في لحظة مجون، منتصف مارس/آذار 2011، أوقف النظام التفكير، وأعمل آلة التدمير الواندالي المتوحّش. بالجرّافات والدبّابات دمّرت السلطة مساجد، حسينيات، مضائف، سيارات، وحتى مقابر..!
حصاد الخراب، هو العنوان الأقرب للتعبير عن حال البحرين بعد 5 سنوات من إمعان السلطة في الاضطهاد والاستبداد، والاستقواء بالخارج. لم يعد النظام يحس بأنه يحتاج أن يبرر، ومن يفقد الرغبة في التبرير، تزيد عنده الحاجة إلى التخريب والتدمير.
التدمير أو التخريب الهمجي Vandalism هو فعل غوغائي. أصل هذه المفردة في اللغة الإنجليزية هم شعوب الواندال Vandals، وهم إحدى القبائل الجرمانية التي عاشت في الأندلس (ومنهم أيضا اشتق اسمها الأصلي واندالوسيا). اقتحم الواندال مدينة روما (عاصمة الامبراطورية الرومانية) عام 455، وعاثوا فيها فسادا وخربوها تخريبا عظيما ولا سيما في الآثار الفنية والأدبية. منذ ذلك الوقت دخلت هذه المفردة إلى اللغة الإنجليزية، على يد شاعر إنجليزي معروف، وصار تركة هؤلاء التاريخية، أن يصبح اسمهم الدلالة اللغوية على التدمير أو التخريب الغوغائي.
في لحظة مجون، منتصف مارس/آذار 2011، أوقف النظام التفكير، وأعمل آلة التدمير الواندالي المتوحّش. بالجرّافات والدبّابات دمّرت السلطة مساجد، حسينيات، مضائف، سيارات، وحتى مقابر، وبالمدرعات وناقلات الجند حاصرت السلطات المستشفى الرئيسي، وأقامت ثكنة فيه، ونشرت فيه الرعب لأكثر من عام، وبالطبع... دمّرت السلطات أمام كاميرات التلفزيون، دوّار اللؤلؤة!
فجأة رأى النظام نفسه منبوذا أمام العالم، يخجل من صنائعه الحليف، ويمقته العالم الحر، ويعتبر أفعاله من عصور الجهل والظلام، بادر الملك فورا إلى كبس البلدوزر، على وقع كلمة "واندالية" أخيرة من قائد الجيش "إن عدتم عدنا".
من هناك، بدأ النظام يرجع للتفكير، والتخطيط، والاستراتيجيا، لكن ما لم يتغيّر هو الهدف: التدمير. وعلى مدى 5 سنوات، اشتغلت السياسة المتقلّبة، في أن تشتري الوقت، لأجل غلبة موهومة. هي ذات الغلبة التاريخية التي يظن آل خليفة أن أجدادهم حققوها في 1783.
كان يراد أن يقال إن التدمير قد توقف، لكنّه في الحقيقة استبدل بتدمير استراتيجي يتباطأ ساعة، ويتسارع أخرى، وهدفه الأخير هو الوصول إلى ذات الوضع في أيام الطوارئ، وذات الوضع في 1783: الإخضاع!
في 2015، لم يصرّح النظام بخروج ولا مسيرة واحدة، وأكمل اعتقال بقية قادة المعارضة والحقوقيين، الصحافيين والمصوّرين والرياضيين وحتى طلّاب الطب في الخارج، ومارس أكبر حملة نزع للجنسيات، وأنهى أي اتصال بالجمعيات السياسية، وبدلا من أن يبني الوحدات السكنية، صار يبني السجون.
دمّر النظام ساحات الاحتجاج العامة. لم يشهد أي يوم من أيام 2015 خبرا عن مسيرة مرخّصة، ولكنّ كل يوم فيه بلا استثناء، شهد أحكاما بالسجن على شبّان أو فتيان، بتهم سياسية، أكبر عدد من أحكام المؤبّد، وأكبر عدد من أحكام الأعدام، وتثبيتا لا طعن فيه لحكم إعدام واحد من قبل محكمة التمييز، لأوّل مرة!
دمّر النظام أيضا اقتصاد البلاد، ارتفع العجز في الموازنة العامة إلى حوالي 4 مليار دولار، ورفع سقف الدين العام إلى 26 مليار دولار، ورفع الدعم عن الكثير من السلع من أهمّها اللحم، وصار من الواجب سداد نفقات الدولة من جيوب الفقراء.
ودمّر النظام أيضا النسيج الاجتماعي. أغرق المجتمع في انقساماته العمودية (العرق، الطائفة) وصار يعيد إنتاج أزماته، والسلطة هكذا تعمل في الأزمات، تقضم من اللحمة الوطنية لتغذي جسدها الغرائزي المتوحش، تتخمه وتضخمه ليبدو مخيفاً. هكذا سرق الوحش الهويّة الوطنية التي تميّز بها جيل الخمسينات والسبعينات.
لم يعد هناك مجتمع بحريني ندافع عنه. هناك عائلة حاكمة مستبدة مستفردة بكل شيء ومجموعة من الموالين الطفيليين الذين يقتاتون على فضلاتها. ولا شيء معترف به غيرهما. ما بقي من سلافة المجتمع فهو في دائرة التهميش والتحقير والتخوين.
ضمن استراتيجيا التدمير، خرّب الملك في التاريخ، وخرّب الصحافة، وتويتر، والواتس أب، إلى أن يتعذّر تماما أن يستخدمها ضدّه أحد.
إبّان حكم الإقطاع والسّخرة في عهد الحاكم المخلوع عيسى بن علي آل خليفة 1869-1923، وأخيه خالد بن علي آل خليفة، أثبت السكّان الأصليون أنّهم عصيّون على التدمير. اليوم، يثبت المجتمع البحريني المعارض بكل أطيافه المندمجة أن نتيجة موجة التدمير الأخيرة هذه، ليس القضاء على الثورة، بل القضاء بشكل تدريجي على آخر خطوط الرجعة.
ساحات الثورة في 2015، هي ساحات مقاومة هذه الغوغاء، ومكافحة هذا الخراب.
حين تكون الساحات هي سجن جو، وهي مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وهي النشاط السرّي على شبكة الإنترنت، فإن ذلك لا يعنى سوى أن التعبئة السياسية هي في أوجها، حتى لو اضطرها التدمير إلى أن تختبئ، أو تتقيّد لبعض الوقت، أو تحوّل ساحاتها إلى أماكن أخرى، تظل فيها النار... تحت الرماد.
نقلا عن موقع "مرآة البحرين"