أعتقد أنّنا أمام نخبة راسفة في أمّيتها. جرفتها دوافع الاختلاف إلى العمى الأخلاقي والثقافي والتحول إلى بوق للدفاع عن أسوأ الأنظمة الملكية التكفيرية وأسوأ الخيارات السياسية، وانساقت مع مغريات السلطة والنفط والطائفية..
لم تمضِ ساعات على اغتيال عميد الأسرى المقاوم سمير القنطار حتى انهالت التعليقات، على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي عكس بعضها وجود خراب ذهني أكثر عمقاً مما كنّا نظن. نبّهنا البعض في كلماته إلى أننا كلبنانيين لا نواجه أزمة هويات شقيّة وممزقة فحسب، بل أزمة في التعبير عن المشاعر وتحريك الأفكار التي تدور في خُلدنا، وكأنّه تتعذر علينا إقامة علاقات متوازنة بين القناعات الخفية والقيم الجوهرية الثابتة في الأديان والمستقرة لدى الشعوب.
فأن يتحول الافتراق في السياسة إلى تغوّل وتطرّف وهذيان واستنتاجات أخلاقية ساذجة فهذا يعني أننا نفتقر إلى فن العيش، وهذا يعني أنّ المرض لم يفتك في سلامة بصيرتنا حيال السلطة والسياسات والخيارات فقط، بل أمسك بالحواس فشلّها وانسلّ إلى الخيال فشوّهه والنزعات فشيطنها، حتى بات أحدنا يسوّغ القتل أو القمع أو السبي أو الإبادة الجماعية... لا نسبياً بل بنحو مطلق وفي إطار المواجهة مع «الآخر».
هكذا تخرج الكلمات من صميمها إلى الفضاء الافتراضي انفعالات تائهة ثم تتحول إلى تصرفات شائنة تخلو من البطولة والشرف والمجد. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّنا نعيش في الوهم من أنّ الحاضر واضح والوقائع جلية أما الأخطاء فهي التي حصلت في الماضي حصراً، ويدلّ أيضاً على مشكلة كبيرة في الأخلاق، فهذا الذي يعيش ضمن جدران مجموعة من القيم الالتقاطية المهجّنة غب الطلب، والأهواء الشخصية، يتخطى الأسس والتقاليد الروحية الراسخة في تنظيم العلاقات بين البشر، مستهدفاً تمزيق كل صلة تربطه بالآخر، وكأنّ العيش لا يستقيم إلا عبر التخلّص من صيغة «الآخر» وعبر رؤية الأمور منفصلة والمسارات متباعدة.
فما جرى على ألسنة البعض بحق القنطار فجٌ شديد الإسفاف، يقفز خارج سياق النقد حتى لو كان لاذعاً، ويتجاوز حدود الحرمة حتى لو كان الميت عدواً. إذ يمكننا بسهولة ومن خلال متابعة التعليقات التي صدرت بُعيد إعلان اغتيال القنطار أن نعرف أنّ بيننا كلبنانيين فراغات هائلة تحجبنا عن إدراك الحكمة في اتخاذ المواقف والتعبير عن المشاعر والأفكار إزاء المشاكل والوقائع التي تواجهنا.
في حالات معينة يسيطر على البعض الجهل التام في مقاربة قضية من القضايا، وفي حالات أخرى لا يُرى من الحقائق إلا أجزاء محدودة منها، وفي الأعم الأغلب فإنّ طير العقلانية يبقى مستتراً إلا على من انخرط في نسق معرفي وقيمي يسمح بربط الأمور وتحليلها للوصول إلى نتائج واقعية ومعنوية. هنا لا بد من التساؤل بقوة حول الثقافة التي تصنع عالمنا الصغير وعلاقاتنا الاجتماعية. يجب أن نعرف في أي أجواء نعيش؟ وماذا نتعلم؟ ولماذا لدينا هذا العدد الهائل من اللغات الخاصة؟ لماذا نحن منغمسون في عصبيات لا يسعها سوى تعزيز الرؤى الآحادية المشوّهة البسيطة التي هي إحدى الحيل البارعة للنفس لتبرير ما يصدر عنها.
وأنا لن أحشد في هذه المقالة كل ما قيل وهذا غير ممكن، ولكن سآخذ كلمات بعض النخبة التي تمثل وجدانياً وفكرياً كل التعليقات الكريهة التي سيقت ضد القنطار ومن يتحالف معهم وبالأخص حزب الله. فمثلاً هشام ملحم يكتب: «سمير القنطار قاتل أطفال بالنسبة لي». فما الذي يجعل مثقفاً كهشام ملحم سجين «طوطم» المعايير الأميركية والإسرائيلية والسعودية؟ ما الذي يجعله يعدم وعيه التاريخي إلى هذا الحد ويقطع بأنّ ما يفعله سمير في سوريا هو ممارسة مهنة قتل الأطفال تحديداً؟ هل ما قاله هشام حقيقة علمية ثابتة أم خيال زائف استدعاه تحت وطأة إحساس حاد نزق وحقد مكتوم؟
أمّا مي شدياق التي تعيش تمزّقات نفسية مستدامة وأمراض عصبية قديمة، فيمكن القول إنها لا تنتمي إلى فصيلة الفكر وإنما إلى شكلانية خالصة. تمضي من زعيق إلى آخر لأنها لم تستطع أن تتخطى في احتجاجها على حزب الله حدود الضغينة والشحناء المستقرة داخلها. تقول: «حزب الله يُقحم لبنان في 2006 في حرب مع إسرائيل ليصبح سمير القنطار أسيراً محرراً، ثم يقحم نفسه في حرب سوريا في 2015 فيصبح مناضلاً شهيداً».
هكذا بكل بساطة تضع الشدياق الإطار التاريخي للصراع بين حزب الله والكيان الإسرائيلي، وخلفيات تدخل الحزب في سوريا ضمن معادلة بالغة السخف. أمّا علي الشيخ عمار القيادي في الجماعة الإسلامية ورئيس المنظمة اللبنانية للعدالة فينشر على صفحته التعليق التالي: «نرجو أنّ سمير القنطار الذي شارك في تدمير سوريا وذبح أطفالها وإحراق مساجدها... نرجو أنّ هذا المجرم قد قُتل على أيدي المسلمين المؤمنين المجاهدين المرابطين الصابرين المصابرين». وعمار الذي يكتظ صدره بالضغينة على حزب الله وإيران وسوريا هو حليف سابق لهم. قرر بعد «الربيع العربي الأشم» إخفاء ملامحه القديمة وتغليب النزعة الإنسانوية لديه على أطفال سوريا الذين يذبحهم «المجرم سمير القنطار».
فهل ما يقوله الأستاذ الجامعي هو من قبيل ما يجري على مسرح اللامعقول، أو من نوع التضليل الواعي، أو من طبيعة النشاط المتعالي الذي يتم في أفق من التجريد المحض بسبب فراغ داخلي أو إحباط إيديولوجي، أو بفعل مشكلة مبهمة تجعل النفس مرتعاً للخرائب والتفسّخ والأمال الضائعة. ما يقوله الرجل يحتاج حقاً إلى تفسير يربط بين أبعاد اضطراباته التي أوصلته إلى سلسلة من التخرصات والشعارات القشرية. فهو مصرّ منذ ترأسه منظمة العدالة هذه على ممارسة أسوأ أنواع التضليل عبر المنطلق المذهبي ولكن بشكل بائس وسطحي. ومع قراءته هذه السطور أتخيله يقول شيئاً أبعد مما قاله في علانيته يسفّه فيه كل من هو في محور القتل والإجرام من حزب الله إلى سوريا فإيران!.
إنّنا أمام نخبة جرفتها دوافع الاختلاف إلى العمى الأخلاقي
أعتقد أنّنا أمام نخبة راسفة في أمّيتها. نخبة تيبّست على قناعاتها. جرفتها دوافع الاختلاف إلى العمى الأخلاقي والثقافي والتحول إلى بوق للدفاع عن أسوأ الأنظمة الملكية التكفيرية وأسوأ الخيارات السياسية، وانساقت مع مغريات السلطة والنفط والطائفية إلى المواقف الإلهائية التضليلية التخديرية التافهة. في عام 2006 على سبيل المثال وخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان أدركنا حجم التناقض الذاتي لهذه النخبة ووظيفتها في أن تقودنا إلى شقاء يتغذى من ضعفنا واستسلامنا أمام العدو الإسرائيلي.
وجهت جام غضبها على حزب الله لأنّه فضح زيف شعاراتها وكذبها، فلم تكن مناداتها بالسيادة والاستقلال إلا تعمية لتمرير مشروع التبعية وتقسيم المنطقة تحت مسمى «الشرق الأوسط الجديد». هذه النخبة وصمت حزب الله خلال مقاومته العدوان الإسرائيلي بالجنون والعدمية ومنهم العميد المتقاعد وهبة قاطيشا الذي ردد كلاماً مماثلاً بعد اغتيال القنطار على قناة الجزيرة الفضائية قائلاً: «حزب الله يعرف أنّه في حال حصل رد كبير من جنوب لبنان يعني أنّه يفتح حرباً كحرب تموز لا قدرة على لبنان على تحمّلها ولا على الشعب اللبناني، والشعب لن يغفر له هذه الخطيئة التي هي شبيهة بخطيئة تموز».
أي أنّه يعرض لبنان إلى مخاطر لا قدرة على احتمالها فيما الواقع والحقيقة أنّ لبنان خرج من هذه الحرب أصلب عوداً وأقوى على مواجهة اعتداءات إسرائيلية مقبلة، أمّا الشعب الذي ثبت في أرضه وحمى المقاومة وتحمّل صواريخ الحقد الإسرائيلية وعذابات الجراح في أشدّ الظروف حِلكة هو الذي قال عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله «يا أشرف الناس وأطهر الناس». وعند اندلاع الحرب في سوريا أرادت هذه النخبة طريق النأي بالنفس، في الوقت الذي تتحرك فيه خرائط المنطقة وتتبدل المعالم الجيوسياسية الذي أصبح واضحاً أنّها تقود إلى نهايتنا، بينما نستطيع أن نحمي أنفسنا وبلدنا وتحصين صيغتنا التعايشية أحراراً مستقلين بعيداً عن الصراخ الأبح الذي لا يسمعه الكبار في العالم!.
المشكلة في هذه النخبة أنها لا ترى من البدائل المتوفرة لمجابهة التحديات التي يواجهها لبنان سوى بديلين لا غير: الانكفاء وعدم المبادرة إلى أي فعل، والاعتماد على قوى خارجية ولو من خلال علاقات التبعية معها. لكن هذه البدائل هروبية تكرس قيم اليأس والانهزام ولا تزوّد اللبنانيين بالوعي والثقة والاعتماد على الذات وتحمّل المسؤولية تجاه الأوضاع المضطربة، ثم إنّ المخاطر أكبر من الركون إلى بلادتنا القديمة وأعمق من الانجذاب السلبي نحو بلدان النفط أو البقاء في الفراغ بانتظار «أن يأتي غودو»!.
سمير كان يعلم أنّ التضليل سيبلغ مداه وأنّ كبار السحرة وصغارها سيحوّلونه إلى مجرم وقاتل أطفال، لكنّه لم يكن يبالي بصوت الطبول حيّاً كان أو شهيداً. واختار الساحة الأكثر تعقيداً والتباساً ليشهد لها بالمقاومة ولتشهد له بعشقه لفلسطين!.