من سجنه يجدد القنطار تحديد خندقه، يكتب لتنشر «السفير»، ويُكمل: «لنا جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والأخطل الصغير، ولهم السقوط من كل أحرف الأدب الإنساني.
ماذا لنا وماذا لهم؟ لنا الأرز والسنديان والزيتون والبرتقال، وهم لم يورثهم أجدادهم شجرة واحدة يتفيأون ظلالها... لنا صباح يبشرنا كل يوم أننا باقون على أرض جذورنا التاريخية، ولهم صباح يدعوهم كل يوم للرحيل عن أرض تأكل مُحتليها».
محمد طعيمة/ نُشرت في «العربي الناصري»، الأحد 16 يوليو/ تموز 2006
من سجنه يجدد القنطار تحديد خندقه، يكتب لتنشر «السفير»، ويُكمل: «لنا جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والأخطل الصغير، ولهم السقوط من كل أحرف الأدب الإنساني.
لنا فيروز وأسوارة العروس... لنا وديع الصافي و«نشيد» الله معك وعنزة بو طنوس... لنا مرسيل خليفة وأجمل الأمهات، ولهم قرع طبول العدوان والكراهية. لنا ملائكة الحرية... سناء محيدلي ولولا عبود وانعام حمزة، ولهم شياطين جرائمهم النكراء... غولدشتاين الذي قتل المصلين في الخليل ومالينكي الذي حصد المزارعين في كفرقاسم... وبيغن الذي ذبح المسالمين في دير ياسين.
27 عاماً – فقط – قضاها من 547 عاماً حكمت بها «عدالة» المشروع الغربي/ إسرائيل، والجريمة: عملية «القائد جمال عبدالناصر»، رداً على عار كامب ديفيد. لم يكن قد أكمل عامه الثامن عشر، ومر قبلها بتجربتي نضال، أولاهما المشاركة في التصدي للاجتياح الصهيوني للبنان والثانية عملية فدائية أجهضها (حسين) ملك الأردن، ليظل ثمانية أشهر- وهو لم يكمل السادسة عشرة - تحت تعذيب بشع استشهد فيه أحد رفاقه. ليُفرج عنه بضغوط جبهة التحرير الفلسطينية التي انضم اليها في الثالثة عشرة من عمره.
قبل 27 عاماً أسره مرتزقة الغرب، 22/4/1979، ليصبح، في ما بعد، يوماً للأسير العربي. عميد أسرانا. اسمه الحركي: نبيل أحمد قاسم. ولاسم فدائية القائد جمال عبدالناصر دلالته، وتميزها النوعي، اخترق الأبطال الأربعة حواجز: الاسطول الاميركي السادس وقواعد حرس الشواطئ الصهاينة والرادارات، فنهاريا حيث أكبر حامية عسكرية صهيونية والكلية الحربية ومقر الشرطة وخفر مدفعية السواحل وشبكة انذار بحرية ومقر الزوارق العسكرية.
انها نهاريا التي يقصفها حزب الله منذ بدأت الجولة الأخيرة. استبسل الابطال الاربعة داخل نهاريا رغم اشتباكات عنيفة مع وحدات كاملة من مرتزقة الغرب، لتنتهي العملية بستة قتلى بينهم عالم الذرة داني هاران واثنا عشرة جريحاً بينهم يوسيف تساحور قائد قطاع الساحل والجبهة الداخلية الشمالية في جيش الصهاينة، الذي صرح في ما بعد بأنه لن ينسى وجه «المخرب» الذي اصابه في صدره (سمير القنطار). استشهد من مجموعة «القائد جمال عبدالناصر» مهنا المؤيد وعبد المجيد أصلان وأُسر القنطار وزميله أحمد الأبرص الذي اطلق سراحه اثر عملية تبادل للأسرى عام 1985.
27 عاماً – فقط – قضاها القنطار أسيراً. بدأها وجسده ينزف من خمس رصاصات، إضافة لوحشية مرتزقة الغرب الذين انهالوا غيظاً على جسده النحيل ببنادقهم وأرجلهم، في المستشفى نسي أطباء المشروع الغربي أبسط قواعد مهنتهم. أعملوا مشارطهم في جسده من دون تخدير مُستخرجين أربع رصاصات تاركين الخامسة، وحينما طلب في ما بعد إحضار طبيب على نفقة اسرته لاستخراجها رفضوا قائلين: ستظل تذكرك بمن يلوث أيديه بدمائنا.
27 عاماً – فقط – قضاها القنطار أسيراً، وكما «الوعد الصادق» كانت عملية «القائد جمال عبدالناصر» تهدف لأسر عدد من مرتزقة الغرب لمبادلتهم بفدائيين أسرى. وقتها وحتى الآن وقف القنطار مع أمته في خندق يقف خارجه ملوك الأردن ومصر والسعودية والذراع السعودي في بيروت. خندق يؤمن بأنه «صراع وجود لا حدود»... وبأن «الأمة» تواجه مشروعاً غربياً لا يفهم غير لغة القوة. تتذكر «أجمل الامهات»: لم يكن مثل أقرانه... يختفي لأيام ويظهر فجأة، لم تكن تصرفاته توحي بأنه يختفي لأسباب مُشينة، صديق لأشقائه... خاصة الكبرى التي ماتت حزناً على التعذيب الذي تعرض له على أيدي المرتزقة، على دولاب ملابسه صورة له كتب عليها «الشهيد سمير القنطار»، رغم صغر سنه كان يفاجئها بالحديث عن رموز مثل سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي والشهيد كمال جنبلاط... و»ناصر».
مع 27 عاماً في الأسر ترسخت قناعات القنطار ذي الميول الشيوعية أكثر، بداية يكتب لأخته لميس عن «الانعزاليين الجبناء»... ثم لـ»السفير» عن «حرية ثورة دوبريانْسكي، التي أسمتها (ثورةَ الأرز اللبنانية) والتي واكبتها جمعية (روح أميركا) وستنهيها مصالح جمعية دفن الموتى من مقرها الدائم في البيت الأبيض». ولوليد جنبلاط محذراً من خطورة انقلابه على ثوابت والده الشهيد كمال جنبلاط، وبعده للأسير أحمد سعدات، عن أرواحهم التي «كانت تقاتل معك هناك في سجن الإمبريالية في أريحا. كم كان المشهد حزيناً ووقحاً واستفزازياً. آه ما أقسى الخيانة»... فـ»اليوم كتبت للمرة المليون ورقة نعي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف وكل أكاذيب الأمم المتحدة».
لنا سناء محيدلي ولولا عبود، ولهم شياطين جرائمهم النكراء
27 عاماً – فقط – قضاها القنطار أسيراً، وقبلها بـ 18 عاماً ولد سمير القنطار في قرية عبيه. لم يكمل تعليمه، ورغم يُسر حال أسرته انشغل منذ طفولته بـ»القضية»، وخلال عامين من انضمامه للجبهة أتقن كل أساليب حرب العصابات، ليحق له قيادة عملية «القائد جمال عبدالناصر» وهو برتبة ملازم وخلفه من هم أكبر منه بسنوات. 27 عام أسر قضاها مقاتلاً داخل سجنه. قراءات منوعة وتجربة عريضة يعترف معها: «كنت في الماضي لا أطيق من يخالفني الرأي، سياسياً، من الأسرى، واليوم أنا أكثر انفتاحاً وأصغي إلى الآخرين».
27 عاماً أكمل خلالها تعليماً لم يهتم به من قبل، أتقن العبرية ونال شهادة جامعية في العلوم الاجتماعية والإنسانية من جامعة تل أبيب المفتوحة عام 1997، معتمداً على أسلوب «التعلم عن بعد»، وهو يستعد اليوم لنيل الماجستير. تجربة عريضة لم يُلها الآسر عن «أخبار ومشاهد الهمجية الإسرائيلية بحق أطفال وشعب فلسطين». فقط تسقط دموعه كلما شاهد «أم فلسطينية استشهد ابنها، تقول إنها مستعدة للتضحية ببقية أبنائها من أجل فلسطين».
27 عاماً أسيراً يحلم خلالها «أن أسير تحت السماء دون أن تفصلني عنها قضبان الحديد. ينقصني أن أتمشى على الشاطئ وأطلق العنان لنظري دون أن تصده الجدران. ينقصني أن أفتح عيني صباحاً دون أن أجد السجان واقفاً أمامي يقوم بإحصاء الأسرى. ينقصني أن أنام ليلاً دون أن أسمع نباح كلاب الحراسة التي تحيط بالسجن. ينقصني أن أحلم مرة واحدة دون أن تتدخل مشاهد السجن في حلمي».
27 عاماً – فقط – قضاها أسيراً، متدثراً بـ»كنزة» نسجتها أصابع والدته «أجمل الأمهات» كما يصفها، التي رفضت رغم أوجاع قلبها أن يخرج «ابن عمرها» مكسوراً، تحلم باحتضانه لكن «لا اعتذار... لا أرضى إلا أن يخرج منتصراً. لا أرضى له الذل». فهي تدرك أن لابنها عشرات الأمهات هناك في الأرض المحتلة، أبرزهن أم جبر، والدة زعيم الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي ارتبط به القنطار في الأسر.
27 عاماً ذروتها الآن، مقاومة ذات توجه ديني/ قومي تتمسك بـ»الوعد الصادق» بفدائي أسر قبل 27 عاماً في عملية «القائد جمال عبدالناصر»... وأشجار أرز وبرتقال وزيتون وصوت مارسيل خليفة ونشيد «الله معك»... مفردات مشروع عربي نحلم به.