يعود الكاتب إلى «العولمة» التي ستعترض طريق «الإقليم»؛ متناولاً فشل بعض تجارب «الممانعة» في محاربتها على الصعيد الفكري للعلوم الاجتماعية والاقتصادية والتنموية (كونها لم تقدّم بديلاً جيداً)؛ مقابل نجاحها على الصعيد «العسك
لا ينفك «الكونفدرالية المشرقية» (دار بيسان) للباحث والكاتب أنيس النقّاش يقارب إحدى أهم المسائل في الشرق الأوسط: تفسير أرضية الصراع الخصبة. يشرح النقاش في تمهيد الكتاب الأسباب التي تجعل «الكونفدرالية المشرقية» «استراتيجية بنّاءة معاكسة لاستراتيجية الفوضى الخلاّقة التي تنفذها أميركا وأعوانها في المنطقة»، مستذكراً لقاءً جمعه بالصحافي الراحل جوزيف سماحة.
أعطاه الأخير دراسةً بعنوان Constructive Instability للباحث روبرت ساتلوف، تتحدث عن تأثير لبنان على مجمل الدول حوله (الوجود الفلسطيني، مجتمع المقاومة، الانتخابات، الوجود السوري والعلاقة مع سوريا)؛ مؤكداً أنّ هذه الدراسة كانت لها الفضل في إتيانه بفكرة «الكونفدرالية» كردٍ بشكلٍ عام.
عبد الرحمن جاسم/ جريدة الأخبار
الكتاب المقسم على أربعة فصول، يبدأ من «صراع الاستراتيجيات» حيث بتنا اليوم أمام سقوطٍ للقومية كفكرةٍ وهوية «جامعة» وأمام حروب التناقضات الثانوية بين مكونات الشعوب العربية (والمشرقية ضمناً). يرى النقاش أنّ «وحده المشروع السياسي البديل، الواضح المعالم (...) كفيل بالتصدي للدوامة التي وضع في أتونها إقليمنا وأوطاننا وشعوبنا».
ويكمل أن المشروع يجب أن يتصدى للكيان الصهيوني، وأن ينتقل سكان «بلاد الشام» من التنسيق البسيط إلى «المأسسة الجامعة كي لا يبقى مجال للاختراق السياسي»؛ مصراً على أنَّ المعركة في سوريا اليوم لن تنتهي إلا «على جبهة الجولان وموطن التحدي في المعركة الكبرى مع العدو الصهيوني». يستشعر الكاتب بأنَّ الاتفاق والوحدة سيقودان إلى تقليل الفروقات بين «الأفراد/الفئات/الجماعات»، وسيقضيان على الأفكار الانفصالية. ويتناول الدور التركي، لا لأنّه يؤثر على المنطقة فحسب بل على العالم بأسره. كانت علاقات تركيا بـ «الوسط العربي» «وردية» في بداياتها.
مثلاً، يذكر الكتاب بمشروع «شامغين» التركي الذي أعفى ضمن اتفاقيات عدة في الأعوام 2007 حتى 2009 أربعة بلدانٍ من تأشيرات الدخول بين بعضها وهي تركيا، سوريا، الأردن، ولبنان، فضلاً عن امتيازاتٍ تجارية واقتصادية. لكن هذه العلاقات سرعان ما اتخذت منحى آخر مع اهتمام تركيا بالعمق الاستراتيجي (عنوان كتاب شهير لوزير الخارجية التركي داوود أوغلو) الذي يعيدها إلى «تسيّد» المنطقة، لا إلى «محالفة» أهلها. ومع أنَّ خطة أوغلو هي «التمدد الناعم» و«صفر مشاكل»، إلا أنَّ تسارع المجريات في الداخل السوري والمنطقة، دفع الأتراك إلى تغيير السلوك، واتباع براغماتيةٍ شديدة.
ضرورة «صياغة وعي جمعي» في الإقليم
يبدأ الفصل الثاني «الإقليم وصراعاته» من حيث انتهى سابقه. إنه الأقليم الذي «قُسِّم» في سايكس بيكو ورسمت دولٌ «مركّبة» و«مصطنعة» مكانه؛ شارحاً كيفية تأسيس الدول العربية المعروفة حالياً، بادئاً بلبنان، مروراً بسوريا، العراق، الأردن، إلى تركيا وصولاً إلى إيران. يتناول مرحلة التحرر الوطني في الدول العربية التي أفضت إلى الاستقلال، لكنه يتعدى ذلك للحديث عن غالبية الحروب العربية مع الكيان العبري، وصولاً إلى انتصار المقاومة في لبنان عام 2000، وكيف أنَّ هذا الانتصار فجّر انتفاضةً مسلحة في فلسطين.
يتطرق بعد ذلك إلى «الأمن الإقليمي والأمن القومي العربي» وكيف أنّهما بدآ يتأرجحان بين نظريتين، واحدة تريد الانصياع أمام الغربي، والثانية تريد «المقاومة». ولأن ما عرف «زوراً» (بحسب الكتاب) بـ «الربيع العربي» ليس أكثر من «خريف العرب»، يؤكد الباحث أن نتائجه أبعد ما تكون عن الأحلام الجميلة: سقطت مصر مع سقوط نظام الإخوان، وتونس في الصراع المحتدم بين العلمانيين والإسلاميين، وليبيا مع انكشاف عيوب المجتمعات القبلية والجهوية. يركز الكاتب كيف أن «وجود» هذه الدول/الإمارات/الممالك «يصب في مصلحة القوى الغربية» المستعمرة.
يبدأ الفصل الثالث بطرح الحلول للمشكلات التي أوردها الفصلان السابقان من خلال عنوانه: «الطريق إلى الكونفدرالية المشرقية». تأتي «صياغة وعي جمعي» في الإقليم لمفهوم الهوية الجامعة، والتعاون/ التضامن بين شعوبه أساساً لأي حراك من أي نوع. هذه الهويّة تبدو صعبةً التحقق راهناً إذا نظرنا إلى المشكلات التي طرحت في الفصلين السابقين، إلا أنَّ العمل عليها أساسي وملح طارحاً استراتيجيات للعمل. تتمثل هذه الاستراتيجيات بـ «استراتيجية بلاد الشام» من خلال تشكيل «جبهة بلاد الشام، لتحرير فلسطين والإقليم من هيمنة العدو الصهيوني» (تضم قوى المقاومة في بلاد الشام).
الاستراتيجية الثانية تتمحور في خلق «هوية ووعي جمعي» لأنّها «المؤسس الأول لحركة الإنسان كفرد وكمجموعة» طارحاً اشكاليات العرقية، الإثنية، الطائفية، الدين، القطرية، مؤكداً أن الهوية «الوطنية الواعية للأهداف القومية والتقدمية هي وعي يختلف عن الوعي الموروث للهوية القائمة على النوستالجيا»؛ فالمطلوب هو «التوحد حول أهداف وعمل ونشاط مستقبلي».
يعود الكاتب إلى «العولمة» التي ستعترض طريق «الإقليم»؛ متناولاً فشل بعض تجارب «الممانعة» في محاربتها على الصعيد الفكري للعلوم الاجتماعية والاقتصادية والتنموية (كونها لم تقدّم بديلاً جيداً)؛ مقابل نجاحها على الصعيد «العسكري» في ذلك. يقدّم طروحاتٍ «عمليةٍ تطبيقية» لكيفية تطبيق «المشروع الحلم». اجمالاً؛ يبدو الكتاب على أنه مشروع النقّاش الفكري والحياتي، ونظرته إلى «المشرق» كما يتمنى أن يراه.