في سورية ليس هناك مظاهرات سلمية، بل مندسون فيها وأنهم يتسلحون وأن هناك حركات مشبوهة وحركات دينية تتحرك طائفياً على الأرض
أجرى المقابلة: إسراء الفاس وإسلام الريحاني
" أبي فلسطيني من الناصرة من فلسطينيي الـ 48، أمي لبنانية، عشنا في لبنان في بيروت، وأنا ترهبت وعشنا الحرب اللبنانية بديْرٍ في حاريصا، ومن ثم تلقيت دعوة لتأسيس دير في دير مار يعقوب المقطّع في منطقة القلمون في سورية".
هكذا تعرفك الأم اغنيس مريم الصليب على نفسها، بابتسامتها التي تخفي اوجاعاً تكاد لا تشعر بها من حرارة الاستقبال. هي اوجاع من أصابته سهام المتآمرين على هوية وطن لم تميّز له مذهباً. أوجاع تختلط بآلام لم تحل دون إستقبالها لفريق موقع المنار، رغم تزامن الزيارة مع خروجها من غرفة عمليات مستشفى مار يوسف في الدورة.
وكان للأم اغنيس مع فريقنا الحوار التالي:
كيف تبلورت لديكم فكرة ارسال وفد اعلامي أجنبي للوقوف على ما يجري في سورية؟
في نيسان الماضي طلبت مني إحدى المؤسسات الخيرية في فرنسا تقديم تقرير حول الأوضاع التي نعيشها.. وأنجزت التقرير من خلال اتصالاتي بشهود عيان من معارفنا وأصدقاءنا المتواجدين في درعا وحمص وحماه، وكوّنت فكرة عن الجو العام وكتبت أولى مقالاتي بالفرنسية تحت عنوان "سورية في مهب الاعلام المغرض"، متسائلة عن سر إهتمام الجزيرة والعربية وفرانس24 والـبي بي سي بسورية.
ومنذ البداية ذكرت أنه ليس في سورية مظاهرات سلمية، وأن هناك مندسون فيها وأنهم يتسلحون وأن هناك حركات مشبوهة وحركات دينية تتحرك طائفياً على الأرض.. فسمعت الكثير من الانتقادات ممن اخذوا يشككون في كلامي ويتحدثون عن الربيع العربي...
بعدها جاءت زيارة البطرك الماروني إلى فرنسا، ومعروف أن البطرك يمثل أعلى سلطة روحية للمسيحيين في الشرق، ودعا يومها البطرك إلى عدم التسرع وبأن يُمنح الرئيس السوري فرصة.. فعتموا على تصريحاته وأخذوا يهاجمونه..
التعتيم على تصريحات البطرك مع أهميتها كان مثيراً للتساؤل.. عندها توصلت أنه ليس امامي إلا التوجه إلى اعلام حيادي.. وبدأت بالعمل على الفكرة.
- كيف تواصلتم مع وسائل الاعلام؟
الفكرة أساساً أشار عليّ بها الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة وبالتحديد الأب طوني خضرا.. هو طرح الفكرة وطلب مني بعدها أن أحصل على الضوء الأخضر، وهذا ما فعلته.
- أليس ملفتاً أنكم حصلتم على ضوء أخضر رسمي من سورية، في حين يأخذ البعض على السوريين أنهم منعوا دخول الوسائل الاعلامية لتغطي الأحداث؟
السوريون تعلموا كثيراً من التجربة الليبية، فالإعلام الذي دخل إلى ليبيا كان عبارة عن مخابرات، فبعثة الصحافة الأميركية مثلاً كان من ضمنها صحافي واحد معروف أما باقي طاقم البعثة كانوا عبارة عن مخابرات، كان مجيئهم بهدف تحديد الأهداف العسكرية وكانوا يملكون أجهزة لتحديد هذه المواقع.
حصلت على موافقة وزارة الاعلام علماً أني بتاريخ 5/11/2001 كنت قد نشرت كتاباً هاجمت فيه رئيس الجمهورية السورية، وطالبته فيه بأن يفتح المجال لدخول مراقبين دوليين إلى سورية، وأن يعمل على تشكيل لجنة تبحث في موضوع المعتقلين في السجون السورية.
استغربت كيف وافقوا على طلبي، ومن هنا شعرت أن السوريين يريدون إعلاماً منصفاً ذو مصداقياً، ينقل الواقع على حقيقته، وكانت فكرة مجيئ وفد اعلامي كاثيوليكي مريحة بالنسبة للسوريين.
- ماذا حصل بعد ان حصّلتم إذناً من قبل السلطات السورية؟
بعد ذلك وضعنا شروطاً على السلطات السورية، وقلت بان عليهم أن يسمحوا للصحافيين بالدخول إلى أي منطقة يطلبونها لوحدهم، وأخبرتهم بأننا لا نريد مرافقة من قبل الأمن السوري، فقالوا لي أن بعض المناطق قد تكون خطرة.. وكان ردنا أن الصحافيين سيوقعون على على تعهد بان يتحملون كامل المسؤولية ولكن دعونا ندخل.
- من هي وسائل الاعلام التي شاركت ضمن الوفد الإعلامي الأجنبي؟
الوفد ضم مندوبة عن الأساقفة ببلجيكا، ومندوب الاعلام الكاثيوليكي ببلجيكا، ومندوب الاعلام الكاثوليكي بايطاليا، أيضاً مندوب عن الراديو والتلفزيون الرسمي في بلجيكا، ومندوبة عن تلفزيون راي دوي، وأيضاً عن جريدة الموندو الاسبانية، وأيضاً مندوبين عن مراسلون بلا حدود، وأيضاً مندوب عن التلفزيون الفرنسي الكاثوليكي بالإضافة إلى مستقلين.
- ماهي الصورة التي كانت عالقة بأذهان الصحافيين الأجانب عن الأحداث والأوضاع في سورية قبل دخولهم إلى المناطق السورية؟
مطابقة تماماً للصورة التي تنقلها الجزيرة والعربية.. هؤلاء كانوا واثقين من أنهم سيجدون مظاهرات سلمية تُقمع من قبل الجيش السوري، وهذا الموضوع ليس غريباً خصوصاً وأن هؤلاء طبعت هذه الصورة في أذهانهم من خلال اعلامهم وادارات بلادهم التابعة للناتو، خصوصاً وأن معظم الصحافيين كانوا من فرنسا وبلجيكا.
- كيف بدأتم الجولة؟ وماذا شاهدتم؟
المحطة الأولى كانت في الشام، جال الصحافيون كما شاؤوا، وكانوا يقابلون المواطنين ويسألونهم ويناقشونهم. وجدوا أن الشعب غير راضٍ على ما ينقل على الفضائيات، وأن الجميع مع الرئيس، هذه كانت بمثابة الصدمة الأولى للوفد.
- ماذا عن باقي المناطق؟
تجولوا في مناطق مختلفة لم يجدوا أي مظاهرة.
...الشيء الايجابي الذي حصل معنا هو أن الصحافيين طلبوا بأن يذهبوا إلى منطقة القصير، وهي تقع في المنطقة حدودية مع لبنان، وتبعد حوالي 20 كلم عن حمص. في تلك المنطقة يوجد عائلة مسيحية فقدت أحد أبناءها هناك، كانوا يريدون أن يذهبوا لمقابلة العائلة ليطلعوا على تفاصيل مقتل الشاب، يومها لم نجد مترجماً ليذهب معهم، ما اضطرني لمرافقتهم إلى القصير، وذهبنا على أساس أننا سنجد مظاهرات تُقمع من قبل الجيش السوري.
وصلنا إلى القصير.. وإذا بها ساحة حرب! الأمن متمترس خلف ستائر ترابية اخترقها الـ (آر بي جي) والقذائف... حقيقة صُدمنا! وجدنا بلدة بكاملها كلها متاريس.. واحياء خارجة على القانون يقطنها المسلحون، من يدخلها لا يخرجا منها حيّاً! في تلك الأحياء يوجد من ينفذون العمليات ويستهدفون الجيش، كما ان مبانيها مزروعة بقناصين.
وصلنا إلى منزل عائلة الشهيد، وجدنا أن بيت هذه العائلة أيضاً ممترس، ومحاط بسواتر. دخلنا إلى المنزل، فأطلعونا كيف ان طلقات القناصين تستهدف منزلهم من جهة أخرى لمنعهم من الخروج من منزلهم.. 6 أشهر وهذه العائلة حبيسة المنزل. هذه العائلة فقدت شاباً... قطع عليه المسلحون الطريق وهو عائد إلى منزله قتلوه، واخذوا يمثّلون بجثته فشاهدهم بعض المارة وانتشلوا الجثة وأخذوه إلى المستشفى، فلحقوا بهم إلى هناك وهاجموا المستشفى.
- بعد القصير، ما كانت محطتكم التالية؟
ذهبنا إلى حمص، التقى الصحافيون بمطارنة حمص.. احدهم أخبر الوفد أنه شاهد بأم عينه احد الأشخاص من حمص وهو يدلي بشهادته لإحدى الفضائيات ويقول عبر الهاتف: أنا الآن في درعا، تتساقط الان حولي القذائف والجيش يهاجمنا والشهداء.. والدم..
والمفارقة أنكِ عندما تدخلين حمص تجدين انها منطقة عادية ومستقرة نسبياً، ولكن عندما تتجهين نواحي أحياء المنطقة التي يخرج منها المظاهراتن فتماماً كما القصير تكونين قد دخلتي في مناطق خارجة عن القانون.. لا يعدّون أنفسهم تابعين للدولة السورية، فيها المسلحين والملثمين والقناصين.. وتجري فيها عمليات خطف وقتل وتقطيع للجثث.
من ثم توجهنا نحو بابا عمرو، وهي احدى أحياء حمص التي أعلن فيها إمارة سلفية، ولم نستطع دخول هذا الحيّ خوفاً من المسلحين. بعدها توجهنا إلى حي الزهراء، وهناك التقينا بمظاهرة، فرحنا ولكن سرعان ما استوقفتنا الشعارات: الشعب يريد اسقاط المحافظ، والله وسورية وبشار! وإذا بها مظاهرة حول انقطاع المازوت.. نتيجة الحصار!
وكان المتظاهرون يطالبون أيضاً بدخول الجيش والتصدي للفلتان الأمني، فشاهد الصحافيون كيف أن الشعب يطالب بدخول الجيش..
- هل شاهدتم قتلى في حمص؟
القتلى شاهدناهم في المستشفى الأهلي، في الحقيقة المشهد كان جداً مؤلم! كل نصف دقيقة كانت المستشفى تستقبل جريحاً وكل ربع الساعة كانت تصل جثث قتلى.. كانت الناس فوق بعضها البعض وكل شخص منهم قصة لا تصدق ما كنا نسمعه من قصص لم يكن يمت إلى الانسانية بصلة.
زرنا أيضاً المستشفى العسكري، وطلبنا أن نشاهد جرحى سقطوا في اليوم نفسه، كل من شاهدناهم كانوا شباباً حوالي 17-18 سنة، وكلهم سقطوا في كمائن للمسلحين، توجهنا نحو براد الجثث وهناك كانت المشاهد الأكثر ايلاماً.. هناك تغيّرت حياتي كلها!
شاهدت جثة لأحد العسكريين وقد أُفرغ الدماغ من الجمجمة، وجثة لشاب آخر قطّعت يداه!
أثناء تفحصنا للجثث ذكر لنا المسؤول عن البراد، أن الجثث في بداية الأحداث كانت تقنص، ومن ثم بدؤوا يشوهون في الجثث، ومؤخراً بدؤوا يقلعون عيون العساكر وهم أحياء.
- طالما أن المشاهد مؤلمة لهذه الدرجة ما الذي يمنع الجيش السوري من اقتحام الأحياء والتصدي للمجموعات الارهابية المسلحة؟
الضغط الدولي لا يسمح اليوم للجيش بالتحرك، الجيش حتى اليوم لم يُقدم على فعل أي شيء وألبسوه كل ما نسمعه من تهم واكاذيب، العامل الآخر هو أن دخول الجيش سيكون بمثابة عملية جراحية مكلفة من ناحية سقوط المدنيين، وهذا ما يتوخاه الجيش السوري، لذا فالموضوع بحاجة إلى وقت وتروي.
- هل يمكن أن تصفي لنا حالة الصحافيين الأجانب عندما شاهدوا كل هذا؟
صُعقوا... أصيبوا بحالة بانفصام الشخصية، ما رأيتهم أنهم وعلى مدى يومين كانوا يعيشون حالة صدمة كبيرة، لا يصدقون كل ما يشاهدونه من حولهم!
... ذهبوا وهم مصممون على نقل ما شاهدوه من فظاعات.. خصوصاً بعد أن وجدوا ان الشعب بكامله يؤيد النظام وبمختلف طوائفه، الشعب يريد الاصلاحات ولكنه لا يريد المسلحين، ولا يريد هذه الطريقة للتعبير عن مطالبه.
- ذكرتم أنكم طوال جولاتكم لم تشاهدوا مظاهرة للمعارضة، ماذا عن الصور التي تتناقلها الفضائيات العربية وغيرها على أنها مظاهرات للمعارضة السورية؟
هذه المظاهرات تجري في الأحياء الخارجة عن القانون، وبضغط من المسلحين والا فمصير من يرفض القتل، وللانصاف المظاهرة الوحيدة للمعارضة السورية والتي التقينا بها كانت في منطقة قارة... ولكن ما بدا لنا أنها كانت سيناريو يتم تصويره ليتم ارساله إلى قناة الجزيرة، وكانت الكاميرات مثبة من بعيد كي تلتقط الصور.. والمشاركون في المظاهرة يقدرون بحوالي مئة معظمهم من الأطفال وكانوا ملثمين ليظهروا أنهم يتخفون من الأمن السوري.. كان حقيقة مجرد سيناريو سيذهب إلى أرشيف الجزيرة.
- هل قابلتم شخصيات من المعارضة السورية؟
كان من بين البرنامج أن يجري الصحافيون مقابلات مع شخصيات معارضة، إلا أن مشاركة المعارضة السورية في اجتماعات الجامعة العربية وسفر المعارضين إلى القاهرة حالا دون ذلك.
...في الأيام المقبلة سيتم تنظيم جولة أخرى وسنزور فيها شخصيات معارضة، وسنطلب منهم رؤية ضحايا المعارضة جرحى أم قتلى وذلك كي ننصف الطرفين.. وحتى لا نُحسب على طرف واحد، اما الأماكن التي زرناها في جولتنا الأولى فكانت بناءاً على رغبة الفريق الذي اصطحبناه ولم نتدخل في ذلك.
- اليوم نقل موقع "النشرة" كلاماً لـمدير المرصد السوري لحقوق الانسان رامي عبد الرحمن، رد فيه على ما سبق وذكرته في المؤتمر الصحفي موضحاً أنه لا ينشر أسماء القتلى للرأي العام إلا من خلال لجان تحقيق.. ما تعليقكم على هذا؟
هؤلاء كاذبون.. أنا اليوم أملك لوائح من الهلال الأحمر يدوّن فيها أسماء كل القتلى سواء العساكر منهم ام المدنيين بأسمائهم الثلاثية ومع تواريخ الاستشهاد والمكان، وبكل سهولة يمكنك مراجعة أهالي الشهداء للتأكد من المعلومات، أما المرصد السوري فهو ينشر كل يوم أرقام دون ذكر أي من الأسماء.
اما أنهم لا يقدمون أسماء إلا للجان التحقيق فلماذا؟ لأنهم جميعاً مشتركون في المؤامرة! وأتحداهم إن كانوا يملكون المصداقية فلينشروا أسماء القتلى... أهالي الضحايا ليسوا بحاجة إلى مواساة ومساعدة.. أم أن المرصد يكتفي بعد الأرقام كما لو أنه يعد عصافير!
هكذا تتضح الصورة، ويكتمل المشهد برواية شاهد عيان عايش الواقع ونقله بمصداقية دون التستر باسم وهمي، كاشفاً عن نفسه أمام القاصي والداني.