الراحل الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل صنع مجده الصحفي الخاص وأضحى مدرسة يعتدّ بها في هذا الميدان، ولكن السؤال الذي نطرحه بمرارة هو لماذا لم يستطع العالم العربي إنجاب أكثر من "هيكل" على مدى قرن كامل؟!
زينب الطحان- موقع المنار
رجل الإعلام المطلوب هو الذي يعيش عمله بكل جوارحه، ويعطيه من وقته الكثير، وهو الذي يعيش حياة الجماهير ويعرف مشاكلها ويعبر عن طموحاتها، فيعمل بخلق وإبداع، ويطور ويدفع بالمسيرة إلى أمام. هذا التعريف الذي يتوافق عليه فلاسفة العصر الحديث في العالم الغربي عموماً، والذي تجد نماذج عديدة منه، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا في التوجه والثقافة. غير أنك عندما تقترب من العالم العربي الصورة مغايرة عن المألوف وبما هو طبيعي ومنطقي.
إذ عندما بدأت تتعرف منطقتنا إلى مهنة اسمها الصحافة برزت أسماء كبيرة لا نزال نعتزّ بها حتى اليوم، ولكنّ هذا المسار تغيّر مع تغيّر رياح الثقافة والإيديولوجيا. عندما صار لدينا أنظمة من المفترض أنها "تحررت" من ربقة الاستعمار الأجنبي وصار من المفترض أن تخلق من رجالاتها أعمدة تساهم في بناء وعي الرأي العام، خصوصاً في ظل اشارات كانت تقف معلنة عن نواياها اغتصاب فلسطين.
المسيرة كلّها تحوّلت عن خطها الدفاعي الأول مع الوقت وعادت الصحافة لتصبح مثل تلك الجوقة الكبيرة من الشعراء الذين كانوا يبجّلون السلاطين.. وقف نظام آل سعود ومعه الوهابية ليشكلا معاً رأس حربة للعودة بالزمن العربي إلى الوراء.. وحده وقف بين الجوقة الصحافية الحديثة ليخاطب "اعظم السلاطين"، في المملكة السعودية في العام 1958، قائلا له بصيغة مدح يقصد بها ذم "يا صاحب الجلالة!!"..
الراحل الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل صنع مجده الصحفي الخاص وأضحى مدرسة يعتدّ بها في هذا الميدان، ولكن السؤال الذي نطرحه بمرارة هو لماذا لم يستطع العالم العربي إنجاب أكثر من "هيكل" على مدى قرن كامل؟!.. هل متقصّد الابتعاد عن مفاهيم هذه المدرسة وقناعاتها؟!.. أم أن للمسألة وجهاً أخرا ؟!. يقول الصحافي اللبناني الاستاذ طلال سلمان في جريدة السفير ناعيا الراحل منذ يومين :" ليست مصادفة أن الأنظمة العربية الأخرى لم تنجب «هيكلها» لا خلال الحقبة الناصرية ولا بعدها ولا هي مكّنت الصحافيين المميزين فيها من أن يلعبوا مثل دور هيكل في «الأهرام».. بل إنه كان مستحيلاً عليها أن تسمح بهامش من حرية الرأي ينهض بهذه المهنة ذات الدور الرائد في تاريخ التقدم الإنساني ويمكنها من الإسهام في خدمة مجتمعاتها بما يؤكد جدارتها بصنع الغد الأفضل".
محاربة مدرسة هيكل الإعلامية كانت لضرب فكرة القومية العربية
الصحافي المصري، ابن بلد الراحل الكبير وتلميذه الوفي، الاعلامي عمرو ناصف يتفق مع "سلمان" في هذه الرؤية وهو يشرحها في الكثير من الإسهاب في مقابلة مع موقع المنار، إذ يقول:"في الحقيقة، تكمن الإجابة في شخص الأستاذ هيكل نفسه أولاً. فقد تمكن أن يكون رائدا في الساحة الإعلامية العربية دون منازع، اختار هذه المهنة بملء إرادته وكان متسلحا بما يلزم من الوعي والثقافة والمعرفة والاعتماد على الذات. والكثيرون لا يعرفون أن الأستاذ هيكل لم يدرس في جامعة أو معهد، بل اعتمد على نفسه تماما في صنع ذاته وعلّم نفسه حتى اللغتين الإنكليزية والفرنسية. هو قدّر قيمة الكلمة وقيمة المعلومة الثقافية بنحو مبكر منذ بدأ العمل في الصحافة المكتوبة في العام 1942".
إلى أي مدى شكّلت تغطيته لأحداث احتلال فلسطين في العام 1948 ظرفاً مساعداً له ليبرز على الساحة العربية بصفته صحفياً لامعاً؟!.. يقول ناصف :" لاشك أن تغطية الأستاذ هيكل لأحداث فلسطين ساعدته في ذلك، غير أن ما كان يميّز تقاريره الإعلامية ومراسلاته الصحفية هو إدراكه التام لأبعاد المشروع الصهيوني في احتلاله لفلسطين ومدى مركزيتها الاستراتيجية في تحقيق الهدف الغربي الاستعماري الأساس من خلق هذه الـ"إسرائيل" في قلب العالم العربي. وهو بذلك فرض نفسه رقماً صعباً في الصحافة العربية مذ ذاك الوقت ولم يتكرر، مع وجود صحافيين كبار طبعاً، إنما بكل أمانة كان الاستاذ هيكل الأكثر سطوعا بينهم جميعا".
ويؤرخ الزميل ناصف خط افتراق مدرسة الراحل الكبير هيكل عن أقرانه الصحفيين عندما بدأ يتضح بشكل جلي النمط الرجعي عند بعض الأنظمة العربية، حين تمظهرت الخلافات بينه وبين الكثير من القوى العربية التي كانت تمثّل في العديد من المحطات التاريخية ذلك الخط الرجعي. فقد بدأ الهجوم على مقالات الأستاذ هيكل وما يكتبه يفتح أبواب الارتزاق أمام بعض الأقلام، التي رأت أن الهجوم عليه وعلى ما يمثّله يقرّبهم من مصادر التمويل والسلطة ويفتح لهم أبواب المجد. هذا النوع الأول.
أما النوع الثاني من الصحفيين فقد كان على عداء كبير مع توجهّات الاستاذ هيكل ولهم معه اختلافات فكرية وثقافية وحتى إنهم لم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كانت أهوائهم مشتّتة. فخط الإخوان المسلمين كان معاكسا تماما لتوجهات الأستاذ هيكل لأسباب تعنيهم بشكل خاص، وبعض العقائدين في الخط القومي العربي، الذين يرون أنفسهم أكثر جذرية في مواقفهم من النزعة البراغماتية التي من الممكن أن تكون مسيطرة على رؤى الاستاذ هيكل وتصوّراته. وهؤلاء كانوا أيضا لهم منه مواقف مناقضة. "ولكن للأمانة انتقاد بعضهم كان إلى حد كبير يتسم بالموضوعية ..".
ويكمل عمرو ناصف "إنه يأتي بعد ذلك المجموعة التي قرّبها أنور السادات من الحكم في عهده. وكان أحد أهم مشاريعهم هو ضرب فكرة القومية العربية وفكرة كل ما كان ما يمثله جمال عبد الناصر .. المدخل الأساس لذلك هو محاولة ضرب مترجم تلك الأفكار والرؤى ومهاجمتها حتى تصل إلى الرأي العام العربي الصورة مشوهة، وكان بالطبع الاستاذ هيكل ومدرسته الإعلامية .. هذا الفريق من الصحفيين كان يمثلهم مصطفى أمين وسمير رجب وبعض الصحفيين الذين كانوا مرتبطين بشكل قوي إما بأمر السادات مباشرة او حتى ممن لهم ارتباطات خارجية مشبوهة مثل مصطفى أمين الذي كان أصلا معنياً في قضية تجسس لصالح المخابرات المركزية الأميركية".
عمله كان جزءا من قضية ..
هل كانت الصورة سوداوية إلى هذه الدرجة أمام فتح الأفق لمدرسة هيكل الإعلامية؟.. يجيب "ناصف": كل ما تقدم لا ينفي وجود صحفيين كثر في الوطن العربي حاولوا الاستفادة من مدرسة هيكل وحاولوا الاقتراب منه.. " غير أنه ناصف يعود ليركّز على فرادة "هيكل" في العمل الصحفي بأن المشكلة الأساسية كانت تكمن في فرق جوهري جدا ما بينه وبين غيره من الصحفيين .. المشكلة بدأت تظهر في مؤتمر بأندونيسا سنة 1955 والذي كان مؤتمرا يضم نواة لتشكيل مجموعة دول عدم الانحياز .. كان فيه 29 رئيس دولة والمؤتمر كان طويلا استمر ستة أيام .. الفريق الصحفي الذي رافق الرئيس الراحل عبد الناصر كان ضخما جدا. وهم لاحظوا اهتمام عبد الناصر بـ"هيكل" تحديدا فسألوه عن السبب فأجابهم جوابا وضع النقاط على الحروف عندما قال لهم : الفرق بين الاستاذ هيكل وبينكم هو أنكم تأتون لي لأعطيكم المعلومات والأخبار أما هيكل كان ياتيني بالمعلومات والأخبار .." وهذا ما جعله رقما صعبا في عالم الصحافة والسياسة، فهو كان يتعاطى مع مهنته بصفته جزءا من قضية وليست مجرد مهنة.
وهذا ما جعله يقتحم بجراة عالية العديد من الدوائر الفكرية والسياسية والأمنية بينما غيره كان يحاول التملص منها مثل قضية تبنيه للعلاقات بين مصر وإيران.. وهنا هو كان يبحث خلاف التيار الذي كان سائدا في الإعلام المصري والعربي حيال هذه القضية آنذاك. وكان يتهكم بقوة على مسألة سني وشيعي وكان دائما له وجهة نظر أن هذه الكتابات الضيقة لا يمكن ان تصنع انتصارا او تقدما في الأمة بل هي خاصرة تقود دائما إلى الخسارة.. الحقيقة ان الكثير من الميادين الصحفية بادر إليها هيكل واقتحمها في حين كان غيره يؤثر السلامة والرفاهية من أجل ألا يغصب عليهم هذا النظام أو ذاك.. وهذا ما كان يفرق بين هيكل وغيره ويصنع منه مدرسة نموذجية في العالم العربي ككل. وهذا بالطبع النموذج الذي كانت ولا تزال ترفضه الأنظمة العربية، من هنا لا نستغرب أن لا تنتج هذه الدول "هيكلها" على حد تعبير الأستاذ طلال سلمان.
مع السيد نصرالله
وفي العقود الأخيرة كانت جرأته الأكبر - كما يتابع عمرو ناصف- في الدائرة التي اقتحمها دون خوف أو وجل وهي علاقته بالمقاومة الإسلامية وبحزب الله تحديدا وبسماحة السيد حسن نصرالله.. ويقول ناصف:" أنا أحد الشهود الذين كان هيكل يقول أمامهم رأيه الصريح في العديد من الشخصيات التي قابلها في حياته المهنية .. وسماحة السيد بالنسبة إليه كان من الشخصيات القليلة التي لم يخفِ هيكل له حبه واعجابه به وجها لوجه.
ففي أول مقابلة له مع سماحة السيد سأله إذا كان يعرف شخصيات عديدة أدت أدواراً مهمة مثل ماوتسي تونغ.. وديغول و .. أجابه سماحة السيد أنه تعرّف عنهم من كتب التاريخ وطبعا لم يعرف أحداً منهم بشكل شخصي، فما كان من الأستاذ هيكل أن قال له :" أنا عرفتهم بشكل شخصي، وكنت مع كل واحد منهم أنظر إليه من فوق إلى تحت، أنت الوحيد الذي أنظر إليك من أسفل إلى أعلى".، إلى هذه الدرجة كان يرى شخصية السيد هرما كبيرا شامخا لا يمكن ادعاء الوصول إلى قدره.. وكان يحبه بايمان شديد، بطريقة تفكيره وسلوكه وكان يرى أن سماحة السيد من اهم الشخصيات الاستراتيجية في العالم على الإطلاق..
مع الإعلام السعودي ..
أما علاقة "هيكل" مع الإعلام الخليجي فتلك حكاية أخرى يرويها عمرو ناصف، فهي لم تكن سوية يوما خصوصا مع الإعلام السعودي، الذي كان آنذاك يكتب باسمه صحفيون من مختلف البلاد العربية، حيث كان يشجعهم على مهاجمة "هيكل" ومن خلفه جمال عبد الناصر، وخصوصا تشجعيهم آنذاك لصحفيّ حركة الإخوان المسلمين. وهم بذلك كانوا يستهدفون تشويه صورة جمال عبد الناصر في الوطن العربي وشيطنته، وضرب الفكرة القومية العربية. وعندما امتلكت السعودية صحفييها الخاصين من أبناء البلد أكملت معهم الدور نفسه، مع ما قد نشهد لبعض منهم بالكفاءة والقدرة لولا أنه وظّفها في خدمة النظام السعودي إنما خوفا من بطش او بحثا عن منصب تحت إغراء المال. وهذا هو حال معظم الاعلام العربي حاليا.
"هيكل" الأستاذ المتواضع
يروي عمرو ناصف أنه تعرّف إلى الراحل الكبير حين كان في السادسة والعشرين من عمره، ومذ ذاك الوقت ربطته به علاقة صداقة قوية وشخصية، وذلك لأن الراحل نفسه كان رجلا متواضعاً للغاية ودمث الأخلاق بعكس أقرانه من الصحفيين الكبار الذين كانوا يحدثون مسافة بينهم وبين الصحفيين الشبان. فقد كان مشجعا وحريصا على دفع الشبان العاملين في حقل الصحافة على اجتراح الأسئلة الصعبة، ولطالما كان يسأل هذا وذلك :"اخبرني عن رأيك في تصريح هذا الرئيس او ذاك".. ما تعلقيك على حادثة الأمس".. "لقد علّمنا الراحل مبادئ مهمة جداً في ميدان العمل الصحفي غير ان المبدأ الأكثر أهمية هو "أن نصف الثقافة على الأقل حسن الانصات والاستماع".
بعد كلام الأخير للأستاذ الزميل عمرو ناصف أعتقد أن مدرسة الراحل الكبير محمد حسنين هيكل لها أتباعها الخاصين الذين سيكملون الدرب نفسه مهما غلت التضحيات واشتدت الأزمات، تماما مثلما بقي الراحل صامدا في مواقفه الوطنية والقومية والعروبية في أشد الظروق العربية والإقليمية الحالكة.