الحديث عن الشهيد القائد عماد مغنية هو حديث عن رجل استثنائي بكلّ معنى الكلمة. وعندما أتحدث عنه، لا أفعل ذلك كمحلّل ومراقب عن بعد
رمضان عبدالله شلّح*
الحديث عن الشهيد القائد عماد مغنية هو حديث عن رجل استثنائي بكلّ معنى الكلمة. وعندما أتحدث عنه، لا أفعل ذلك كمحلّل ومراقب عن بعد، بل أتحدّث عن أخ وصديق عزيز، وعن إنسان متميّز عرفته عن قرب لسنوات طويلة من العلاقة الحميمة والوثيقة والحافلة بالعطاء والتكاتف في ساحات النضال ضد العدو الصهيوني، سواء تعلّق الأمر بفلسطين، أو بكل مجرى الصراع مع العدو.
عندما اختار النظام العربي طريق التسوية، وقرّر أن لا طاقة للعرب بقتال إسرائيل، حدث فراغ كبير في المنطقة وفي مجرى الصراع الاستراتيجي والتاريخي والوجودي مع العدو الصهيوني. لم يكن أحد يتصوّر بأن المقاومة يمكن أن تملأ فراغاً بهذا الحجم. الحاج عماد وإخوانه، ومشروع المقاومة الذي كانوا فيه، استطاعوا أن يملأوا هذا الفراغ بجدارة، لماذا؟ المسألة ليست مسألة إمكانات وتدريب وتسليح، بل مسألة القناعة والرؤية التي يملكها المشروع. الحاج عماد أدرك بأن النظام العربي عندما خرج من الصراع، سوّغ هذا الخروج باختلال موازين القوى. أما هو فكان من القلائل الذين يؤمنون بأن الصراع مع العدو ليس مرتبطاً بميزان القوة، وان الأساس فيه هو وجود حق مغتصَب ووجود غاصِب. هكذا ترجم موقفه عملياً: نحن الذين نصنع الميزان، ونعدّله ولا نخرج بسبب اختلاله.
صانع الانتصارات
الحاج عماد ممن أسهموا في إسقاط ثقافة الهزيمة في هذه الأمة. عندما يقال «ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات»، فالحاج عماد كان صانعاً لهذه الانتصارات ميدانياً، وكان مجهّزاً ومحضّراً، وممن شاركوا بقوة، هو وإخوانه في المقاومة، لتكون هذه المعادلة حقيقة. ذروة المشروع الصهيوني في المنطقة كانت انتصاره عام 67، ومن هناك كانت فكرة أن إسرائيل أقوى من الجميع وأنها تملك الجيش الذي لا يقهر. عندما تحقق انتصار 2000 في لبنان، ورأينا الجيش الذي لا يقهر يفرّ كالفئران المذعورة أمام رجال عماد مغنية، أدركنا أن زمناً جديداً قد بدأ في هذه المنطقة.
وعندما بدأت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، وكان انتصار 2000 في قمة ألقه، أطلق شارون عبارته الشهيرة في تاريخ الصراع: «هذا يؤكد أن شرارة حرب 1948 لم تنته بعد». كل التسويات التي وقعوها كان هدفها وأد القضية الفلسطينية، ليخرج شارون تحت وقع انتصار عماد مغنية وإخوانه في المقاومة عام 2000، وانطلاق شرارة الانتفاضة، ويقول: عدنا إلى بدايات الصراع. كان الصراع يبدأ مجدداً في المنطقة، لكن على أسس وقواعد جديدة، كتبها عماد وإخوانه في فلسطين ولبنان. إذاً فعلاً عماد مغنية كان في هذه المعاني صانعاً لتاريخ جديد ولعطاء من نوع آخر.
وهذا يقودنا إلى الجزء الأهم من شخصية عماد مغنية، وهو موضوع فلسطين. قضيته مع فلسطين ليست قصة شخص خارج من الساحة الفلسطينية إلى هذه الأمة ليمدّ يد العون إلى شعب مظلوم، يذبح على يد عدو جبار. نحن نتكلم عن شخص، كانت فلسطين له شهيقه وزفيره، فلسطين وهوية وانتماء. قلنا عندما استشهد انه كان فلسطينياً حتى النخاع، وأكثر من أي فلسطيني. لماذا؟ كلنا نعلم أن النظام العربي عندما خرج من الصراع، وجاؤوا بتسوية أوسلو وقبلها مدريد، بُذل كل جهد في الإعلام والتعبئة والتزوير لاحداث انفصال بين شعوب الأمة والقضية الفلسطينية، وللقول لهذه الشعوب: لم يعد لكم أي صلة بقضية فلسطين التي كانت قضية العرب، وبعد التسوية صارت قضية الفلسطينيين وحدهم. وجاء اتفاق أوسلو وجعل القضية قضية غزة والضفة، وإذا دخلت إلى الضفة وغزة ستجد القضية مقسّمة. أمام هذه المعادلة، لو أتيت بأي شخص حرّ في العالم، وليس عماد مغنية الفلسطيني حتى النخاع، فلا بد من أن يثور عليها، وفعلاً ثار عماد مغنية وإخوانه على هذه المعادلة ولم يستسلموا. دخل عماد إلى حلبة المقاومة في لبنان وفلسطين، وأعاد الاعتبار إلى قضية فلسطين كقضية عربية وإسلامية.
منظومة الردع
عندما اندلعت الانتفاضة، كان للشهيد دور كبير في مدّ المقاومة الفلسطينية بالسلاح والخبرة والمعلومات. كان أول من فكّر ونفّذ فكرة إدخال السلاح من خارج فلسطين إلى داخل قطاع غزة. بدأت القصة كتجربة، بإرسال أسلحة خفيفة، ثم تطوّر الأمر لاحقاً إلى إرسال صواريخ بمدى بعيد، واستمرّ إرسال الأسلحة حتى بعد استشهاد الحاج عماد الذي لم يكن يرى في المقاومة الفلسطينية منافساً، بل شريكاً يتكامل معه، وكانت علاقته بالجميع أقوى من علاقة الأطراف الفلسطينية مع بعضها.
النموذج الذي قدّمه الشهيد القائد في علاقته بالمقاومة الفلسطينية غير مسبوق في تاريخ المنطقة. فقد سعى بكل ما يملك لنقل تجربة المقاومة، مع مراعاة خصوصية كل ساحة. كانت هناك فكرة ذات بعد استراتيجي في النظر إلى كيفية التعاطي مع العدو، وكيفية الصراع معه في هذه المرحلة. الفكرة هي بناء منظومة ردع: عندما تقرّر أن تضربني، لن أسمح لك أن تفعل وكأنك خارج في نزهة. وعبّرت المقاومة عن هذه النظرية بقوة في خطابات قائد المقاومة السيد حسن نصر الله. رست هذه المعادلة اليوم، وأصبحت واضحة للجميع، كما العدو، ويفهمها كل من يدرك أو يفهم الاستراتيجيات العسكرية والحروب. هذه المعادلة تكرّرت معنا في قطاع غزة.
منذ انسحاب العدو الإسرائيلي من القطاع عام 2005، وتفكيك المستوطنات، بدأنا ببناء منظومة ردع متواضعة وفق الإمكانات. وهنا برز جهد الحاج عماد في نقل التجربة والخبرة، والتأكيد على حاجة قطاع غزة إلى خطة دفاعية، وان تخرج مقاومته من دائرة العبوة والكلاشنيكوف. كان يجب أن نبني منظومة ردع يشعر العدو الإسرائيلي بعدها أنه لن يذهب في احتلال غزة في نزهة مجانية. بنينا منظومة اختبرت في بدايتها عام 2008 و2009، ثم أعاد العدو الكرّة بعد اغتيال الشهيد احمد الجعبري (في تشرين الثاني 2012). وكانت حرب الثمانية أيام التي خاضتها المقاومة، وعلى رأسها كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس. كان هذا الاختبار الثاني للمنظومة التي بنتها المقاومة في قطاع غزة، بالتعاون والتنسيق ونقل التجربة والخبرة من الإخوان في حزب الله وبمساعدة الجمهورية الإسلامية، وأنا لا أذيع سراً.
في هذه الحرب، رأينا نتيجة هذه الفكرة. فلنلاحظ الفارق بين نتيجة حرب 67، التي سماها العدو الصهيوني حرب الأيام الستة، أمام الجيوش العربية، وبين حرب المقاومة في قطاع غزة، والتي نسميها حرب الأيام الثمانية. ماذا كانت النتيجة؟ ماذا فعلت المقاومة الفلسطينية بإمكاناتها المحدودة بالعدو؟ أولا استطاعت أن تضرب عمق هذا الكيان. لأول مرة في تاريخ الصراع ضربت تل أبيب بهذا الوضوح وبهذه القوة.
وهنا اذكر بأن بصمات الحاج عماد كانت موجودة في إنجاز معركة غزة الأخيرة وقصف تل أبيب، وموجودة في الأداء الذي تميّزت به المقاومة الفلسطينية، والحالة التي كان فيها العدو الصهيوني. نحن فعلاً كنا أمام معادلة جديدة. عماد مغنية صنع زمناً جديداً عنوانه: ليس المهم ما تقوله أو تفعله إسرائيل، بل المهم ما تقوله أو تفعله المقاومة. هم قتلوه، لكنه برز لهم في غزة أواخر 2008 و2009، وبرز لهم مجدّداً في حرب الأيام الثمانية لان روحه وفكره ومدرسته ومنهجه وتجربته في المقاومة كانت موجودة في مواجهة هذا العدو، لذلك سيظل عماد مغنية واسمه شبحا يطاردهم ويلاحقهم في كل مكان، ما بقي هذا الصراع وما بقيت هذه المعركة مفتوحة مع العدو الإسرائيلي.
فلسطين ليست مستحيلاً
هناك محطات خاصة ومهمة لم يأت بعد وقت الحديث عنها، لكن ربما من الأمور التي لا أنساها أبداً حدثان مميزان على المستوى الشخصي والإنساني ولهما دلالة.
الأول، ذهبت إليه في يوم من الأيام، وكانت جلسة أنس ومودة وإخوة، وقرأت له قصيدة لمحمود درويش كتبها في رثاء ادوارد سعيد. كان مقطعاً يتحدث فيه محمود درويش على لسان ادوارد سعيد: «قال، إذا متُّ قبلك، أوصيكَ بالمستحيل». سأله درويش «هل المستحيل بعيد؟ قال على بعد جيل». أنا كنت مذهولاً بهذه القصيدة. قلت: يا حاج عماد، هذه بشارة محمود درويش. ادوارد سعيد البروفيسور الكبير والعقل الكبير، لذي يعيش في قلب الحضارة الأميركية، يقول لنا، عندما يُسأل عن هذا المستحيل متى يتحقق أنه على بعد جيل. الحاج انتبه للقصيدة وأعجب بها، لكنه قال: لماذا أسماها المستحيل؟ عندما استعيد شريط الذكريات، لا أنسى كيف أن الشهيد رحمه الله، حتى في الشعر والأدب، رفض أن يسمى تحرير فلسطين بالمستحيل، وهذه تعكس نفسية الحاج بأن لا شيء مستحيلاً في حياته هو.
الحادثة الثانية كانت أكثر خصوصية. بعد يوم شاق ومرهق، وليلة طويلة متعبة من العمل، فوجئت به يسألني، وكانت معنا مجموعة، هل شاهدت فيلم «الساموراي الأخير»؟ قلت سمعت به ولكن لم أشاهده، فاقترح أن نشاهده؟ شاهدنا الفيلم وكان مؤثراً جداً، لكل صاحب قضية ولكل من هو مثلنا منخرط في برنامج ومشروع مقاومة وقتال عدو كإسرائيل. وكان مؤثراً بالنسبة لي، أن يأتي في النهاية رفيق الساموراي الأخير، بعدما قتل في المعركة، حاملاً سيفه ويقدّمه للإمبراطور. فسأله الإمبراطور: حدّثني كيف مات؟ فأجابه رفيقه: بل أحدّثك كيف عاش. يعني الذي يُقتل في قضية ومعركة من هذا النوع وبهذا الطريق، لا يموت، بل يبقى حياً في ذاكرة شعبه ووطنه وكل أحرار العالم. أنا شعرت باهتزاز في لحظة سماع هذه الكلمات ومشاهدة هذه القصة بما فيها من بُعد إنساني.
عندما استشهد الحاج عماد رحمه الله، رجعت بشريط الذكريات، إلى تلك الليلة التي شاهدنا معاً فيها فيلم «الساموراي الأخير»، وقلت سبحان الله، كأن الحاج كان يُرينا هذا الفيلم عن نفسه. لكن انتبهت وقلت لا، عماد مغنية ليس هو اللبناني الأخير ولا العربي الأخير ولا المقاوم الأخير ولا المسلم الأخير في هذه المعركة. نحن عندما نتحدث عن استشهاد الحاج عماد، لا نقول للعالم كيف اغتاله العدو أو كيف قتله العدو؟ نحن نقول كيف عاش لأن الشهيد حيّ عند الله.
* الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، مقتطفات من حوار أجرته معه مؤسسة «قاف»، المهتمة بجمع تراث الشهيد.
http://al-akhbar.com