كثيرة هي المواثيق والاتفاقيات والأعراف الدولية التي تحمي وترعى حقوق الإنسان وتعمل على تعزيزها وترسيخها، أكان ذلك في زمن الحرب أو في زمن السلم.
كثيرة هي المواثيق والاتفاقيات والأعراف الدولية التي تحمي وترعى حقوق الإنسان وتعمل على تعزيزها وترسيخها، أكان ذلك في زمن الحرب أو في زمن السلم. وحقوق الإنسان هي تلك الحقوق الطبيعية أو الأساسية، أو الحقوق الأصلية في طبيعتها التي ترتبط بالإنسان بوصفه إنسانا والتي بدونها لا يستطيع أن يعيش حياة كريمة كباقي البشر دون تمييز أو تفرقة.
ومن ضمن هذه الحقوق الاساسية للانسان، وعلى سبيل المثال لا الحصر: الحق في الحياة، أي حق الإنسان في أن يعيش، وحق الإنسان في حريته الشخصية بما لا يجعله يشعر بالخوف من التعبير عن رأيه بالإضافة الى حقه بالمحاكمة العادلة وتوفير حقوق الدفاع وغيرها من الحقوق.
ولعل القانون الدولي لحقوق الإنسان هو الذي يعبّر ويجمع كل تلك المبادئ القانونية الدولية الحامية لحقوق الإنسان في حياته وكيانه وحريته وقيمته ككائن بشري في وقت السلم، وكانت باكورة الاتفاقيات التي انضوت في طيّات هذا القانون واللتين صدرتا تواليا في 9 و10 شهر كانون الاول / ديسمبر من العام 1948، هما الاتفاقية المناهضة لإبادة الجنس البشري والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالإضافة إلى "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية الصادر عام 1966" والبروتكولين الملحقين به.
أما في وقت الحرب، فإن ما يحمي حقوق الإنسان هو ما يعرف بالقانون الدولي الإنساني وهي تلك القواعد القانونية المختصّة بحل القضايا الإنسانية الناشئة عن النزاعات المسلحة سواء كانت هذه النزاعات دولية او محلية، وابرز مكونات هذا القانون هي اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها والموقعة في العام 1949.
القذافي يرتكب مخالفات تاريخية وقانونية بحق شعبه
ومن هنا يبرز لنا ونحن في العام 2011، عندما نتابع الأخبار الواردة من ليبيا والمشاهد المصورة التي تبثها مختلف وسائل الاعلام عن فظاعة الجرائم المرتكبة، مدى المخالفة التاريخية والقانونية الكبيرة التي يرتكبها نظام القذافي في ليبيا، والذي لا يقيم وزناً للإنسان الليبي لا في حياته ولا شخصه ولا كرامته بعد كل هذه السنين على وضع تلك الاتفاقات التي سبق ذكرها. فهذه الاتفاقات هدفت بوضعها أن تؤمن للإنسان بالحد الأدنى الحقوق الأساسية المشتركة بينه وبين جميع بني جبلته أيا كان عمره ودينه وعرقه وجنسه ولونه.
ولذلك يشكل الاعتداء على حقوق الإنسان في وقت الحرب كما في وقت السلم جريمة تعترف بها كل الدول والأمم، ومن أبرز صور هذه الجرائم هي الجريمة ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية.
وفيما تُعرَف الجريمة ضد الإنسانية بأنها أي هجوم او اعتداء واسع النطاق ومنهجي ومنظم ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. ومن أمثلة هذه الاعتداءات هي: القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسرى للسكان، وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها. تعتبر جرائم حرب كل الجرائم التي تنتهك اتفاقيات جنيف الموقعة في العام 1949 والتي تتركز على حماية الجرحى والاسرى والمرضى والمدنيين في وقت الحرب.
والجدير ذكره أن الجرائم ضد الإنسانية قد ترتكب في أيام الحرب كما في زمن السلم، لذلك هي قد ترتكب من قبل دولة اجنبية ضد رعايا دولة آخرى كما أنها قد ترتكب من الدولة ضد رعاياها أنفسهم.
ومن هنا يلفتنا ما يرتكبه في هذه الأيام نظام الطاغية معمر القذافي في ليبيا من جرائم ضد الشعب الليبي من قصف للمدنيين بالطائرات الحربية وحرق جثثهم بصورة همجية فظّة وقتلِ بدم بارد لمن يعبّر عن رأيه باستخدام ازلام النظام تارة ومرتزقة من دول آخرى تارة آخرى لقتل العزل في الطرقات وحتى في منازلهم بالإضافة إلى تهديد الناس في أمنهم وحياتهم وأرزاقهم وتضييع ثروات البلاد على مدى سنوات طويلة.
وقبل البحث في التوصيف القانوني لما يجري في ليبيا لا بدَّ من معرفة الوضع القانوني للحالة العامة في ليبيا طبقا للقانون الدولي، فهل القانون الدولي يعتبر ان هناك مجرد مشاكل داخلية أو اضطرابات في هذه الدولة؟ ام أن هناك عصياناً مسلحاً أو حرباً أهلية أم أن هناك ثورة على النظام في ليبيا؟
ومن جهة ثانية لا بدّ من معرفة نظرة القانون الدولي الى وضع النظام الليبي المترنح الذي حتى هذه اللحظة لم تتم الإطاحة به؟ وبمعنى آخر وبغض النظر عن الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها هذا النظام، هل هو قانوناً لا يزال نظاما قائما مشروعا أم أنه فقد شرعيته ودائما طبقا لنظرة القانون الدولي؟
القذافي غير فاقد للشرعية وإنما فاقد للمشروعية
لمعرفة حقيقة كل التساؤلات السابقة توجهنا الى الخبير والباحث في القانون الدولي الدكتور محمود رمضان الذي أوضح لنا أن "الوضع الراهن في ليبيا وما تؤكده الأخبار المتداولة من سيطرة الثوار على مساحات واسعة من البلاد، وقد تكون معظمها، وفقدان النظام الليبي السيطرة على غالبية المدن والمناطق هناك، يبيّن أن الوضع طبقا للقانون الدولي ليس مجرد عصيان كما يشيع نظام القذافي وليس هو حرب أهلية إنما هو ثورة حقيقية".
أما عن وضع نظام القذافي، فيرى الدكتور رمضان ضرورة التفرقة بين أمرين طبقا للقانون الدولي: الشرعية والمشروعية في وضع القذافي. "صحيح أن القذافي لم يأتي الى السلطة بالوسائل الشرعية كالانتخاب مثلاً، إلا أنه وطبقا للواقع الذي كان قائما قبل الثورة الحالية في ليبيا لم تنزع الشرعية عن القذافي باعتبار أنه لا يزال على رأس النظام ولم يتم انتخاب أو اختيار غيره حتى الآن وبغض النظر عن وضع نظامه الحالي"، يقول الكتور رمضان.
من جهة ثانية لفت رمضان إلى أنه "من حيث المشروعية فإن القذافي قد فَقَدَ المشروعية التي تقوم على ثلاثة عناصر هي: استئثار الحاكم بالسلطة وإمكانية فرض النظام، وحصرية السلطة أي أن لا يشاركه فيها أحد، والسيطرة على البلاد التي يحكمها"، مع العلم بأن هذه العناصر كلها اصبحت غير متوفرة في نظام القذافي لأنه لم يَعُدْ يستأثر بالسلطة وليس بإمكانه فرض النظام في البلاد، كما أنه لا حصرية للسلطة لديه حيث قامت حكومة إنتقالية في ليبيا برئاسة وزير العدل المستقيل، بالإضافة إلى أنه ليس للقذافي القدرة على فرض النظام ولذلك كله فقد القذافي المشروعية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل قمع الناس طوال 42 عاما ومنعهم من التعبير عن رأيهم يعتبر انتهاك لحقوق الإنسان؟ وإن لم تكن الإجابة عن هذا السؤال هي المطروحة الآن لأن الدخول في جرائم القذافي يحتاج الى مطوّلات لا يتسع المقام لمناقشتها وليس إخفاء الامام السيد موسى الصدر ورفيقيه سوى نموذج عن جرائم هذا النظام، ولكنّ الإجابة عن السؤال التالي هي مطروحة بالتأكيد وملّحة في هذا الوقت: ما هو الوصف القانوني لما يرتكبه نظام القذافي في ليبيا؟ وكذلك ما التوصيف القانوني لجريمة قصف المدنيين العزّل بالطائرات الحربية؟ ثم أليس قصف الطائرات لمن يعبّر عن رأيه السياسي هو انتهاك لحقوق الإنسان وخرق للإتفاقيات والأعراف الدولية في هذا المجال؟
حقوق الإنسان ليست منّة من احد بل واجب على الدول اتجاه الافراد
وحول ما إذا حصل انتهاك لحقوق الإنسان في ليبيا، أكد الدكتور رمضان حصول ذلك، وأضاف أن هذه الحقوق التي يتمتع بها الإنسان بوصفه إنساناً، لا تعطى له منّة من أحد بل هي واجبة الإحترام على الدول والأنظمة أيا تكن لانها ملحوظة في المواثيق الدولية ودساتير الدول كما أنها اقترنت باتفاقيات ومعاهدات دولية وأحكامها ملزمة للدول وليس لها أن تختار بين تطبيقها من عدمه.
ورأى رمضان أن "الجرائم التي ارتكبت في ليبيا هي جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب"، لافتاً إلى أن "هذه الجرائم تسقط الحصانات عن رؤوساء الدول وغيرهم من المسؤولين إذا ما كانوا يتحملون أية مسؤولية في وقوع هذه الجرائم بما يجعلهم معرضين للملاحقة الدولية أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية".
قد تنطبق جريمة "الابادة الجماعية" على القذافي في ليبيا
وفيما شدد رمضان على أن جريمتي "الحرب وضد الإنسانية ثابتتان في الوضع القائم حاليا في ليبيا إلا أنه ليس مؤكدا حتى الآن ثبوت حصول جريمة الإبادة الجماعية"، موضحاً أن "جريمة الإبادة الجماعية لها شرطان أولهما ان يكون هناك اعتداء على مدنيين عزّل بغاية القتل الجماعي او الجزئي على ان يكون القتل ممنهجاً، وثانيهما أن تكون المجموعة المستهدفة تنتمي إلى عرق أو جنس أو نسل آخر".
ولفت الدكتور رمضان الى ان "الأخبار الواردة من ليبيا تشير إلى أن هناك أفارقة يُستخدمون لقتل الشعب الليبي كما أن الأخبار تفيد بأن عدد هؤلاء كبير وهم بالتالي من عرق آخر كما أنه من المفترض أن لديهم علم بما يقومون به وإرادة للقيام بذلك (العلم والإرادة هما الركن المعنوي في أي جريمة ترتكب) أي أنهم يقتلون أناساً من عرق آخر ولذلك قد تنطبق جريمة الابادة الجماعية".
وأضاف رمضان أن "الأفارقة أو ما يسمى بالمرتزقة، إذا كانوا يقومون بما يقومون به وهم غير مجنسين والدول الافريقية التي ينتمون اليها على علم بما يقومون به وهي موافقة على ذلك فإن هذه الدول تعتبر أيضا مسؤولة عن جريمة الإبادة الجماعية إذا ما ثبتت بالإضافة الى مسؤولية نظام القذافي والمرتزقة أنفسهم".
ولكن بعد ثبوت انتهاك نظام الطاغية في ليبيا لحقوق الإنسان، كيف ستتم ملاحقة أو معاقبة كل مسؤول عن تلك الانتهاكات بدءاً من رأس النظام وصولاً الى من يثبت تورطه من مرؤوسيين؟
"إن ذلك ممكن في أكثر من سبيل: أولها أمام القضاء الليبي إذا ما تمّ إلقاء القبض على القذافي والمسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت، كما يمكن محاكمة القذافي امام القضاء الدولي المتمثل بالمحكمة الجنائية الدولية (وهذا ما وافق عليه مجلس الامن في قراره الأخير ضد النظام الليبي، إلا أن هذا القرار أجّل ملاحقة المسؤولين إلى ما بعد 12 شهراً من تاريخ صدوره"، وتلك علامة استفهام كبيرة.
أفضل سبيل لملاحقة القذافي إحالته فوراً إلى المحكمة الجنائية الدولية
وتابع الخبير في القانون الدولي قائلاً: "يمكن لمجلس الأمن بناءً للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة فرض عقوبات على ليبيا أو إنزال قوات دولية فيها لحفظ الأمن والسلام ولإلقاء القبض على القذافي واعوانه في النظام أو لحماية الشعب الليبي". وحذر رمضان من "لجوء بعض الدول غلى مثل هذه الاساليب لانها قد تنطوي على تدخل في الشؤون الليبية الداخلية بالإضافة الى ان فيها محاذير حول استخدام ذلك لاحتلال ليبيا تحت عناوين مختلفة".
وأكد الدكتور رمضان أن "أفضل الطرق لمحاكمة القذافي والمسؤولين عن الجرائم بحق الشعب الليبي هو الإحالة الفورية إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر قرار من مجلس الامن من خلال إحالة الملف إلى المدعي العام في هذه المحكمة لإجراء التحقيقات اللازمة وإصدار قراره الاتهامي ضد المتورطين في الجرائم وإصدار قرارات بتوقيفهم، وبعد ذلك مباشرة، ودون تأخير، تبدأ محاكمتهم. كما يمكن لأية دولة وقّعت على نظام هذه المحكمة ان تتقدم بشكوى (تشبه الإخبار الى النيابة العامة في القانون الداخلي) ضد القذافي إلى المحكمة الجنائية الدولية لتتحرك وتضع يدها على الموضوع".
صحيح أن مجلس الأمن الدولي قد تحرك أخيراً، إلا أن تحركه جاء متأخراً، كما كانت مواقف الدول الغربية (التي تتحكم بالمجلس) غير الحازمة اتجاه نظام القذافي فيما يتعلق بارتكاباته حتى الآن أو بمطالبته بالرحيل كما حصل مع الرئيسين المخلوعين حسني مبارك وزين العابدين بن علي، ومما يلفت في قرار مجلس الأمن هي النتائج التي قررها وأبرزها تأجيل إحالة الموضوع الليبي على المحكمة الجنائية الدولية.
وبالتأكيد فإن المسؤولية قد وقعت على النظام القمعي في ليبيا وعلى رأس هذا النظام الطاغية معمّر وأعوانه، فمهما كانت نتائج هذه الثورة أألقي القبض عليه أم تمكن من الفرار تحت جنح الظلام، فهو مسؤول بشكل لا يقبل الشك عن الجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان.
وتلك مسؤولية لا تسقط بمرور الزمن وفقاً للقانون الدولي والاتفاقية الصادرة عن الامم المتحدة "حول عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية" ومما تضمنته أن "الجرائم ضد الإنسانية والحريات الأساسية لا تسقط بمرور الزمن وإنما مهما طال الزمن فإن مرتكبيها يجب معاقبتهم وإنزال العقاب ضدهم".