اختار «الأستاذ» لحظة رحيله. أغلق الباب على نفسه حتى لا تهتز صورته في عيون أفراد عائلته، أراد أن يظل «قوياً» أمامهم حتى النفس الأخير..
طلال سلمان
اختار «الأستاذ» لحظة رحيله. أغلق الباب على نفسه حتى لا تهتز صورته في عيون أفراد عائلته، أراد أن يظل «قوياً» أمامهم حتى النفس الأخير.. وكان قد حدد كل التفاصيل بالدقة التي طالما ميزت حياته: الصلاة عليه في مسجد سيدنا الحسين، والموكب إلى المدفن العائلي في مصر الجديدة بسيط وبلا رسميات.
.. وكان طيف الصحافة العربية التي أعطاها محمد حسنين هيكل الدور المميز كمصدر للتنوير بالمعرفة والثقافة وأسباب الإبداع، مع أخبار السياسة ومحاورة أصحاب القرار، يحف بالموكب الحزين، كإعلان عن اقتراب ساعة الوداع للورق حامل الأفكار والأخبار والمحاورات والشعر والرواية والمسرحية والكاريكاتور الذي يبلور ما تلمّح إليه الكلمات، مخلياً مكانه وليس مكانته للكومبيوتر ومشتقاته من وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد انتهى عصر «الكبار» في السياسة كما في الصحافة. انتهى عصر الجمهور الذي يشكل وعيه بمبادئه معززة بأسباب المعرفة والثقافة.. ولقد كانت الصحافة بين مصادر الوعي خصوصاً وأن ما تطرحه من قضايا تسهم في تنوير الرأي العام وتعزيز الحوار وتكثيف المعرفة.
حوّل هيكل الصحافة من وسيلة إعلام وإخبار وتعليقات سريعة ومحاورات مع المسؤولين، غالباً بشروطهم منعاً للإحراج، إلى منتدى ثقافي رفيع المستوى يجمع بين كبار الكتّاب والمثقفين المختلفين في المنطلقات ومنابع معرفتهم كما في أنماط إبداعهم وإشكالات نتاجهم مسرحاً ورواية وشعراً، قصة ورسماً ونحتاً وتصويراً مع مساحة مميزة لمبدعي الكاريكاتور.. وهو بهذا قدم الصورة الكاملة للصحيفة بمهامها التنويرية، وهي سياسية بعمقها.. أفليست المسرحية والقصيدة والقصة ونقل معارف الشعوب الأخرى وثقافتها بين وسائط «تثقيف» القارئ وتمكينه من الدخول إلى عصره من باب المعرفة من دون أن يخسر اعتزازه بهويته وبإسهام مبدعيه ـ على مر التاريخ ـ في إغناء وجدانه وتأكيد جدارته بأن يكون شريكاً في إنتاج الحضارة الإنسانية وليس مجرد شاهد أو ناقل أو مترجم أو من الدعاة للسلطان بطول العمر؟
أما خارج الصحافة وبعدها فقد تحوّل «الأستاذ» الذي جعل من «الأهرام» منارة معرفة، إلى مبدع مجدد في الثقافة السياسية، وهو القارئ النهم والمحاور المميز، وإلى مؤرخ لمرحلة لعلها الأخطر في التاريخ العربي الحديث، بشخصياتها المؤثرة، المميز منها والمثير للدهشة أو الاستغراب.. وبالتأكيد فإن المكتبة التي أنتجها محمد حسنين هيكل عن السقوط الذريع من التاريخ ستشكل ضوءاً كاشفاً في الطريق إلى المستقبل.
كان لا يتعب من القراءة من أجل أن يعرف أكثر، وكان في بيته في عمارة جوهرة النيل في القاهرة، أو في مزرعته في قرية برقاش، قرب القناطر الخيرية، كما في بيته الصيفي سواء على شاطئ المعمورة أو في الغردقة، «مكتبات» عدة فيها النفيس من كتب التاريخ ومذكرات بعض من أسهموا في صنع البعض من محطاته أو تحولاته. كان حريصاً على تخطي ظواهر التطورات والأحداث ليغوص إلى العمق، إلى الأسباب والدوافع ليفهم النتائج وما ستؤدي إليه... من هنا كان حرصه على أن يتعرف إلى صنّاع الأحداث ليحاورهم مزوداً بقراءاته ولّادة الأسئلة والاستفسارات بحثاً عن يقين.
فأما «الأهرام» فكانت قبله صحيفة يديرها «وارثون» لبنانيون تمصروا ولكنهم فرنسيو اللغة، وبالتالي لا يعرفون قراءة مادتها، وإن ظلوا مخلصين لمصر وحريصين على التقدم بالصحافة.. أما معه فقد غدت صحيفة العرب جميعاً، وليس مصر وحدها. ولقد أفاد هيكل من قربه من القائد الراحل جمال عبد الناصر ومن إيمانه برسالة الصحافة، لتحويل «الأهرام» إلى أهم وأخطر مؤسسة صحافية ـ ثقافية، فيها مركز مهم للدراسات، ولديها القدرة والحق باستضافة كبار المفكرين (سارتر وبرتراند راسل) وجنرالات الحرب العالمية الثانية (المارشال مونتغمري)، بغض النظر عن مدى الاتفاق والخلاف معهم. كما صار عدد يوم الجمعة من «الأهرام» مكتبة كاملة تغني قارئها في ما يتجاوز السياسة إلى الثقافة، مسرحية وقصة ورواية، رسماً وشعراً، كأن يلتقي على صفحاتها كما في «طابق الخالدين» توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور ولويس عوض والحسين فوزي إلخ وجمهرة من الكتاب الشباب.. ومن نافلة القول إنها خرّجت نخبة من الصحافيين المميزين.
لقد كان «الأستاذ» الرجل الذي يعرف كثيراً، والذي لم يهجر شوقه إلى المعرفة وفضوله المنهك لسماع التفاصيل. ولقد أتاح له «التقاعد الإجباري» من الصحافة أن يعود إلى هوايته الدائمة: السفر والقراءة والمزيد من المعرفة بأحوال الدنيا. فعرف بلاداً كثيرة في الغرب والشرق، وتعرّف إلى شخصيات لعبت أدواراً تاريخية، ودُعي إلى ترؤس مجلس التحرير في صحف عالمية تقديراً لمكانته. وبين حرب فلسطين 1948 (التي تعرّف فيها إلى جمال عبد الناصر)، إلى مؤتمر باندونغ بقادته الكبار ولقاءاته مع خروشوف وتيتو وكاسترو وشارل ديغول وغيرهم كثير، فضلاً عن بعض صنّاع القرار في الوطن العربي كحافظ الأسد وياسر عرفات وبن بله وبومدين والقذافي، أتيحت له الفرصة، هو الذي يعرف شاه إيران وبطل الانتفاضة عليه وتأميم النفط في إيران مصدق، أن يلتقي فيحاور الإمام الخميني، وبضعة من القادة الإيرانيين بينهم هاشمي رفسنجاني.. ثم إنه عرف لبنان وفهمه جيداً من كمال جنبلاط إلى العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله إلى الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى رجل الأعمال الذي اختفى في ظروف غامضة إميل البستاني وكثر لا مجال لتعدادهم هنا.
على أن علاقته الخاصة بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله كانت حميمة، وطالما جاء بيروت خصيصاً للقائه، قبل الانتصار في أيار 2000 وبعده، وقبل الانتصار في حرب تموز 2006 وبعدها... ولقد كان يخص «السفير» بزيارة ولقاء في غابة الأسئلة التي تنتظر أجوبتها، كلما جاء إلى لبنان.
لقد رحل «الأستاذ»، وأكاد أضيف: في الوقت الذي اختاره.
لقد أنهى كلامه الذي كان ينضح وجعاً، في الفترة الأخيرة، مع تفجر الأنظمة العربية بالحروب الأهلية، والانشغال عن العدو الإسرائيلي، بصراعات على السلطة، والغرق في مستنقع الفتنة وفتح الأبواب بالعجز أمامها لكي تجتاح البلاد.
على أنه قد أنتج مكتبة تكاد تكون استثنائية في أهمية موضوعاتها، كما تكاد تكون تأريخاً لمرحلة كاملة امتدت لثلاثة أرباع القرن من العطاء المميز.. فضلاً عن جيل من الصحافيين الذين تتلمذوا عليه وأخذوا عنه في مصر وخارجها.
و«يا أبا علي»: لقد أخلفت موعدنا الأخير، ولم يكن ذلك من شيمك... ولكنك باق بإنتاجك الغزير وبتأثيرك في عالم التعرف إلى الذات وفي المعرفة بالآخر، وفي احترام العلم والثقافة والإيمان بأهلية هذه الأمة لبناء مستقبلها.
لك الرحمة، ولعائلتك الصغيرة في القاهرة وعائلتك الكبيرة على امتداد الوطن العربي، أحر العزاء..
أما الصحافة فهي، مع الأسف، في الطريق إليك حيث أنت.