في استشهادك يا سمير، حكمة ومواعظ واشارات، فهل من لبيب يفهم؟ هل من ينتبه إلى تجاوز جسدك ودمك حدود المناطق الضيقة، لتعلن أنّ الوطن بجنوبه وجبله وشماله وبكل مناطقه وأقطابه...معنيّ بمحاربة العدوّ؟
في قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، يتوجّه بها الى الشاعرة فدوى طوقان معاتبًا، ساخطًا على الظرف وما آلت اليه ظروف الشتات، وراضيًا في الوقت عينه، يقول: «كان لا بدّ من الأعداء كي نعرف أنّا توأمان». ولا شكّ في أنّ لهذا القول، أبعادًا ودلالاتٍ تحيلنا الى فوائد الملمّات والرّزايا، ليصبح للعدوِّ دورٌ ايجابي ذو ملامح توحيديّة بين الأخوة المتباعدين أحيانًا، تحت مبدأ «المصيبة تجمعنا»...
علي نسر / جريدة السفير
حين استفقنا، كان خبر الاغتيال. وقد طوى الجزر العربية المليئة دماءً وموتًا، ليصل إلينا، نحن المتكيّفين مع حقل الموت المعرفي، فلم تفاجئنا الأنباء العاجلة، بقدر ما أذهلتنا شخصية الخبر وقامته. وبعد انقشاع غبار الحدث، إذ لم يدع لنا صدقه أملا بتكذيبه، بقي لدينا العزاء الوحيد، وهو أن يكون للعدوّ هذه المرة الدور التوحيدي، بحسب درويش، في إطلاق المواقف، لكنّ ما حدث قد خيّب فينا الآمال.
على الشاشات، وعبر الهواتف النقالة، وصفحات التواصل الاجتماعي، صدح صوت الشهيد، وهو يتوعّد أعداءه وسجّانيه، مواعدًا رفاقه وكلّ من راهن على إغلاق باب حياته على ثلاثين سنة من السجن ورميها في غياهب النسيان، بأنّ الوجهة ستكون فلسطين، جنوب الجنوب، إذ «لم نعد من فلسطين إلا لنعود اليها». قالها سمير القنطار، وتوهمنا وقتها أنّ هذا شعارٌ لن يتجاوز فورة الخارج من وراء القضبان، لكنّ الوعد لم يطل كثيرًا ليتحقّق، مؤكّدًا أنّ الشريان المقاوم كلّما اجتُثّ نبتت بدلا منه شرايين.
ليس القنطارُ المقاومَ الأوّل أو الأخير، وربما لم يكن ذا مستوى عسكريّ يفوق غيره، لكنّ موته الذي اختاره ترك بصماتٍ واضحة على أوراق هذه الأرض العربية عمومًا واللبنانية خصوصًا، المتخبطة في أوحال الصراعات الداخلية، لما تتحلّى به هذه القامة من سماتٍ تتجاوزُ حدودَ القتل والقتال. فهو الجسر الذي يربط أوصال المقاومة، ماضيًا وحاضرًا، ويجمع الشّمل بين مشارب فصائلها المشتتة، ويعيد للقضية اتجاه البوصلة من جديد.
هو الحائك الذي باستشهاده، يعيد إلى أذهان القيّمين على خطّ المقاومة، أنّ لا ثوب قد يليق بجسم المقاوم غير الثوب الوطني، والعروبي القومي، الذي يقتضي الوضع الراهن اعادة ارتدائه أكثر من أي وقت آخر، لأنّ أعداء اليوم من اسرائيليين وتكفيريين، يجب ألّا نوفّر لهم التحصّن خلف متاريس دينية وإثنية، تساعد في تطويق المقاومة، وجرّها الى مستنقع الصراع الديني، وان تحاول المقاومة جاهدة أن تقنع الجميع بأنّ صراعها مع أعداء اليوم لا يرتكز على أسس مذهبية أو طائفية.
في استشهادك يا سمير، حكمة ومواعظ واشارات، فهل من لبيب يفهم؟ هل من ينتبه إلى تجاوز جسدك ودمك حدود المناطق الضيقة، لتعلن أنّ الوطن بجنوبه وجبله وشماله وبكل مناطقه وأقطابه...معنيّ بمحاربة العدوّ؟ هل من يفقه أنّ في عملك المقاوم كسرًا لحواجز الطائفية وسدودها؟ هل من يلتفت إلى أنّ من نعاك شهيدًا حزبان، الحزب الوطني الذي أطلق أولى رصاصات المقاومة، والحزب الذي أكمل الطريق ليمثّل اليوم رأس حربتها؟.
موتك يا شهيد الوطن، يحتمل التأويل. قد نختلف على التقييم. لكن ما لا اختلاف فيه أنّك، ومنذ تحريرك، زرعت في قلوب أعدائك شوكة من الغيظ والحقد أولًا، ما دفع بأحد ضباط العدو الى قولها علانية وبشماتة المنتصرين: يجب أن لا يكون لمثل هؤلاء الناس حياة في هذا العالم. وزرعت فيهم القلق والخوف ثانيًا.. كيف لا؟ وأنت من القادة الذين يشير مكان استشهادك الى ما كان يُلمّح اليه، من امكانية تشكيل خلايا مقاومة وفدائية على حدود العدو في الجولان المحتل، وهذا ما لم يكن في حسبانهم يومًا ما.
أمّا داخليًّا، فلم تكن مصيبتنا بك عامل توحيد لا بدّ منه كما قال الشاعر، إنّما شكّلتَ صندوق أصوات تتصايح فوق جثتك، وتجسّد هذه التباعدات والتباينات والافتراقات التي لا يمكن تذويبها الا عبر موت يعيد اللحمة لأصحابها. لكنّ ما لمسناه قضى على أمل الالتقاء حتى في الأحزان، إذ شكّل موتك منبرًا لاعلاء الاتهامات المتبادلة من جديد. وبرغم أنّ صاروخ قاتلك إسرائيلي، إلا أنّك بقيت عند بعض الأطراف، مثقفين وصحافيين وكتّابًا وعامة، مجرّد قتيل لا تستأهل أن يكون لك وسام الاستشهاد، فانبروا معلنين الحقد عليك وعلى ما تمثّله من خطّ مقاوم للاحتلال، لا يتعيّبون بما يخطّون فوق صفحاتهم من شعارات. لكنّ قامتك أعلى من صراخهم، ودماءك أكثر سطوعًا من يراعهم المشبوه.. وجسدك حدود وطن. ولم نبالغ حين نكرّر مع المتنبي بيته الشعري: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أيّ الجانبين تميلُ...