قبل يومين من دخول الإتفاق النووي الإيراني مخاض العبور في الكونغرس الأميركي، كانت إطلالة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، كرَّر فيها توصيف أميركا بـ "الشيطان الأكبر"
أمين أبوراشد
قبل يومين من دخول الإتفاق النووي الإيراني مخاض العبور في الكونغرس الأميركي، كانت إطلالة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، كرَّر فيها توصيف أميركا بـ "الشيطان الأكبر" طالما أنها ما زالت تدعم الإحتلال الصهيوني في فلسطين.
وأُصِيب بعض المتابعين بالذهول وتساءلوا، كيف تُهاجم إيران أميركا في اللحظات المصيرية الحرجة، دون مبالاة بمصير اتفاقٍ يرفع عنها العقوبات الظالمة، فيما ذهب متابعون آخرون الى الثقة بأن إيران منتصرة، لأنه ممنوعٌ على الكونغرس رفض إتفاق يحفظ ماء الوجه لأميركا بعد فشل ترويض إيران بحصارٍ دام أكثر من عشر سنوات.
ومع إعلان رفع العقوبات الأميركية والغربية عن إيران منذ يومين، بعد تأكيدات موثَّقة من الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية تُثبت مصداقية وإلتزام إيران في تطبيق ما تعهَّدت به ضمن بنود الإتفاق، أعلن الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني أنها "صفحة ذهبية" في تاريخ بلاده، فيما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن أميركا نجحت في منع إيران من إنتاج قنبلة نووية، علماً بأن إيران وعلى مدى سنوات، كرَّرت عبر كبار قادتها، أن برنامجها النووي سلمي، والقنبلة النووية محرَّمٌ شرعاً إنتاجها في إيران لأنها تدخل ضمن تصنيف أسلحة الدمار الشامل التي تعرِّض حياة الأبرياء للخطر، والنصر الوحيد الذي حققته أميركا في هذا السياق، هو استغلال هلع بعض الدول الخليجية المرتعدة وإبرام صفقات من الأسلحة الدفاعية معها قاربت المئة وعشرين مليار دولار، لمواجهة قنبلة نووية غير موجودة سوى في كوابيس الحاقدين على إيران من أهل العروش في بعض هذه الدول منذ ما قبل النووي، وتحديداً منذ زلزل الشعب الإيراني عرش الشاهنشاهية الحليفة لبعض الممالك والإمارات العائلية عام 1979.
مشكلة أميركا مع إيران أن أميركا شاءت أم أبَت تحترم إيران، وتحترم النظام الثابت على الثوابت، والنظام الجمهوري المُنبثق من إرادة الشعب، والسُلطات المُنتخبة سواء كانت مؤسسة الرئاسة، أو البرلمان أو مجلس تشخيص مصلحة النظام، ولأن 37 عاماً من عمر الثورة الإيرانية، والبوصلة القيادية لم تَحِد قيد أُنملة عن السياسة العامة القائمة على إحقاق الحقّ لكافة المستضعفين في مواجهة الإستكبار، ورغم الحصار المُضني لسنواتٍ طوال، لم تستطع أميركا ترويض الثورة سياسياً، ولا منع النهضة التنموية الهائلة التي قدَّم فيها الشعب الإيراني أمثولة في الإكتفاء الذاتي والتطوُّر من الداخل لكل دول العالم.
وكائناً ما كان نهج الحكم في إيران على مستوى الرئاسة، فإن هذه الثوابت تبقى برعاية المؤسسة الأعلى التي تضبط إيقاعات الأداء، وسواء كانت الشخصية السياسية للرئيس، تجمع ما بين صبر "غاندي" وعناد "نلسون مانديلا" وهُمَا صِفَتان يصحُّ أن يُنعَت بهما الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أو كانت هذه الشخصية ممثَّلة بالهدوء الراقي الواثق للرئيس روحاني أو بديبلوماسية الإبتسامة الرقيقة المُرهفَة للوزير محمد جواد ظريف، فإن نظام الحُكم في إيران هو أنقى صورة عن ترجمة مبادىء الدين في إرساء قواعد إحتضان الشعوب وإدارة الدول، وتبقى إيران الخصم الواضح والصريح والجريء بالنسبة لأميركا، ولا يسري عليها ما هو سارٍ على بعض "الولايات الأميركية" خاصة الخليجية منها.
آخر أخبار إحدى "الولايات الأميركية الخليجية"، نقلاً عن معهد واشنطن لشؤون الخليج، أن الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، يُبدي رغبةً بالتنازل عن العرش لصالح نجله ولي ولي العهد الأمير محمد، ضمن خطة تقضي أيضاً بعزل ولي العهد ووزير الداخلية محمد بن نايف، والأسباب ليست مرتبطة بصحَّة الملك، بل تأتي ضمن محاولات عديدة لِنقل إرث العرش الملكي من العُرف الأفقي ـ وراثة ما بين الأشقاء أبناء عبد العزيزـ الى العُرف العامودي بتوريث الأبناء وقطع الطريق على الأجنحة العائلية الأخرى، وهي محاولات بدأها سعود بن عبد العزيز واستمرَّت مع شقيقيه فهد وعبدالله وفشلت جميعها نتيجة الصراع العائلي من جهة والخوف من انتقال العرش الى الجيل الثالث غير الموثوق بقدراته من جهة ثانية.
ورغم تفضيل أميركا لمحمد بن نايف كون والده الراحل كان من أبرز المحسوبين على أميركا، فإن الملك سلمان أرسل ولده محمد الى أميركا "لتسويقه" لديها قبل عزل الأمير مُقرن وحصول التعيينات الحالية.
ومن هنا، يجب على أي باحث في الشؤون الإقليمية، المُقارنة بين ثبات الأنظمة وبالتالي ثبات العلاقات الدولية، وبين أنظمة تعيش على مهزلة "مات الملك عاش الملك"، مع ما يُرافق تغيير الرؤوس من هشاشة في ضبط الأمور الداخلية، وفقدان الإيقاع المتوازن في العلاقات الدولية، وهذا ما تفتقده السعودية بشكلٍ خاص، ولا تستطيع في كافة الملفات أن تمارس دور الشرطي على إيران التي باتت دون منازع ودون أن تسعى، "شرطي الخليج".
وبين الشرطي السعودي الوكيل، والشرطي الإيراني الأصيل، كانت المواجهات السياسية في سائر الملفات الإقليمية، سواء في العراق أو سوريا أو البحرين أو اليمن، إضافة الى القضية الأم في فلسطين، وتمكنت إيران رغم مليارات اللوبي الصهيوني في أميركا، ومليارات النفط الخليجية، أن تنتصر دولياً وإقليمياً، فكانت الحرب النفطية الأخيرة التي أرادتها السعودية "قنبلة نووية" في مواجهة الإنتصارات الإيرانية، وتبيَّن أنها قنبلة فارغة وليست أكثر من فقَّاعة صابون أمام تدفُّق الإستثمارات الهائلة على إيران ما بعد رفع العقوبات خاصة في مجال النفط.
...
وأمام ما يحصل في الداخل السعودي من نزاعات "إرثية" تَهِزّ العرش، والإحباطات على مستوى السياسات الخارجية والحرب على الآخرين عبر الإرهاب، ارتدَّ سلاح الحرب بالنفط الى النحر السعودي، بتحذيراتٍ من صندوق النقد الدولي بعد سحب السعودية مبلغ مئة مليار دولار من إحتياطها النقدي لتغطية عجز موازنتها الذي قارب خمس هذه الموازنة، وأكَّد الصندوق على حتمية إفلاس السعودية بعد خمس سنوات، إذا لم تتدارك إقتصادها وتبتدع البدائل التي تعوَّض الإنهيار في أسعار النفط التي قد تستمر منخفضة للعامين المقبلين على الأقل، لأن التأثيرات السلبية لا ترتبط فقط بكلفة إنتاج وسعر مبيع برميل النفط، بل بالناتج العام من العائدات قياساً لحجم الموازنة العامة للدولة المُنتجة، وهذا ما أدَّى الى هزيمة السعودية أمام إيران في الملف النفطي.
ليس هناك فارقٌ كبير بين كلفة إنتاج برميل النفط في السعودية (9.90 دولار) وإيران (12.6 دولار)، والسعودية وإيران ليستَا ضمن الدول التي تبيع البرميل بأقل من كلفة إنتاجه حالياً، كما هو حاصل لدى ثماني دول تبيع بأقل من سعر الكلفة متى تدنَّى السعر عن الثلاثين دولاراً، وتأتي بريطانيا وكندا والولايات المتحدة في طليعة هذه الدول التي تتراوح كلفة إنتاج البرميل فيها ما بين (52.5 دولار في بريطانيا ) و (41.10 دولار في كندا) و( 36.30 دولار في الولايات المتحدة)، لكن مشكلة السعودية وفق تقارير صندوق النقد الدولي أنها لو باعت برميل النفط بأقل من(110.60 دولار) فهي خاسرة قياساً الى الحجم الهائل لموازنتها السنوية البالغة خمسمئة مليار دولار، في حين أن إيران من دون النفط ووسط الحصار، قاومت عشر سنوات وابتدعت البدائل وطوَّرت نفسها حتى بلغت إنتاج الطاقة النووية ذاتياً.
هذا هو حجم إيران وحجم السعودية بالوقائع والأرقام، وهذا واقع الصراع الإقليمي اليوم، والذي تراه أميركا أوضح من الآخرين: نظامٌ شعبيٌ ديموقرطيٌ ثابتٌ واثقٌ في إيران، يتمتع بقدرات الإكتفاء الذاتي وهو بغنى عن الآخرين سواء أبرموا معه إتفاقاً أو أبرموا عنه، ونظامٌ عائليٌ فضفاض فشِل في بناء دولةٍ عصرية على كافة المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، يبحث عن أعراف التوريث لدوام عرشٍ زائل سواء كان هذا التوريث أفقياً أو عامودياً...