في خضم الحديث عن جداول زمنية للحل في سوريا وتصويب البوصلة في الاعلام والسياسة الاميركية والغربية على الحل السوري السياسي وداعش بقي الاميركي يترك هامشا للطرفين للسعودي والتركي.
احمد شعيتو
حملت العلاقة بين روسيا وتركيا تاريخياً في معظم المراحل عنوانَي الصدام والتنافس منذ القرن الثامن عشر، ورغم ان العقدين الاخيرين أبرزا صوراً من التقدم والتطور المميز في العلاقتين انعكس بشكل اساسي على التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية والسياحية والتزويد بالغاز الا انها بقيت سياسياً "على الحافة" جراء الالتصاق التركي بحلف الناتو والتوجهات الاوروبية لتركيا وهو ما يجعلها قابلة للتوتر. وشكلت الازمة السورية او ما يمكن تسميته الحرب على سوريا محور خلاف روسي تركي عميق.
في الفترة الاخيرة وفي خضم الحديث عن جداول زمنية للحل في سوريا وتصويب البوصلة في الاعلام والسياسة الاميركية والغربية على الحل السوري السياسي ووضع داعش نصب الاعين في مقدمة الاهتمام "اعلاميا" بقي الاميركي يترك هامشا للطرفين للسعودي والتركي.
ولعل السبب في ذلك يعود الى امرين:
-محاولة وقف اندفاعة روسيا او تقليل الخسائر من هذه الاندفاعة
- ورفع سقوف يسبق التفاوض السياسي في سوريا.
وقد قال اوباما في تصريح له منذ فترة ما يستشف منه ان اكبر أمانيه اليوم تغيير حسابات الروسي حين قال ان اسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء واسقاط تركيا لمقاتلة روسية الاسبوع الماضي يغير حسابات بوتين تدريجيا!.
هذا ما في الآمال الاميركية والتركية على السواء ولكن الواقع قد يشي بما هو مغاير.. منذ هجمات "باتاكلان" في فرنسا بدت واقعية غربية واوروبية اكثر في الموضوع السوري وموضوع داعش، لكن الحسابات الاميركية لا تزال تسعى لاضعاف الحركة الروسية بعد ان ظهرت اثارها كبيرةً وسريعة وقوّت الحضور الروسي في المنطقة، كما ان تركيا رأت في روسيا منافسا خطيرا في الملف السوري الذي لعبت فيه تركيا لسنوات وأججت نيرانه... فكان اسقاط الطائرة الروسية احد مظاهر عدم الرضا التركي عن الوضع . لكن بعد ايام بدأ التراجع التركي في التصريحات بعد ان جاء الرد الروسي ذكيا وفعالا وقاسيا ورأت تركيا ان ذلك سيهدد علاقات اقتصادية تفوق 40 مليار دولار مع روسيا .
وبحسب ما قال خبراء روس فإن قرار اسقاط الطائرة اتخذه اردوغان مسبقا بايعاز اطراف خارجية غير راضية عن الوضع وكذلك وجد التركي انه يمكن ان يوجه رسالة قوية الى التحرك الروسي نظرا الى مصالحه في نفط داعش. وقد اوضح الرئيس الروسي بوتين بشكل لا لبس فيه ان "قرار اسقاط طائرتنا اتخذ لحماية الطرق التي ينقل عبرها النفط الى الاراضي التركية" . وقبلها كانت وسائل إعلام تنشر صورا لنجل أردوغان مع قياديين في "داعش" وهو الذي اتهمه الاعلام الروسي بتنسيق ملف النفط مع داعش.
العلاقة التركية بالنفط الداعشي معطوفة على عدم استهداف فعال لهذا النفط من قبل التحالف الاميركي كانت تثير العديد من التساؤلات والريبة، ويلاحظ المراقب انه منذ بداية عمل التحالف لم نسمع الا نادرا باستهداف لنفط داعش رغم كل الامكانيات الاميركية، وعند اعلان روسيا قصف شاحنات نفط داعش ومصافي النفط التي استولى عليها بدأ التحالف الاميركي حديثه عن ضربات نفذها هو ضد هذا النفط.
وفي اقوال الخبراء الاميركيين انفسهم نرى هذه التساؤلات حيث يقول نائب رئيس شركة "فورين ريبوترز"، ان الطريقة السهلة لرصد نفط "داعش" هي من الجو، "فمواقع المنشآت النفطية معروفة".. كما ان الغارات الروسية وبث مشاهد الفيديو الواضحة لاستهداف نفط داعش يؤكد انه لو كان للتحالف الاميركية نية جدية بوجه داعش ونفطها لاستطاع تنفيذها.
هنا التساؤل اذاً ما دام الاميركي جاداً في الحديث عن "القضاء" على داعش كما صرح اوباما مؤخرا، فلماذا لم يستهدف منبعا اساسيا لحياة داعش هو النفط ، اما المعلومات عن علاقة تركيا بتهريب النفط فهو يحمل عنوانا مشابها متعلقا اولا بالكسب المادي وثانيا بعدم جدية تركيا في الحرب على الارهاب.
لكن ماذا عن الوضع اليوم؟
الرسالة التي اريدَ ارسالها من اميركا وتركيا الى روسيا لم تفعل فعلها ولم تجر الروسي الى ما يريده هؤلاء بل بقي الروسي سائرا في الخطوات التي يراها هو مناسبة ، دون اظهار اي ضعف، بل رسم معالم تهديد عسكري واضح وقام بخطوات عقابية اقتصادية كبرى. ارتدت هذه الرسالة سلباً على مطلقيها وشكلت بالمقابل ورقة قوة اضافية بيد روسيا وورقة حضور عسكري اضافي ومنظومات صاروخية، ولا شك ان ادخال صواريخ اس 400 يشكل معادلة قوة كبرى.
اسقاط الطائرة كان يراد منه عرقلة وإشغال الروسي من اجل تحقيق مكاسب عدة في هذه الفترة ، وهنا نعود الى ما عرضه قائد سلاح الجو الروسي من تفاصيل عن التحضير للعمل التركي وعن تحضير عملية التصوير من الارض ، لكي يكتمل الاستفزاز ، وهذا يدل انها لم تكن حادثا مفاجئا ، لكن هذا الاستفزاز المقصود والمدبر والرسالة العسكرية لم تجعل روسيا تتراجع ولم تحرف انظار موسكو الى مكان اخر ولم تشغلها عن الموضوع الاساسي.
وشكّل القصف الاميركي لموقع الجيش السوري في دير الزور او التحرك الاميركي مجددا عبر جون بايدن في الملف الاوكراني واطلاق المطالبات بوجه روسيا، او دخول مئات الجنود الاتراك الشمال العراقي ، شكل كل ذلك دلالة على الارتباك والفشل عند اميركا وتركيا الذين وضعهما به الروسي في طريقة التعاطي الذكية مع الاحداث.
لقد اتخذ الروس قرارت اقتصادية ضخمة ضد تركيا واستمروا في عملياتهم العسكرية في سوريا بل صعدوا حضورهم الاستراتيجي وهددت موسكو برد عسكري في حال تكرر مثل هذه الحادثة، لكن هل تستمر محاولة عرقلة الروس ام يقر الغرب والاتراك بالفشل، ذلك تظهره في الفترة المقبلة الاحداث والمواقف، فإذا استمر التصعيد السياسي او حصل اي تصعيد عسكري ضد روسيا او ضد سوريا فسيكون ذلك مؤشرا لمحاولات عرقلة اضافية لروسيا، اما اذا تم التركيز على الحل في سوريا والحلول السياسية في المنطقة واتخاذ خطوات جدية ضد داعش فسيكون ذلك إقرارا بعدم امكانية عرقلة روسيا، وإلا... فإن أي خطوة من قبيل القفز امام العجلات الروسية قد تفتح الباب على صراع اقليمي ودولي خطير.