ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة،
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: لا يزال المشهد الدّامي في المنطقة العربيّة والإسلاميّة يتفاقم؛ من سوريا إلى مصر إلى اليمن وليبيا والبحرين، وإلى ما هو أبعد من ذلك في الجغرافيا وفي الفضاء السياسيّ العام، من دون أيِّ مبادرةٍ جادّةٍ لإيقاف هذا النَّزيف واستبداله بحوار موضوعي وجاد يراعي مصالح الشعوب وتطلعاتها، ومتطلبات الاستقرار وضروراته، بل على العكس من ذلك، هناك من يرعى نزيف الدّم هذا، ويعمل على تغذيته، لتدخل المنطقة في أتون حروبٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ وقبليّة لا تبقي ولا تذر...
أمَّا الجامعة العربيَّة، الّتي فشلت في إيجاد حلولٍ للأزمات والمشاكل العربيَّة؛ من العراق، إلى السّودان وليبيا والصّومال ولبنان وفلسطين والبحرين، وفي تأدية دورها كضامنٍ لوحدة البلاد العربيَّة وتعزيز أواصر التّواصل بينها لمواجهة التحدّيات الكبيرة التي تواجهها الأمة العربية، فهي كانت غائبة أو مغيّبة، أو صدى لأدوار الآخرين الذين يدفعون حركتها عندما يريدون لها ذلك...
فهي لم تستطع أن تقوم بدورها المطلوب في سوريا فاكتفت بأن تلوّح بالعصا الغليظة التي تتمثل بالعقوبات الاقتصادية والسياسية، من دون أن تقوم بالعمل الجدّيّ المطلوب منها لجمع كلِّ الأطراف فيها، وتأمين سبل الحوار بين كافة المواقع السياسية وأطياف المجتمع، ونحن نعتقد أنها قادرة على ذلك لو أرادت، أما ما قامت به فيظهر وكأنَّ دورها هو تأمين سبُل الوصول إلى فشل الحلّ العربي والإعلان عن عدم قدرته، حتَّى يتهيّأ الدَّور ليكون الحلّ الدّوليّ على طبقٍ من فضّة لتسهيل الطريق أمام الحل الدولي بطلب عربي..
إنَّنا نعيد التّأكيد على الجامعة العربيَّة، أن تؤدي دورها في هذه المرحلة كعاملة في سبيل تعزيز الواقع العربي وإبقاء مواقع القوة فيه، لا أن تساهم في إضعاف هذه المواقع، وأن تخرج من كلِّ حساباتها الضيِّقة وحساسيَّاتها المصطنعة، لتساهم في إعادة الاعتبار إلى العالم العربيّ، ومنع وصوله إلى حال الفوضى الّتي يُراد له أن يغرق فيها، وتعمل بكل جهد على تعميق لغة الحوار بين الحكّام والشّعوب وبين الشّعوب أنفسهم، سواء في البلدان الّتي يحصل فيها الحراك الشّعبيّ، أو التي لم يحصل فيها حتى الآن، لتفادي السلبيات التي قد تحدث من وراء أي حراك رغم معرفتنا بأهميته وأهمية نتائجه إذا توافرت له القيادة الحكيمة الواعية غير المرتهنة لإملاءات الآخرين..
أمَّا الإدارة الأمريكيَّة الّتي تبعث بالرَّسائل من بعيد، فهي لا تزال تلوّح بورقة الحرب الأهليّة، بعدما بعثت بنصائح سابقة حول ضرورة عدم إلقاء السّلاح، وكأنّها بذلك تريد للمشهد الدامي في سوريا، أن يؤسّس لمشاهد مماثلة في المحيط، لتدخل المنطقة كلّها في حال الفوضى واللاتوازن في مدىً زمنيّ لا يعلم إلا الله نهايته...
إنّنا نخشى من أن تكون اللّعبة الغربيّة قد اتّخذت قراراً حاسماً في هذا المجال، لتدفع المنطقة العربيّة والإسلاميّة مجدّداً فاتورة الأزمة الاقتصاديّة المتصاعدة في بلاد الغرب، وليكون مشهد الصّراعات والانقسامات والنزاعات المتنقّلة في بلداننا العربيّة أفضل معينٍ لكيان العدوّ، الّذي بدأ مسؤولوه يتحدّثون عن زوال هذا النّظام أو ذاك، وكأنّهم هم من رسم خطوط هذه المرحلة وخطَّطوا لها...
ونصل إلى مصر، لنشهد مزيداً من نزف الدِّماء الّذي اعتقدنا أنّه قد توقّف، وأنّ العمل سيتَّجه للنّهوض بالواقع المصريّ الاجتماعي الاقتصاديّ وتحديد خياراته، وأنَّ الأسلوب القمعيّ الوحشيّ لم يعد هو أسلوب تعامل الّذين يملكون أمر النّظام..
ولكنَّنا رأينا أنَّ الصّورة الّتي كنَّا نشهدها في ظلِّ النّظام السّابق تتكرَّر، وأنّ ضيق الصَّدر من الصَّوت الهادر لهذا الشَّعب لا يزال على حاله، وأنَّ الأسلوب هو الأسلوب نفسه، وأنَّ السَّاحة عادت لتعاني مجدَّداً، وكأنَّه يراد لمصر؛ هذا الخزَّان البشريّ والعلميّ والحيويّ، أن تبقى في حال اهتزاز وتدخل في دائرة الفوضى.. لذلك نؤكِّد على الشَّعب، أن يكون واعياً للّذين قد يدخلون على ساحة تحرّكه لإرباك واقع مصر وإضعافها.. كذلك على من تسلّم زمام الأمر في مصر بعد سقوط النّظام، أن يسارع إلى نقل السّلطة إلى هيئةٍ مدنيّةٍ تحرص على إجراء الانتخابات بنزاهة، وتعمل على نقل مصر إلى مرحلة الحياة الحقيقيّة الّتي يعيش فيها الشّعب بحريّة وكرامة، وتستعيد فيها الأمَّة حيويَّتها وأصالتها وعنفوانها، من خلال عودة الرّوح والحياة إلى الدّور المصريّ الرّائد على المستويات العربيّة والإسلاميّة والأفريقيّة وخصوصاً القضية الفلسطينية.
إنّنا نريد لمصر، من خلال شبابها الواعي المضحّي، والّذي سالت دماؤه بالأمس القريب على مذبح الحريّة والعزّة، أن تعود إلى ريادتها وقوّتها ومنعتها، وأن تنطلق في نطاق وحدةٍ وطنيّةٍ متماسكة، بعيداً عن كلِّ الحساسيَّات الطائفيَّة، لتقوى الأمَّة بها، وتقوى بها قضاياها المحقَّة، وعلى رأسها القضيَّة الفلسطينيَّة الّتي يُراد نسيانها أو تناسيها من قِبَل الكثيرين الّذين هم على رأس الهرم في الدّول العربيّة والإسلاميّة..
ونحن في الوقت الّذي نستشعر الخوف على فلسطين الأرض والقضيَّة، في ظلِّ تعمّد نسيانها على المستوى العربيّ الرّسميّ، وخصوصاً في هذه المرحلة، وفي ظلّ الاستباحة الصّهيونيَّة المستمرّة للأقصى الشَّريف والقدس، بالعدوان اليوميّ عليهما، وبالمزيد من عمليّات الاستيطان الّتي تطاول الضفّة الغربيّة كلّها، نشعر بالارتياح إزاء الاتّفاق المبدئيّ بين السّلطة الفلسطينيّة وحركة حماس، للتّأسيس لمصالحةٍ تاريخيّةٍ تعزّز وحدة الشّعب الفلسطينيّ، وتقوّي مناعته الدّاخليّة، وتعطيه المزيد من الفرص للصّمود في مواجهة العدوّ، ونقل قضيَّته إلى أعلى المستويات، وجعلها في دائرة الضَّوء عربيّاً وإسلاميّاً ودوليّاً...
إنّنا نتطلّع إلى وحدة فلسطينيّة حقيقيّة، تنطلق من خلال مصالحةٍ كبرى يشترك فيها الجميع للعمل من أجل القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني وجهاده في مواجهة عدوه، لتمنح الفلسطينيّين قوّةً مضاعفة، لأنّ أيّة قوّة على المستوى الفلسطينيّ، من شأنها إعادة التّوازن إلى الواقع العربيّ والإسلاميّ برمّته..
ونصل إلى البحرين، لنرحّب بتعيين لجنة تحقيق، وباعتراف السّلطات في البحرين بحصول تجاوزات حيال المتظاهرين سلمياً، ونرى في ذلك خطوةً يمكن التأسيس عليها، لأنّ أوّل العلاج هو الاعتراف بالخطأ.. على أن يتمّ بعد ذلك تحقيق مطالب الشعب في العدالة وتأمين متطلبات العيش الكريم، فلا تبقى هذه الخطوة معزولة عما يمكن أن يعقبها من خطوات إصلاحيّة حقيقيّة تعالج أساس المشكلة من جذورها، وتنهج منهجاً يعتمد الاستماع إلى هواجس المواطنين لا قمعهم، وفهم هواجسهم، لأنّ مسؤوليّة الحاكم أن يصغي إلى آلام شعبه وهمومه وتطلّعاته..
أما لبنان، فإننا نريد لكلّ الّذين يتحرّكون في مواقع المسؤوليّة، أن يعوا حاجة هذا الشّعب إلى الاستقرار، وأن لا يبقى متوتّراً أمام هواجس المهرجانات والمواقف الانفعاليّة والتّصريحات المتسرّعة الّتي تنطلق هنا وهناك، وأن يعوا خطورة هذه المرحلة فلا ينطلقوا بمواقفهم على أساس مراعاة مواقعهم السياسية، بل أن يدرسوا مصلحة البلد في حاضره ومستقبله..
أيّها المسؤولون، حدّقوا بالشّعب وبقضاياه، أشعروه بأنّكم تفكّرون من أجله، وأنّكم تتطلّعون إلى مستقبلٍ أفضل له، لا أنّكم صدى للآخرين، أو أنّكم تعملون لإثارة العصبيّات الطّائفيّة والمذهبيّة وغير ذلك.. فقد اكتوى اللّبنانيّون بنار العصبيّة والمذهبيّة والعشائريّة، وهم بأمسّ الحاجة إلى حماية وحدتهم الوطنيّة والإسلاميّة أمام العواصف الّتي تهبّ عليهم من المنطقة والعالم...