الشيخوخة التي بدأ يعاني منها الشعب الأميركي، لا تهدّد عدد العمال المطلوبين لإبقاء الاقتصاد يعمل في شكل منتظم فحسب، بل باتت تهدّد الأجيال المقبلة.
الشيخوخة التي بدأ يعاني منها الشعب الأميركي، لا تهدّد عدد العمال المطلوبين لإبقاء الاقتصاد يعمل في شكل منتظم فحسب، بل باتت تهدّد الأجيال المقبلة. وحدا هذا الوضع بعدد من مراكز البحوث إلى إصدار دراسات، تشير إلى قلق من ازدياد الإنفاق الحكومي على المتقاعدين، وتأثير ذلك في الاقتصاد عموماً وفي شرائح الشعب من غير المتقاعدين.
وتهدّد الزيادة في الإنفاق على المتقاعدين صناديق الرعاية والطبابة للمتقاعدين ومحدودي الدخل بالإفلاس مع حلول عام ٢٠٣٠. إذ تستهلك هذه الصناديق ٤٨ في المئة من الإنفاق السنوي للخزينة الأميركية، البالغ 3.5 تريليون دولار خلال العام الحالي.
ورجّح معظم مراكز البحوث، أن يرتفع الإنفاق على هذه الصناديق بسبب الزيادة غير المسبوقة في أعداد المتقاعدين في الدول الصناعية، التي عزاها الخبراء إلى «التحسّن الكبير في نوعية الرعاية الطبية، ما سمح برفع معدل الحياة. وبات المتقاعدون يمضون فترات أطول، وهم يتمتعون بتقديمات هذه الصناديق في شكل دفع عدداً من الخبراء والمسؤولين إلى اقتراح رفع سن التقاعد من 65 حالياً إلى 72 عاماً.
وفي حال إضافة كلفة الدَين العام الأميركي، التـــي تستهلك 6 في المئة من الإنفاق الإجمالي السنوي، يصبح الإنفاق الإجباري للحكومة الفـــيديرالية 54 في المئة في مقابل 17 في المئة مــــن الإنفــــاق غير الإلزامي على البرامج الأخرى، و١٧ في المئة مخصّصة للشؤون الدفاعية.
وتشير التوقعات إلى ارتفاع فاتورة صناديق الرعاية الاجتماعية إلى 56 في المئة بحلول عام 2025، تُضاف إليها الزيادة في كلفة خدمة الدَين لتبلغ 13 في المئة، ما يعني أن الحكومة الفيديرالية ستخصص 69 في المئة من إنفاقها السنوي للشقّ الإجباري، أي أنها ستكون قادرة على التحكم بـ31 في المئة فقط من إنفاقها الإجمالي السنوي، ما يخفّض الإنفاق الدفاعي إلى 12 في المئة، وإلى تقشّف في معظم البرامج الحكومية الأخرى.
ودقت غالبية الاقتصاديين الأميركيين ناقوس الخطر في هذا المجال، خصوصاً لجهة تآكل سيطاول الأبواب المخصصة للتنمية في الإنفاق الأميركي على البحوث العلمية والتعليم.وينصّ القانون الأميركي على مجانية التعليم لجميع المواطنين والمقيمين في الولايات المتحدة، في كل المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية.
وفي هذا السياق، كتب كبير الخبراء الاقتصاديين في «معهد بروكنغز» غاري برتلس، أن «السؤال الأساس لصنّاع السياسة مستقبلاً، هو ما إذا كان الارتفاع في الإنفاق على برامج المسنين سيعصر النفقات على برامج الأطفال، خصوصاً لناحية خفض الاستثمار في قطاع المدارس». ولفت إلى أن «المتشائمين يعتقدون أن هذه النتيجة حتمية، ما يدفعهم إلى حضّ الحكومة على تقليص التزامات الإنفاق على المسنين لإفساح المجال أمام الاستثمار في الشباب».
وأظهرت بيانات أصدرها «معهد اربان»، أن الإنفاق على الذين هم دون سن الـ18 في الولايات المتحدة، ارتفع من ٨ في المئة من الإجمالي السنوي عام ٢٠٠٠ إلى ١١ في المئة في عهد الرئيس باراك أوباما عام ٢٠١٠. لكــن مع سلسلة التقشف التي فرضها الكونغـرس على الحكومة الفيديرالية تحت طائلــة إجبار أميركا على التخلّف عن تسديد ديونها وإقفال الحكومة، خفّض أوباما الصرف على الأولاد إلى 10.2 في المئة.
لكن بيانات المعهد تظهر أن الإنفاق الأميركي المخصّص لمَن هم دون الثامنة عشرة سينخفض إلى 7.8 في المئة من الصرف الفيديرالي السنوي مع حلول عام ٢٠٢٤، بسبب الارتفاع المتوقع في الإنفاق الحكومي الإجباري لسدّ عجز صناديق الرعاية وخدمة الدَين العام، وهي نسبة مقلقة لأن القطاع التربوي لا يزال يعاني من ثغرات، حتى مع تخطّي الإنفاق نسبة 10 في المئة».
ويكمن أبرز الثغرات التي يشهدها هذا القطاع، في أن الحكومة لا تقدم تعليماً مجانياً في مرحلة الحضانة وما قبل المدرسة، على عكس معظم الدول الأوروبية، ما يلزم الأميركيين إما بإبقاء أولادهم في المنازل أو إرسالهم إلى حضانات خاصة بتكاليف باهظة.لهذا السبب، حاول أوباما توسيع التعليم المجاني ليشمل الحضانات والكليات التي تقدم شهادات «أي أي»، التي يمكن اكتسابها في سنتين وسط معارضة جمهورية قاسية.
واعتبر الخبراء أن من شأن الزيادة في الصرف على مَن هم دون الثامنة عشرة، إعطاء أهلهم مزيداً من الوقت للاستثمار في العمل وتالياً في رفع نسب نمو الناتج المحلي ورفد الحكومة الفيديرالية بنسب ضريبية أعلى. فيما الإنفاق على المسنّين لا يعود على الاقتصاد بفوائد شبيهة.
ويجمع الاقتصاديون أيضاً، على أن الإنفاق على الشباب خصوصاً في قطاع التربية، ينتج عائدات أكبر كثيراً منه على المسنين. لكن المشكلة تكمن في إمكان المسنين على عكس الأولاد، الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأميركية، ما يعطيهم قوة سياسية أكبر تجبر السياسيين على الانحياز إليهم على حساب الأولاد والشباب والتعليم.
ولأن السياسيين يتفاعلون وفق الكتل الناخبة، حذّر الاقتصاديون من مغبة السياسات الاقتصادية التي تأخذ في الاعتبار مصلحة فئات ناخبة، لكنها في الصورة الأكبر تؤذي الاقتصاد الأميركي وتهدّد مستقبل الولايات المتحدة.