لا يخفى على أحد أن كل التنظيمات الإرهابية الموجودة في سورية والعراق هي صنيعة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، ومن المستحيل الآن الاعتقاد أن الولايات المتحدة صنعت الإرهاب فقط كي تحاربه،
طلال ياسر
لا يخفى على أحد أن كل التنظيمات الإرهابية الموجودة في سورية والعراق هي صنيعة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، ومن المستحيل الآن الاعتقاد أن الولايات المتحدة صنعت الإرهاب فقط كي تحاربه، فلا أحد يمكن أن ينفق على هذه التنظيمات مئات المليارات، ثم يعود ليحاربها منفقاً مئات المليارات كذلك، والولايات المتحدة لا يمكن أن تقدّم خدمة لأحد دون أن تقبض ثمنها سلفاً، وهي ليست جمعية خيرية حتى تقوم الآن بمحاربة "داعش" وغيرها نيابة عن العرب.
ويبدو أن الأمر على النقيض من ذلك تماماً، فكل المؤشرات منذ أن بدأ ما يسمى "التحالف الدولي" بضرب مواقع هذا التنظيم، تؤكد أن هذا التنظيم يعزز مواقعه على الأرض أكثر من ذي قبل ويعمل على رسم حدود سياسية وديموغرافية لخلافته المزعومة، فهو بداية عمد إلى التلاعب بالتركيبة الديموغرافية للمنطقة الواقعة بين سورية والعراق، عبر تهجير المسيحيين والإيزيديين من مناطقهم التاريخية، وبالتالي عمل على تغيير تاريخ هذه المنطقة من خلال القضاء على كل ما يدل على وجود حضارة فيها، وكذلك عمل تحت إدارة واضحة من الولايات المتحدة وتركيا على تثبيت إقليم كردستان دولة قائمة بجيشها ومؤسساتها، وراح على الأرض يهاجم كل المناطق الكردية الواقعة خارج الإقليم لإجبار الأكراد هناك على التوجّه نحو إقليم "دولة" كردستان في عملية ترسيم واضحة لحدود الإقليم بعد تكريس ضمّ كركوك إليه، وما التفويض الأخير لأردوغان بالتدخل عسكرياً في الشمال العراقي إلا لإسناد "داعش" في تهريب النفط العراقي السوري بعد أن عجزت عن ذلك وحدها، بينما تشكل طائرات التحالف في الحقيقة غطاء جوياً للتنظيم للاستمرار في تقدّمه وذلك لأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تزوّده بالطائرات لأسباب كثيرة يعرفها الجميع.
وسياسياً يسعى هذا التنظيم إلى السيطرة على كل المناطق الواقعة بين سورية والعراق ابتداء من حدودهما الشمالية مع تركيا وصولاً إلى الحدود السعودية جنوباً، الأمر الذي يجعل هذه المناطق دولة قائمة تحت أي مسمّى تشكّل صلة وصل بين دول الخليج في الجنوب وتركيا في الشمال مع عمقها الأوروبي، فلماذا العمل على رسم مثل هذه الحدود؟ وهل لذلك علاقة واضحة بما تسمّى دولة "إسرائيل الكبرى".
من الملاحظ سلفاً أن سعي التنظيمات الإرهابية إلى إقامة ما تسمّى "خلافة إسلامية" في كل من سورية والعراق، ما هو إلا مسوّغ لإعلان "إسرائيل" دولة يهودية، فالكيانات المصطنعة في المنطقة على أساس ديني تشكل مسوّغاً لغيرها للقيام بذلك، وهذه التنظيمات التي ستشكل في النهاية "دولة الخلافة المزعومة" يتم استجلاب مقاتليها من كل أصقاع الأرض بالطريقة ذاتها التي تم فيها إنشاء الكيان الصهيوني عبر عصابات من المرتزقة قامت بتهجير السكان الأصليين وقتلهم في فلسطين المحتلة وأسكنت محلّهم مجموعة من المرتزقة جاؤوا من كل جهات الأرض، وقيام مثل هؤلاء بتشكيل دويلة في هذه المنطقة يجعل وجود "إسرائيل" فيها طبيعياً، كما أن سيطرة هذا التنظيم "داعش" على نهر الفرات في كل من الإقليمين يجعل الجزء الثاني من النظرية الصهيونية الأصلية "من النيل إلى الفرات" محققاً، بعد أن تمكّنت "إسرائيل" من تأمين حماية لها من جهة النيل عبر دعم الجماعات الإرهابية الموجودة في سيناء لتكون حاجزاً حقيقياً أمام أي تفكير مصري مستقبلي بمواجهة "إسرائيل" أو بتهديد وجودها، وهنا لا يمكن لنا إلا أن نلاحظ أن قيام دويلة تفصل سورية عن العراق يحقق إلى جانب إطالة عمر "إسرائيل" أهدافاً اقتصادية للقوى الاستعمارية الكبرى، فإلى جانب منع أي تواصل سوري عراقي إيراني من خلال محور المقاومة، هناك جهدٌ دؤوب سعودي قطري تركي لتمرير خطوط النفط والغاز من السعودية وقطر إلى تركيا عبر هذه الدويلة المصطنعة ومنها إلى أوروبا، وبالتالي حرمان الاتحاد الروسي من الاستفادة من عائدات غازه المصدّر إلى أوروبا، وهذا ما يفسّر استمرار الاستفزازات الأمريكية لروسيا عبر أوكرانيا، وذلك لإجبارها على معاقبة أوروبا بوقف تصدير الغاز إليها، ودفع الأخيرة إلى البحث عن مورّد آخر لهذا المنتج لن يكون إلا "دولة الخلافة" أو أسيادها في الخليج، وهذا سيحرم إيران أيضاً من تسويق نفطها وغازها عبر العراق وسورية إلى أوروبا، ومن هنا نفهم إصرار طائرات "التحالف الدولي" على قصف جميع المنشآت ذات العلاقة بالطاقة في كل من سورية والعراق، وذلك لإجبار "الحاكم الجديد المفترض لهذه الدولة" على الاعتماد على هذا التحالف مستقبلاً في تسويق نفطه وغازه وتحويله إلى كيان استهلاكي خدمي يعيش فقط على ما تدرّه مشاريع الطاقة أسوة بـ"أذكياء الخليج".
وفي المحصلة تكون الإدارة الأمريكية قد أعادت السيطرة على مكامن النفط والغاز في المنطقة ومنعت كلاً من الصين وروسيا وإيران من الاستفادة منها في إطار الإبقاء على النظام العالمي السابق، كما أنها تكون قد حققت الحلم الصهيوني الأصلي بـ"دولة يهودية" تتحكم في هذه المنطقة من العالم وتعيش وتستمدّ أسباب بقائها من خيراتها.
لذلك وبعد هذا الاستعراض لبعض ما يجري على الأرض، يبدو أن الوقت الآن لا يتسع لرفض ما تقوم به الولايات المتحدة من ترسيخ لواقع استعماري جديد، بل لا بد للجيشين العراقي والسوري أولاً من التنسيق فيما بينهما على الأرض لإحكام السيطرة بشكل كامل على طريق دمشق - بغداد وتأمين الحماية الجوية للأرض على جانبيه، لقطع الطريق على أي محاولة لإلغاء الحدود بين الدولتين، وذلك لأن الضربات الأمريكية في الحقيقة تتم بالتنسيق مع "داعش" وما هي إلا محاولة لترسيخ منطقة حظر جوي يؤدّي تلقائياً إلى صناعة دويلة جديدة بين الدولتين بالطريقة ذاتها التي أشرفت فيها مناطق الحظر الجوي سابقاً في العراق على إنشاء "دويلة كردستان" وتكريسها لتصبح دولة فيما بعد تبرّر قيام "دولة الخلافة" التي ستشكل حزام أمان لـ"إسرائيل" من الشرق.
وطبعاً هذا الأمر "صناعة الدولة" عبر الحماية الجوية يستغرق وقتاً طويلاً، لذلك يصرّ أوباما في كل أحاديثه عن المدة التي سيستغرقها القضاء على "داعش" -وفي الحقيقة ترسيخه وتقويته- على الحديث عن خمس سنوات أو أكثر، وهي ربمّا تكون الفترة ذاتها التي يستغرقها بناء شبكة أنابيب تربط السعودية بتركيا عبر هذه المنطقة المحمية جواً، وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم استعداد كل من تركيا والسعودية للتدخل في سورية برياً بإيعاز أمريكي، وذلك لمحاولة صناعة أمر واقع يجعل القسم الشرقي من سورية والغربي من العراق تحت حماية هذين الطرفين، لترسيخ قيام هذه الدويلة بين سورية والعراق، وكل ذلك بزعم محاربة التنظيم، ولكن القضية في الحقيقة لا تتجاوز قضية التقسيم التي لا يزال منظرو السياسة الأمريكية يتحدّثون عنها بين الفينة والأخرى، وربما يتم التمهيد لذلك عبر خلق فتنة جديدة في لبنان، تصرف الأنظار عما يتم التخطيط له فعلياً على الأرض، أو تجبر حزب الله في اعتقادهم على الانكفاء إلى الداخل اللبناني، وبالتالي تخفيف الضغط عن المجاميع الإرهابية التي يحاربها في سورية، ويُظهر ذلك من جانب آخر أن هناك عجزاً سعودياً تركياً عن استقدام مزيد من المرتزقة إلى الجبهات التي يحاربون فيها بالوكالة في كل من سورية والعراق واليمن، كما يبيّن هذا الأمر سبب الإصرار التركي على الوجود في الموصل شرقاً "بعشيقة"، وأعزاز غرباً، وكذلك الحلم السعودي بالدخول عبر الأردن إلى الصحراء السورية وصولاً إلى الرقة.
وباختصار.. تحلم تركيا بإخلاء حدودها مع سورية من الأكراد، وهذا ما يصطدم مع الواقع على الأرض، حيث تجد نفسها غير قادرة على دفع الأكراد شرقاً نحو إقليم كردستان المصطنع، وكذلك تصطدم السعودية بالعجز عن إشعال فتيل حرب أهلية في لبنان عبر هبة ادّعت أنها ستقدّمها للجيش اللبناني ثم قامت بإلغائها لاتهام حزب الله بالمسؤولية عن إلغائها، وقد تنبّه الجانب الإيراني لهذه اللعبة فأعاد عرضه تسليح الجيش اللبناني إلى الطاولة، ويبدو أن سحب دول الخليج رعاياها من لبنان هو في الحقيقة أمر عمليات لجهة داخل لبنان لإشعال شرارة حرب أهلية، حيث من الممكن أن تكون السعودية قد تمكّنت بمساعدة تركيا من نقل جزء من داعش إلى لبنان عبر البحر وهو بانتظار إشارة البدء، وخاصة أن الحكومة اللبنانية عبر سياسة "النأي بالنفس" التي انتهجتها في الأعوام الأخيرة تركت نفسها مكشوفة الظهر لأي تدخّل خارجي حيث لا يستطيع الروسي ولا غيره الحصول منها على تفويض بالتدخل لحمايتها في ظل وجود حكومة منقسمة على نفسها وعدم وجود توافق على رئيس يحكم البلاد، وقد تصطدم محاولات السعودية وتركيا التدخل البري في سورية بحزم روسي من نوع آخر، يجعل هذا التدخل مفتاحاً لحرب عالمية جديدة في المنطقة لن يكون بإمكان الناتو ولا غيره الانتصار فيها على العملاقين الروسي والصيني اللذين يقفان بقوة ضدّ أي محاولة للاستفراد بالقرار في مكان يحدّد طبيعة النظام في العالم الجديد.
إذاً، القاسم المشترك الذي يجمع كل مكوّنات هذا المشروع الشيطاني في المنطقة، هو خدمة الكيان الصهيوني وترسيخ وجوده، وليست داعش ولا غيرها من المنظمات الإرهابية إلا أدوات لترسيخ تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية، وهذا العمل يقوم به السعودي والتركي والقطري على الأرض بقيادة أمريكية، ومن هنا لا ينبغي الركون إلى أي محاولة أمريكية للتبرّؤ مما يجري في المنطقة من أحداث، لأن أمريكا تترك أدواتها لمصيرها إذا فشل مشروعها وتتنصّل من كل ما قامت به.
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه