المراحل صعوبةً وخطورةً في تاريخها، حيث تواجه العقبات آمال الحرية التي تتطلّع إليها الشّعوب العربيّة والإسلاميّة المثخنة بجراحات الأنظمة وبعبث الخارج وسعيه لاستغلال هذا الواقع السياسي والأمني للدّخول على خطِّ هذه الشّعوب للاستفادة منه لحساب سياستها في المنطقة، وذلك بهدف تحويل ربيعها الزّاهي وأهدافها النبيلة إلى خريفٍ مخيف، خريف تتداعى فيه دعوات التّغيير أمام أعمال الفوضى والعنف والتّدمير، وتنحسر فيه التطلّعات الوحدويّة في مقابل تصاعد السّجالات المذهبيّة والطائفيّة والعشائرية والقبلية، ما يجعل الهواجس تزداد في معظم المواقع السياسيّة والدّينيّة والعرقيّة وما إلى ذلك...
هذه هي الصورة التي شهدناها في كل الثورات العربية وهي التي نراها الآن في المشهد السوري، حيث يراد لهذا البلد أن يكون في عين العاصفة، في ظل كل التطورات التي حصلت، ولا سيما بعد دخول الجامعة العربية على خط هذا البلد...
ولقد كنّا سعداء بأن تقوم الجامعة العربيّة بدورها في إيجاد حلّ لما يحدث في سوريا ليكون هذا الحل منسجماً مع المصلحة العربية، ولإبعاد هذا البلد عن قبضة التّدويل، وكنّا نعتقد أنَّ هذا الأمر يمهّد لمرحلة جديدة من العمل المؤسَّسي العربي في مواجهة كل الجهات الإقليمية والدولية الّتي تسعى للاستفادة من كلِّ هذا الحراك الشّعبيّ، ليكون لها موطئ قدم في هذا البلد العربي الّذي له دوره في القضايا العربية، لا سيما في دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، كما وقف ويقف عقبة أمام المشاريع الاستكباريّة الّتي رُسمت وترسم على مستوى المنطقة كلّها...
لكننا مع كل هذا الأمل الذي نرتجيه من حركة الجامعة العربية، فإننا ولأكثر من سبب، نخشى أن تكون هذه الخطوة العربيّة لا تؤدي هذا الدور الإيجابي، بل تشكل البوّابة التي تهيّئ المناخ للتّدويل، حيث تحتاج المحاور الدّوليّة إلى غطاء عربيّ لتدخل أكثر على ساحة هذا البلد، ولتحرج الّذين يعارضون أي تدخّل من المواقع الدّوليّة في الشأن السوري...
ولذلك نقول للدول العربيّة ولجامعتها: فكّروا مرّة واحدة بأن تكونوا أحراراً، تملكون قراراتكم وتملكون خياراتكم، ولا تستجيبوا لعصبيّاتكم وحساسيّاتكم، ولا لتخويف الآخرين لكم.. إن مسؤوليتكم أن تحفظوا مواقع القوة التي تملكونها، لا إضعافها، لأن إضعاف أي موقع فيها هو إضعاف لكل المواقع العربية.. كونوا أطفائيين في سعيكم، لا أن تزداد حرارة الواقع التهاباً.
لذلك ندعو الجامعة العربيَّة إلى أن تعي مسؤوليَّتها جيّداً، وأن تعمل لحلّ الأزمة في سوريا بالعمق، وبكلّ مسؤوليّة، لا تعقيدها وإدخالها في مهاوي المجهول ومهبّ الرياح العاتية التي لن تكون لحساب الواقع العربي...
وذلك بالمساهمة في تهيئة أجواء الحوار، بين كل شرائح هذا الشعب وفئاته ووضع الآليّات المناسبة لهذا الحوار، ليتم من خلال ذلك تشكيل إطار جامع يركِّز الإصلاحات على الصعد كافة، ويؤسِّس لمستقبل أفضل لسوريا وشعبها ويمنع انزلاقها في الأتون المذهبيّ والدّمويّ الّذي تخطّط له أكثر من جهة دوليّة، والّذي يُراد له أن يُريح الكيان الصّهيونيّ من موقع كان ولا يزال داعماً للمقاومة بعيداً عن الحسابات الفئويّة أو المذهبيّة وما إلى ذلك..
إننا نعتقد أن فرص الحوار لا تزال ممكنة، ونحن ندعو إلى تجاوب الجميع كي نوفّر على سوريا وعلى العالم العربي تداعيات هذه الأزمة ونتائجها التي لن تقف عند حدود سوريا، بل تتجاوز ذلك إلى العالم العربي والإسلامي...
وبهذه المناسبة نريد للّبنانيّين سواء الذين يتحمسون للنظام في سوريا، أو الذين يتحمسون للحراك الشعبي، وينقسمون على هذا الأساس، أن يكونوا في أعلى درجات المسؤوليّة، وأن يتحلّوا بالوعي والحكمة في مقاربة الأمور في هذا الشّأن، وأن يبتعدوا عن السّجالات المتصاعدة الّتي قد توحي إلى الكثيرين بأنّ اللّبنانيّين، سواء كانوا في مواقع المعارضة أو الموالاة، أو في السّلطة وخارجها، لا يزالون يتصرّفون وكأنّ لهيب المواقف المتطرّفة ونار الحساسيّات المذهبيّة والسياسية، يمكن السّيطرة عليها في أيّ وقت، متلّهين عن أنّ بلدهم سرعان ما يصبح موطناً للحرائق الإقليميّة، والّتي دفع ويدفع ثمنها، كما لا يزال يدفع فاتورة اللّعبة الدّوليّة في المنطقة.
أمام كلّ هذا الواقع، لا يزال كيان العدوّ يُمعن في هذه الأيّام قتلاً في حربه المتواصلة على قطاع غزّة بطريقة وأخرى، ويواصل عمليّات الزّحف الاستيطانيّ في قلب القدس وفي الضفّة الغربيّة، ويعتقل المزيد من الفلسطينيّين.. فهو الأكثر سعادة إزاء هذا الانقسام في الواقع العربيّ والإسلاميّ، هذا العدوّ الّذي لم تتحرّك الجامعة العربيّة حتّى في أخطر حالات عدوانه ومجازره ضدّ لبنان وغزّة، لتلوّح له بأوراق التّهديد والوعيد وما إلى ذلك، كما نشهد في تعاملها عربيّاً.. كما هي لا تتحرك الآن..
إنّ العدوّ يوحي من خلال تصريحات مسؤوليه، أو التّسريبات الّتي ينطلق بها الإعلام الغربيّ، بأنّه هو الّذي يمسك بخيوط اللّعبة من بعيد، وهو الّذي يُطلق الشّرارات السياسيّة، كما يصنع التفجيرات ويقوم بأعمال الاغتيال والعدوان على امتداد المنطقة، من إيران إلى بقيّة المواقع، وصولاً إلى البحر المتوسّط والبحر الأحمر وما هو أبعد منهما في المياه الدّافئة وغيرها.
إننا في هذا المجال نعيد التأكيد على الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والشعوب العربية والإسلامية، عدم نسيان الخطر الصهيوني وخططه في هذه المرحلة، كما نشد على أيدي الفلسطينيين لتأكيد وحدتهم منتظرين النتائج أن تحصل من خلال اللقاء المرتقب في مصر قريباً...
وفي هذا الواقع، يطلّ البلد الصغير، لبنان: على مشاكله من النّوافذ الصّغيرة، في سجالاتٍ إعلاميّةٍ تراكم المشاكل وتستجلب الأزمات، بدءاً من الاستحقاقات المطلبيّة الّتي يصعد فيها سلّم الأجور ويهبط إعلاميّاً، ولا تقترب الحكومة من ملامسته ميدانيّاً بالطريقة الأسلم والأفضل.. وذلك في وقت ينحدر الملفّ الأمنيّ إلى أسوأ أوضاعه، لا سيما في ظل تفشّي ظاهرة القتل والسرقات، ونحن مع تقديرنا لكل إنجاز للأجهزة الأمنية، ندعو الدولة إلى أن تحكم قبضتها أكثر لملاحقة اللصوص بالتعاون مع كل الجهات الفاعلة كي نثبت الأرض ونمنع العابثين ومن يدخلون على هذا الخط للإساءة إلى قوة هذا البلد ومواجهته لمخططات أعدائه..
إنّنا نقول لكلّ من هو في موقع المسؤوليّة في لبنان، إنّ من الجميل جدّاً أن يعيش البلد حالةً من الوحدة، وحتّى الزّهو في المشهد الرّياضيّ العام وانتصار لبنان كروياً في مباراته الأخيرة، ولكنّ الأجمل هو أن تتحلّى الطبقة السياسيّة بروح رياضيّة، تتجلى في تعاملها مع اختلافها حيال ما يجري في المحيط، وتعمل على تجنيب البلد أثر العواصف القادمة من خلف الحدود، وتتصرّف كمجموعة وطنيّة واحدة، فتعتبر أنّ ما يصيب أيّ مكوّن منها يصيب الجميع، بدلاً من أن تبدأ الحسابات في الدّاخل على أساس من يكسب إذا تبدلّت الصّورة هنا أو هناك..
فلا يمكن أن يُبنى بلدٌ يستقوي مَن بداخله بالخارج وما يجري فيه من تطورات.. البلد يُبنى بتأكيد التَّعاون بين أبنائه في موارد الاتّفاق، وهي كثيرةٌ بحجم الوطن وبحجم متطلّبات النهوض، كما يبنى بالحوار الموضوعي الهادئ في مواقع الاختلاف، وهو المطلوب...
أيّها المسؤولون، أيّها المعنيّون، قدّموا للنّاس تجربة واحدة على أنّكم تمثّلون لبنان الواحد الموحّد، ولا تمثّلون طوائفكم ومذاهبكم ومواقعكم السياسية فحسب.. تصرّفوا بحكمة ووعي قبل أن يسقط البلد في لهيب المذاهب وصقيع الطّوائف، وكل ما يجري من حوله، فيسقط الهيكل على رؤوس الجميع.