21-11-2024 02:08 PM بتوقيت القدس المحتلة

"شمس الدين" .. حين يتحوّل الشعر إلى العرفان ..بأية لغة؟!..

وما وصل إليه سلوك شمس الدين العرفاني هو أنّ الثقافة تعيش مأزقاً خانقاً. ويعني ذلك أن عين شمس الدين هي عينُ عينِ العارف. وما كان له أن يصل إلى النشوة العظمى في ظل مأزق الثقافة الحاليّة الذي يتفرّع من مأزق العقل العلمي.

العنوان الأصلي للنص : النازلون على الريح وجدليّة الشعر والعرفان

كان الهمّ الذي حرّك العقل العربيّ، في أوّل عهده بالإسلام، همّاً ذا طابع دفاعي. أعني بذلك الدفاع عن حقيقة الوحي في مواجهة التشكيك الذي أثير من المانويّين والمزدكيّين والنصارى والفلسفة اليونانية. فقدانطلق المدافعون من آيات التحدي التي وصلت في آخر ما وصلت إليه أن تحدّت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة واحدة من مثله. وهذا ما استدعى أن يتمحور العقل العربي حول «علم الكلام»، كلامِ الله المقصود به القرآن هنا. وذلك قصد البرهنة على حقيقة إعجازَه الذي يمثّل مدخل صدقيّة الوحي وبالتالي صدقيّة الإسلام جملة.

بقلم الناقد اللبناني الدكتور علي زيتون/ خاص لموقع لمنار

الناقد الدكتور علي زيتون يوقع أحد كتبهولقد وصل العقل العربي، مع علم الكلام، إلى مأزق يضع الموقف من ذلك العلم  في الميزان . فهو حين قال بقدم القرآن ، كلام الله، ووجه من العقل نفسه بأنّ القول بالقدم شكل من أشكال الشّرك بالله. وهو حين قال بالحدوثِ ووجه بأنّ الحدوث إشارة إلى تغيّر اللهِ الواجب الوجود .ولم ينج هذا العقل من مأزقٍ شبيه حينَ تطلع إلى الحقيقة بوصفها قضيّة. وذلك من خلال الفلسفة. أوقعته ثنائيّة : (قدم العالم) و(حدوثه) في المأزق نفسه وبوساطة الحجة نفسها.

ووجد العربيّ المسلمُ نفسه باحثاً عن الحقيقة من غير أداة العقل التي يئس من جدوى التعامل معها في أثناء محاولته الوصول إلى الحقيقة. وصارت المعركة، عند الصوفيّ، بين الروح والجسد . الروح من أمر ربي والجسد هو المعوّق المحوري أمام عروج الروح نحو خالقها. الخالق هو الحقيقة المطلقة والمعرفة اليقينيّة التي لا تقبل الشك .. وكان سلوك الطريق إلى الله هو السلوك نحو تلك المعرفة . وهذا النوع من السير لا يكون إلاّ باعلاء الروح على حساب الجسد.

والمنازل التي يحلّ بها السالك على ذلك الطريق والاحوال التي يدركها ليست سوى كشوف موصلة ذات لحظة إلى مرحلة الشهود والفناء . وحين يقول أحد المتصوّفة : إنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلق، إنما يشير إلى خصوصيّة كلّ عارف وفرادته . وإذا شكّلت هذه الإشارة حضورا للعقل من خلال مفهمةِ حقيقة تعدديّة الطرق، بما يعني عدم استغناء «أهل النظر» استغناء كليّاً عن العقل، إلاّ أنه لا يعني الارتكاز عليه بوصفه أداة وحيدة محورية. استُبدِلت بمحوريته محوريةُ مجاهدةِ النفس الجسدَ على طريق الارتقاء نحو الحقيقة المطلقة، وبقطع النظر عن انقسام هذه المدرسة مدرستين : احتفظت إحداهما بمصطلح التصوّف، واختارت الثانية العرفان، فان المدرستين تهمّشان العقل لتتعالى عليه الرياضة الروحية.

وإذا كانت العرفانية ساعية إلى مكاشفة الوجود ومعرفة أسراره، ما الذي يبقى للشعرية من وظيفة إذا كان العرفاني شاعراً ؟ الشاعر، بطبيعته، عرفاني في مستوى من المستويات خصوصاً إذا صارت الحقيقة بالنسبة إلى هذا الشاعر قضيّة وجوديّة ..والعرفاني ، بطبيعته ، شاعر في مستوى من المستويات؛ لانه لا يستطيع أن يقدّم ما كشفه من أسرار الوجود من خلال اللغة العاديّة . يحتاج إلى لغة الشعر ، المجاز . والرؤية غير العادية إلى الوجود لا يمكن أن يُفصَح عما رأته إلاّ بلغة الشعر.

فهل يعني ذلك امحاء المسافة بين الشعر والعرفان؟ لن يكون الشاعر شاعراًإذا لم يكن عارفاً من أهل النظر، ولن يكون العارف عارفاً من أهل النظر إذا لم يكن شاعراً، لغتُه الشعرية موازية قدرته العرفانية . والشاعر والعارف كلاهما، بما حملاه من ثقافة، هما القادران الوحيدان على التقاط المآزق التي تعتري كلاً من العقل والثقافة، وهما القادران وحدهما أيضاً على الإشارة إليها وإلى كيفية الخروج منها.

ولا يختلف الأمر مع شاعر حديث كمحمد علي شمس الدين عن شاعر تراثي كحافظ الشيرازي . فإذا نجم عرفان الشيرازي عن مأزق العقل الإسلامي، نجم عرفان شمس الدين عن مأزق العقل العلمي الحديث مع يقينية هذا العقل وارتكازه إلى السيمائيّة التي تسعى إلى الحقائق العنيدة وحدها.

انتقل هذا العقل العلمي الحديث بالدراسات لتصبح علوماً : فإذا نحن إمام علم اجتماع، وعلم نفس، وعلم لغة ، وعلم أدب . حتى الفلسفة ، مع هذا المستوى من العقل ، صارت علماً، وخير دليل على ذلك الماركسيّة التي رأت إلى نفسها على أنها علم وأنها آخر الفلسفات وان التاريخ من خلال عمليّاتهاالاجرائيّةسيصل إلى نهايته مع اضمحلال الطبقات في المجتمع البشري الموحّد .. ومهما يكن من أمر، فان مثل هذا التفاؤل لم يصل بالماركسية إلى مأمنها. كان سقوطها مع الاتحاد السوفيتي مدويّاً يمثّل مأزقاً حقيقيّاً للعقل العلمي ، فانفرط عقد الثقافة المتماسكة ليبدو ذلك في الظاهر إفساحاً في المجال أمام التفكيكية التي تنعى العقل وتجرّده من كل صفة مرجعيّة للحقيقة التي باتت عندها  مجرد وجهة نظر . فهل ستنافس العرفانيّة التفكيكيّة على الساحة الثقافية العالمية ؟ وهل تمتلك من الأدوات ما يمكّنها من هذه المنافسة؟.

بدا عالمنا الثقافي الحالي بلا رأس. وإذا عاش كلّ من الحلاج وحافظ وسعدي ظروف غياب الرأس في زمانهم ، فهل يعيش محمد علي شمس الدين وزملاؤه في ساحة الشعرية الحاليّة ظروف غياب الرأس أيضاً ؟ وهل سيشكل العرفان ، لديهم ، بديلاً يؤمّن الصحّة النفسيّة للإنسان في ظروف بالغة الدقة والخطورة بانتظار ما سيكون ،وما سيأتي ؟.

ولعلّ أبرز ما يعبّر، في شعر شمس الدين، عن مأزق ثقافة العصر الحالي قوله تحت عنوان : «أغنية ملاّح على نهر الغانج» :

«العالمُ يطفو كالتمساح على ماء الشهوةِ
فلنطفئ نورَ العقل الهادي باصابعنا
ولنسبح في هذا النهر الجاري كالأبقارْ
جذلى
وعراةً إلاّ من فيض غرائزنا».

ما يسترعي الانتباه في هذا النصّ حضور الثقافة الهنديّة القديمة بقوّة فيه. ويستدعي هذا الحضور سؤالاً مبدئيّاً مفاده : لماذا حضرت هذه الثقافة ؟ وما الاحمال التي حُمِّلتها في هذا النصّ ؟ هل يعني أنّ مأزق العقل العلمي قد أعادنا ، ودفعة واحدة، إلى هذه الثقافة التي تراءت شديدة البدائيّة في مرحلة سيادة العقل العلمي؟ ماذا عن وهج الفقير الهندي الذي مارس قهر الجسد من أجل الوصول إلى (النرفانا) ؟ لقد جرّدت أغنيةُ الملاح (الشاعر)  الثقافةَ الهنديّة من هذا العمق العرفاني. كان حضور نهر الغانج والأبقار حضوراً للثقافة الهندية،ولكنها مجرّدة من فقيرها هذه المرة ، فلماذا ؟.

حين اسند الشاعرُ الفعلَ (يطفو) إلى العالم يعني أنه رأى له هويّة (الخفة) التي تشير إلى أن هذا العالم لم يعد ذا وجود ركين يتحكم بحركته الذاتية، صارت حركته مستقلة عن إرادته ، صار مادة تقاذف . ويأتي تشبيهه بالتمساح ليحوّل تلك الخفّة خفّة وظيفيّة سلبيّة . خفّة التمساح لا تعني الهشاشة تعني العدائيّة والتربّص بالفريسة ، خصوصاً أن النهر الذي يعيش فيه ذلك التمساح (العالم) هو ماء الشهوة التي تعلي الغريزة على كل ما سواها من مكوّنات ذلك العالم، وعلى رأسها العقل . ويمثل هذا نفياً لوظيفة العقل (الهداية).

وقول الشاعر : «فلنطفئ نور العقل الهادي باصابعنا» يعني وصولا إلى قناعة ركينة مفادها عدم جدوى حضور العقل . وما يؤكد هذا تشبيهُ الناس بالأبقار في غمرة ذلك النهر الأعمى الطاغي . فالتشبيه إشارة قويّة إلى انعدام الإرادة البشريّة .الأبقار رمز الانقياد الذي يشير إلى الانهزام البشري في هذا العالم التمساحي الذي اتخذ لبوساً متعددة على مرّ الأزمان . فهل يعني ذلك أن معركة الإنسان مع العالم معركة وجودية ؟.

ما مقدار التشاؤم الذي عمر هذه المرحلة من تاريخ البشرية ، وما نسبة التفاؤل ؟
إنّ قراءة المرحلة من قبل شاعرنا هي التقاط لعظم المأزق الذي يعيشه العقل العلمي. ذلك المأزق المتمثل بحضور الداعشيّة . فهل كان سقوط الفلسفة العلمية مع سقوط الاتحاد السوفيتي قدراً يجب ان نصل إليه ؟ قصيدة الشاعر قراءة لما آلت إليه الثقافة والمثقفون من أشلاء ، ولكنها وهي تقدّم صورة العالم على هذه الشاكلة ،إنّما تكون قد قدّمت إلينا الطريق الذي عليناأن نسلكه،وإن كان ذلك بأسلوب غير مباشر. ولنكون على بيّنةمن أمرنا علينا أن نقف عند رأي الشاعر بالشعر والعرفان.

وأول ما يطرح ، بهذا الصدد، ما وظيفة الشعر ؟ هل بإمكانه كشف العالم والوجود وتقديمه للبشر من غير الشعراء؟ يستدرجنا هذا السؤال إلى سؤال ثانٍ . ما قدرة الناس العاديين على تمثل الشعر وفهمه ؟ هل هم محتاجون إلى وسيط هو الناقد ؟ هل تيسّر الناقد بخصوص شعر شمس الدين؟.

يستوقفنا، فيما يتعلق بهذه القضية، أن محمد علي شمس الدين، في مجموعته «النازلون على الريح» قد شكا غيابَ النقد الأدبي القادر على مواكبة الشعر عامة ، وشعرهِ على وجه الخصوص.

وشكواه مسوّغة. ذلك أن الشعر الحديث يكاد يكون شعراً بلا جمهور ، وغياب الجمهور كان بسبب المسافة الثقافية القائمة بين الشاعر والجمهور. المطلوب من الشاعر، ليحتل مقاماً مرموقاً في دنيا الشعرية، ان يمتلك ثقافة عصره إلى حدَّ اعجازِها في الإجابة عن أسئلته، والجمهور، قبالة ذلك، ثقافته بسيطة تجعله عاجزاً عن تمثّل الشعر الحديث والانفعال مع مناخاته وأجوائه. والناقد الحقيقي هو القادر على تقديم الشعر الحديث إلى المثقف العادي ، مع الإشارة إلى أن ما أثير في وجه أبي تمام من أنه" يقول ما لا يُفهم" ينطبق على واقع شعرنا الحديث الذي يجب ألاّ نواجهه بما واجه به أبو تمام منتقديه :" لماذا لا يفهمون ما يُقال؟" فآلة النقد الحديث وما تمتلكه من مناهج ووسائط نشر تحول دون ردّ أبي تمام.

الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدينوإذا أُعجب المتنبي بشرح ابن جنى شعرَه ، فأطلق صيحته الشهيرة : «ابن جنى أعلم بشعري منّي» ، لم يجد شمس الدين ابن جنّي العصر الحديث في قصيدته الموسومة بعنوان «الخصائص» ، في إشارة إلى كتاب خصائص ابن جنى المعروف.

«كيف
مَن علّمك السحرَ
لكي تفتح بابَ الأبجديّة
وتفكّ الطلسمَ المختومَ
عن أسرار "أحمد" ؟
أيّها الشيخ الرماديُّ احتضني
فأنا اقتحم الصحراءَ وحدي
وأنا احمل وشمَ الشعراءْ»

إنّ مناخ مجموعة «النازلون على الريح» والذي يشير إلى تحوّل البشرية نحو البقريّة لا يطلب ابن جني العصر ليقدّم الشاعر إلى جمهوره ، لمجرّد التقديم ، ولكن ليقيم صلة خاصّة بين الجمهور وقائده الحقيقي (الشاعر / العارف) .
ابن جني مطلوبٌ مرّة ثانية لوظيفة أبعد من الشرح. الحاجة إليه وسيلة لصناعة بشريّةٍ متمتعة بالصحّة النفسيّة ، قادرةٍ على اجتراح إرادتها بعيداً من حياة القطيع. وإذا شكا شمس الدين غياب ابن جني الناقد ، فما هو رأيه بالشعر ؟ هل وصل إلى العرفانيّة الحقة التي تمكّن البشرية من صحتها النفسية إذا ما فسّرها لها الناقد ابن جني؟.

أعلن شمس الدين قائلاً: «فأنا أقتحم الصحراء وحدي» .
الاقتحام شجاعة واستيعاب لما يواجهه الشاعر المقتحِم. فهو على دراية بالصحراء،يعرف ما يريد، ويعرف كيف يعود بالبشرية إلى مأمنها، بعيداً من مشكلتيْ: التيه والحيرة. فهل سينجح ؟ أم أنه يعتذر منذ البداية من إمكانية أن يفشل خصوصاً أنّ الاقتحام يجري بلا معين (ناقد ـ ابن جني). يعني كلّ ذلك أنّ الرحلة العرفانية ، عند شمس الدين،إنّما تتحرّك ملتبسة بالرحلة الشعرية ، والشاعر، مع هذا الازدواج، يعيش مخاضاً صعباً.

«تتدافع في بابي أسئلةٌ
وجموعُ طيورٍ عمياءَ
حشودٌ لا أعرف كيف
تناسل منها الشكُّ إليّ
فأوُشِك أن أهوي تحت الأنواءْ
فاليقظة أغرتني
حتى صرت كبحّارٍ يسقط في قاع سفينته"(1)ص(14)
ما تلك اليقظة ؟ وبم أغرته ؟
«سبعون من السنوات تساوي
خمس دقائق من أيّام حبيبي
كيف إذن أتدبّر أحوالي فيها ... أوّل ما يبدو لي
أن أغفو
سنواتٍ لا عدّ لها ... كانت يقظة أحلامي فيها "(2)ص(13-14)

(اليقظة) هي الاغفاءة . وان تتساوى الاغفاءة واليقظة . يعني أن كلاًّ من الطرفين : اليقظة والاغفاءة يخفي الآخر تحت قميصه . وتمحور هذه الثنائية الضديّة ، في الأصل ، حول دلالة مشتركة واحدة يعني أننا خرجنا من دائرة العقل والعقل العلمي ، في هذه المرحلة الثقافية ؛ لأن اليقظة والاغفاءة كليهما ، وبدلالتيهما الوضعيتين إنّما تنتميان إلى دائرة ذلك العقل إيجاباًأوسلباً . اليقظة في الأصل وعي قائم تحت سلطة العقل ، والاغفاءة هي غياب ذلك الوعي ، تتحدّد حقيقتها قياسا على حدود سلطة ذلك العقل نفسه. ونصل من كل ذلك إلى أنّ إنزال الوعي العقلي من عليائه  هو لصالح الوعي العرفاني «أن أغفو ... كانت يقظة أحلامي فيها».

فالحلم هو الرحلة المعرفيّة العرفانية التي يصبح معها العقل والعقل العلمي هامشاً لا حاكماً متحكِّماً . والسؤال الذي يحضر في هذه الوضعية : هل الانتقال من تعالي العقل إلى تعالي الحلم انتقال بسيط ميسّر؟. إن اليقظة التي اقتضتهاالاغفاءة (الحلم)، فأغرته ، لم تقدّم له معرفة سائغة.

«تتدافع في بابي أسئلة
وجموعُ طيور عمياءُ
حشودٌ لا أعرف كيف
تناسل منها الشكّ اليّ »

إنّ اسناد الفعل (تتدافع) الدالّ بصيغته الصرفية (تتفاعل) على طورٍ من الحركة مجهول النهايات ، إلى كلمة (اسئلة) النكرة التي تخفي إطارها الدال على حقيقتها ، بما يقدّمها مشبعة بالحيرة والقلق ، وتعديته إلى باب الشاعر بوساطة حرف الجر (في)إنّما يضع الشاعر أمام ما يشبه الفوضى بسبب ذلك التدافع. فالمتدافعون متنافسون للفوز بما هو نادر ، أو للنجاة ممّا هو مكروه ،وفي كلتا الحالين اضطراب وعدم توازن.

والشاعر لم يسند فعل التدافع إلى أسئلة حائرة قلقة فحسب، أسندها إلى (جموع طيور عمياء) من ناحية ، وإلى (حشود تناسل الشكّ منها إليه)من ناحيةأخرى.وإذا كان العماءُ ، عماءُ الطيورَ ضياعاً ، فإن الشكّ عاصفة مزلزلة لأيّ توازن مهما كان ركينا. وتقود مثل هذه الوضعية الشاعر ليرى نفسه «بحّاراً يسقط في قاع سفينته». وإذا أومأت كلمة (بحّار) إلى السفر ، والسفر العرفاني ضمناً، فان سقوط ذلك المسافر في قاع سفينته إشارة قويّة إلى ما هو سلبي.فهل سيكون هذا السلبيُّ الفشلَ أم المخاضَ المبشِّر؟.

«ووقفت أحدّق في خمس دقائق من أيّامي
وتحدّق بي
ماذا أفعل ؟»

وإذا كان سبعون عاماً من حياة الشاعر خمس دقائق من أيّام الربّ ، فما قيمة خمس دقائق من أيام الشاعر ؟ مع قصرها ، فانها قد أتاحت له أن يرى :

«قدري شكّي
كنت بدأت أحسّ الجوعَ
وشدّتني رغبات شتّى
نحو السير بلا هدف ...
واستئناف العشق ، وما أدراك ،
على الأرصفة الصغرى»

أن يكون قد بدأ يحسّ بالجوع من ناحية ، وان يكون قد شدّته رغبات شتّى نحو السير بلا هدف من ناحية أخرى ، يعني أن الشاعر، مع كلّ ذلك، قد تخلّص إلى حدّ معقول من الاضطراب الذي كان قد عاشه في أوّل عهده بالسفر . ذلك أن الإشارة إلى استئناف العشق ، وان كان على الأرصفة الصغرى ، لا الكبرى ، وما تحمله من معاني ، لا يؤكد ذلك التخلّص فحسب ، ولكنّه يومئ إلى أنّ القلق والاضطراب وعدم التوازن الآنف إنما كان بسبب عشق خفيّ كان يعتمل في حياة الشاعر . العشق هو منتج ذلك المخاض العسير . ولئن عانى شاعرنا الام المخاض بسبب ذلك العشق الخفي ، فان ذلك لا يعني الوصول.

«لا جدوى
لم ينفعني في شيء
إذ حين أخذتُ إنائي المغلق بين يديّ
وصرتُ أصبُّ الماءَ عليه
وجدتُ الماء مضى هدراً
ما نفع الماء المتدفق فوق إناء مغلق ؟
أفكار عاطلة
في زمنٍ أخرق
وإناء مقلوبْ».

إلام يجرّنا ذلك الإناء الذي قُدِّم مغلقاً مرّة ، ومقلوباً في اللحظة نفسها ؟ وإذا حمل ذلك الإناء،مجرّدا، رمزية الاستيعاب ، فما الذي يحمله الماء المهدور من رمزية ؟ هل هو المعرفة الضائعة ؟ ولئن كانت رحلة الشاعر العرفانية العشقية بلا جدوى ، فلماذا تجشّمها ؟ وهل يحمل (عدم الجدوى) اليأس والإحباط؟.

تستحضر الإشارة إلى الأرصفة الصغرى ، في ذهننا ، الأرصفة الكبرى . وما هو عشق على الصغرى ،قد لا يكون عشقاً حقيقياً على الكبرى . واكتشاف أن الإناء الذي كان مفتوحاً في وضعية ، وقد صار مغلقاً مقلوباً في وضعيّة أخرى هو مؤشّر قويّ يومئ من خلال الضدّ إلى الضدّ ، إلى الطريق بشكلٍ غير مباشر . وهذا مستوى من مستويات الكشف على كل حال . وإشارة الشاعر :

«كنت شريداً
أخبط فوق الرمل بأسمالي " (1)- النازلون ، ص 18 .
إنما تصبّ في مجرى ذلك الاهتداء . وان يجد هذا المسافر نفسه بحّاراً بما يتيح له أن يقول:
«السمك الغائر في القاع أبي
والسمك الدائخ منه فوق الموج أخي ...»
 وأن يتساءل : «فلماذا اصطاد إذن جسدي ؟(2)م.ن،ص 18.

يعني أنه قد قارب الايمان بوحدة الوجود ، خصوصاً أن الشاعر يحدّثنا عن وضعيته الجديدة قائلاً :

«وأنا طفلٌ يحبو نحو الماءِ
يحاول أن يلفظ حرفاً
ويهجّي الكلمات الأولى
ولعَلّ بهذا البحر جبالا
ومسالك لا يعرفها إلا الغوّاصون
ولعلّ به
ما يشبهني من شغفٍ وخيالْ
ولعلّ به سفنا
ومراكب ما زالت في سفرٍ
وعليها نوتيّون سكارى
وقراصنة جوّالون
ولعلّ كنوزاً في القاع» . (3) _ م.ن، ص 19.

الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدينإنّ ثنائيّة (طفل /بحر) ثنائيّة رامزة. فالطفولة ولادة، والبحر هو الوجود المطلق الذي تعطيه الطفولة (الولادة) حقيقته، عبر السفر الكشفي في عبابه. ومهما يكن من أمر، فان أسناد الفعل (يحبو) إلى الطفل (الشاعر) وتعديته إلى الماء، تُخرِج الطفلَ من الطفولة البيولوجية لتنقله، من خلال عملية الخروج هذه، من دائرة تعالي العقل العلمي إلى دائرة تعالي العرفان، وتخرج (الحبو) من انتمائه إلى جسد الطفولة إلى تعبيره عن بداية السفر، خصوصاً أن هذا (الحبو) متجه نحو الماء بما يرمز إليه. فبالماء يقول الله : (جعلنا كل شي حي). ويفيدنا هذاأنّ محاولة أن يلفظ حرفاً، ويهجّي الكلمات الأولى، هي إشارة إلى انتهاء المخاض، والانتقال إلى وضع الأقدام على الطريق. والولادة التي تلت المخاض هنا ،تشبه،إلى حدّ بعيد،الدخول إلى عوالم النبوّة.

ويبدأ سفر الشاعر بولادة العالم من جديد :

«ألفٌ
الفان من السنوات
تمرّ كمرّ سحاب
فوق الغمر
الغمر يحدّق في وجهي
وأنا في وجه الغمر
كساريتين معاً
في فلك يتأرجح كالسكران
ومعاً نمضي»

الموازاة بين وجه الشاعر ووجه القمر لا تومئ إلى وحدة الوجود فحسب ، ولكنها تومئ إلى أن الزمان، على امتداده،قد تجمّع في لحظة واحدة أيضاً.

«ألف
الفان من السنوات
تمر كمرّ سحاب» .

والسفر، بناء على ذلك ، سفر داخل وحدة الوجود ، داخل لحظيّة الزمان ، وان ظلت القسمة بين وجهي  الوجود :وجهِ الانسان (الشاعر) ، ووجهِ (المكان / الزمان) قائمة . فالذات ما زالت حاضرة ، والذوبان (الفناء) لم يحصل بعد ، وان مثّل كلُّ ذلك منزلاً على الطريق . ولعل لحظة تحديق القمر في وجه الشاعر ، وتحديق الشاعر في وجه القمر هي حال أدركها هذا الصوفي المسافر الذي بدأ يتحسّس أبعاد النبوة في ذاته التي عاشت إرهاصاً جديداً وولادة جديدة.

«أحياناً
أشعر أن البحر أسيرُ في كفي كالعصفور
ولخمس دقائق من أيام الربِّ
أعدت الشعر صبيّاً
غادرني الشيبُ
وسبعون شتاءَ وخريفا
سقطت خلفي
وتكاد عظام الموتى
تنهض حين أكلّمها
من فرط الشوق
وترجع نحو الصفر
تقاويم التكوين».

يشير ظرف الزمان (أحياناً) إلى أن تملّك الشاعر زمامَ النبوّة لم يصر ثابتاً . تأتي هذه الحال (انخطافاً) لا لتستقر، ولكن لكي تغيب مرّة أخرى. والشاعر في لحظة التمكّن (أحياناً) إنّما يراوده الشعور بالنبوّة. هذا الشعور الذي يقف في مواجهة سبعين سنة لم تُقدَّم بوجهها الجميل (الربيع والصيف). هي سبعون شتاء وخريفاً، إشارةُ الموت في مواجهة الانبعاث التموزي .هذه الاشارة التي تحمل بعدا ايجابيّا من خلال فرضيّة إمكانيّة الانبعاث. ولا تغفل عين الشاعر عن لحظة الحال (احياناً)، تستثمرها استثماراً كاملاً.

«أعدت الشعر صبياً
غادرني الشيب
... وتكاد عظام الموتى
تنهض حين أكلمها ..
... وترجع نحو الصفر
تقاويم التكوين»

وإذا كان (فرط الشوق) قد فعل هذا الفعل، فانه لا يخفي أن الشاعر يعيش قلقاً. وضعه الظرف (أحياناً) أمام عدم الاستقرار على وضعيّة ، وحالَ الفعلُ المضارعُ الناسخ (تكاد) بينه وبين اليقينية والشعور بالأمان في ظلال حالٍ تمهّد لحال أعمق وأشمل وأجمل ، ولئن استطاع الشاعر أن يقول :

«وكمثل نبيّ في أرض الربّ
غفوت هنا ملء جفوني
... وتركت الشكّ صبيّاً
يلهو
ويدبّ على بابي»
إلاّ أن ذاته البشرية ما زالت حاضرة .
«يقول صديقي :
ماذا تفعل ؟
.. لا تتركني أمشي وحدي بين الحدّين
لكني أمشي مثلك بين الحدين
فكيف تخاف».

صديقه هذا ليس سوى ذاته الثانية التي لم تغب بعد في أثناء هذا السفر المضني .

«وفتى مذعور القلب
بعيد مدى الرؤية ، يشبهني
وأنا أتقدّم في زحمة أيامي
في زحمة سيري
نحو الله».

لم يبلغ سفر الشاعر مرحلة الصفاء ، بما يوجب ان تتغيّص ذاته وتغيب بسبب شهود الحق، ومقام الانس مع الله . فهل سيكون ذلك عصيّاً على هذا السائر نحو الله؛لأنّه شاعر ، ولأنّه دخل مداخل العرفان مع أزمة العقل العلمي الذي يحاول الاستمرار في الحضور ، في مرحلة لم يعد معها قادرا على الاستمرار؟.

وهل يعني ذلك أنّ المنغّص هو العقل العلمي .؟ فلا هو في صحّة تمكّنه من الفاعلية ، ولا هو منزاح عن ساحة الفعل .
ما يمكن أن يُستنتَج هو أنّ السفر العرفاني سفر مشكليّ . فهل سيكون الشعر العرفاني مشكليّاً هو الآخر ؟

«كأنّما الوجود واضحٌ
كحبّة المطر
وقاطعٌ كالسيف أو كالحقّ
فهذه الرياح لا تبكي على أحدْ
وهذه الغيوم لا تحنو على القتيل
وكلّ ما في الأمر أنّنا
نريد ما نقول
ولا نقول ما نريد».

حين أسند الشاعر الفعلين : (نريد) و(نقول) إلى ضمير جمع المتكلّمين، إنّما أراد التعميم الذي يتجاوز شاعراً معيناً ويتجاوز الشعراء في إشارة إلى طبيعة البشر العامة . فالذات فاعل القول ، كما يُقدّر ، ليست كذلك . الحقيقة أنّ القول هو فاعل الذات (الإرادة).

«كل ما في الأمر أنّنا
نريد ما نقول
ولا نقول ما نريد»

فهل تحمل هذه الإشارةُ تلاقياً مع ما ذهب إليه "بارت" من أنّ اللغة سلطة تفرض علينا نظامها وتصنيفها  العالم ، فيصل بنا الأمر إلى أن اللغة هي التي تصوغ إرادتنا ، لا العكس ؟

استبق الشاعر هذا القلب في المعادلة معلّلاً حقيقته بقوله :

«كأنما الوجود واضحٌ
كحبة المطر
وقاطع كالسيف أو كالحق» .

فإذا ما أعطت حبةُ المطر الوجود، عبر المشابهة العكسية،صفة الخفاء،فإنّ كلّا من السيف والحقّ، وعبر المشابهةالعكسيّةأيضاً ،سيعطيان الوجود صفة المراوغة. وحين يكون الوجود هاتان هما صفتاه : الخفاء والمراوغة، فما الذي يستطيع الشعر أن يمسك به منه ؟ خفاءالوجود ومراوغته يؤدّيان إلى أن يكون القول عاجزاً  عن الإمساك بما هو حقيقي. كلّ ما في مقدوره هو أن يومئ إلى ذلك الخفاء وتلك المراوغة . فهل يعني ذلك رفع مسؤولية الشعر عن عجزٍ هو في الواقع حقيقة موازية لحقيقة خفاء الوجود ومراوغته.

 لا يصل بنا هذا إلى ما ذهب إليه "بارت"، ولكنّه إشارة إلى عدميّة وجودية تجرّ إلى عدميّة قولية جارَّةٍ لمجرورٍ بها هو الفاعل وإرادته . فهل يطرح هذا سؤالاً مرّا عن جدوى القصيدة؟.

عنوان هذا النصّ «مجاز(1)» ، وهو من ضمن مجموعة نصوص موسومة بعنوانٍ عامٍ هو «مجاز» . ويعني هذا الترتيب أن الحلقة الأولى من هذه السلسلة لا تشكّل إجابة بقدر ما تشكل سؤالاً قد تتكفّل الحلقات التالية من النصوص الإجابة عنه . إنّ الشكّ بصدقيّة المجاز وفاعليته.

«فهذه الرياح لا تبكي على أحد
وهذه الغيوم لا تحنو على القتيل»
هو شكّ بعدٍ واحد من أبعاد الذات ،خصوصا أنّ ذات الشاعر في النص الثاني «مجاز (2)» ثلاثية الأبعاد .
«... وحينما جلا الغبارَ عن جبينه
عرفته
وكنت قد طردته»

وإذا أومأت النقاط الثلاث التي ابتدأ بها النصّ إلى أننا أمام استئناف لحديث سابق «مجاز (1)»، وجدنا أنفسنا نراجع السؤال الذي طرحه علينا ذلك النصّ ، خصوصاً أنّ السطر الأوّل من النصّ الثاني هو كناية تشير إلى سفر فاعل (جلا) . والسفر لا يكون سفراً مجانياً . إنه سفر الذات الباحثة التي أشقت الذات المستكينة «وكنت قد طردته
لكي أعيش وحدتي كما أشاء». وطرد الذات الباحثة من الكينونة التي تسيطر عليها الذات المستكينة جعلت منها ذاتاً غريبة . فهل ستبقى غريبة ؟

«وها هو الغريب عاد كي يردّ لي أمانتي
وكي يعيدني إلى الرصيف هائماً مشرّداً»

إن الإعادة، إعادة الأمانة، والمترتبة على إعادة الذات المستكينة إلى رصيف التشرّد، ليست سوى تفعيل البحث حتى لو بدا الباحث هائماً مشرّداً، وعودة الوحدة بين الذاتين هي إيذان بتجلي عمقٍ ثالثٍ لهذه الذات. هو الذات الشاعرة.

«وبيننا يقول عندليب الدار
غرائب الأشعار»

إن (غرائب الأشعار) غير متّصلة بعدميّة القول التي لوحظت في «مجاز (1)» بأية صلة تسوّغها أو تقدّمها حقيقة مقبولة. هي إشارة إيجابية، جمالية حضرت مع عودة عمق الذات الباحثة إلى احتضان الذات المستكينة: «وكي يعيدني إلى الرصيف هائماً مشرّداً». هذه العودة التي ألغت عدميّة القول واعادت إليه نصاعته (غرائب الأشعار). ونتساءل هنا لماذا سار محمد علي شمس الدين في مضائق القول وأهواله. هل يومئ بذلك إلى كلمة مرّة تتردّد في حلقه ولا يستسيغها جهاز النطق عنده فيكتم صوتها .وهذا ما ويوضح لنا عمق معاناة هذا الشاعر ومرارة أوجاعه.

ومهما يكن من أمر، فان التيه والتشرّد بديلان جيّدان للاستكانة. هما خطوة إلى الإمام على درب جلجلة العرفان وهما بداية . يعني ان «غرائب الأشعار» ليست نهاية المطاف (المجاز الفاعل)، فهل سيتحوّل التيه والتشرّد إلى سيرٍ جاد؛ والوجود غير واضح ؟

«وجدتُ على حافة النهر وجهَ القمرْ
مريضاً وأصفر كالزعفرانْ
فقلت : أواسيه كي لا يغيبْ
وقلت : أسلّيه كي لا يُجنّ
وقلتُ : أحدثه بالذي بيننا»

القمر برمزيته النورانيّة العرفانيّة لم يكن على ما يرام . الوجود البهيّ المتمثّل بالقمر ، والنموذجيّ بالنسبة إلى عرفانيّ كان معتكراً . أن يكون وجه القمر «مريضاً وأصفر كالزعفران» يعني أنّه يعاني من حالٍ مرضيّة صعبة . وهو بسبب هذه الوضعيّة المرضيّة معرّض أن يغيب ، أو ان يُجنّ . وهل توجد وراء غيابه وجنونه حقيقة ؟ ما سبب هذا الداء ؟

«وقلت له : يا أخي وحبيبي
سلامة عينيك من ان يصابا بخيط من الحزن
كفيك من رجفةٍ
حين تصحو الشياطين من وكرها
والصواري تسافر عكس الزمن».

إنّ أزمة الوجود البشري ليست بسبب المأزق الذي وصل إليه العقل العلمي فحسب ، ولكن بسبب حضور النقيض (صحوة الشياطين من وكرها) و(سفر الصواري عكس الزمن) أيضاً.المأزق مضاعف بما يقدّم النورانيّة، متمثّلة بالقمر رمزاً، في أسوأ حالات بؤسها. وان يكون التيه والتشرّد شكلاً من أشكال التماسك في زمن الارتداد عن العقل العلمي، لا يعني أننا في وضعيّة صحيّة، واننا في أحسن حال. إنه الحد الأدنى من التفاؤل. وحين تكون وضعيّة الوجود البشري على هذه الحال، ماذا على الشاعر أن يقول، أو أن يفعل ؟

«وحين رأيت حروفي
تدور على نفسها كالرحى
وناب الأفاعي يمزّق حتى الكفن
سكتُّ
وأدركت أني أكلم نفسي
ويضحك مني المجاز».

إنّ ظاهرة «النازلون على الريح» الذين لم يستطع راعي الغنم بصحراء تدمر ان يخبر

«عمّن اتوه من الغيب
ثم استراحوا على جلدِ ماعزهِ
قتلوا الشاةَ
ناموا وقاموا ولكنهم لم يصلّوا
حفروا فوق سجّادة الخيمة البدوية
اسماءهم بالسكَاكين ِ
اعرفهم واحداً واحدا
واعرف من أي كهف الأساطير جاءوا
واعرف آباءهم
والمياه التي اخترقت جوف اصلابهم».

إنّ هذه الظاهرة قد تجاوزت الكائن الحيّ وما بناه عبر الزمن إلى القبور في محاولة لاسدال اللون الأسود على الوجود البشري. وهذا ما جعل المسافة بين القول والمجاز (الشعرية) مسافة غير قابلة للاجتياز. فهل عدنا إلى المربع الأوّل «مجاز (1)»، وعدنا إلى السؤال عن جدوى القصيدة ؟.

إننا وإن تقدّمنا خطوة إلى الأمام، فلم نعد قابعين في دائرة عدميّة القول (نريد ما نقول)، وبتنا نعرف أنّ هناك قولاً، وعلينا الوصول إلى مستواه (المجاز)، فكيف يكون ذلك ؟.

"شمس الدين" .. حين يتحوّل الشعر إلى العرفان ..بأية لغة؟!..نصل مع «مجاز (4)» إلى نوع من أنواع التيه الذي خفّف الشاعر من غلوائه حين استخدم بديلاً عنه كلمة (غربة). الغربة أخفّ وطأة من التيه. فالخروج من الغربة معروف الدرب مهما كان شاقاً وصعباً ومرّاً، أمّا الخروج من التيه فانه مجهول الطريق.

«تعيش غربتين: غربة المجاز حينما يضيع في الحقيقة
وغربةَ الحقيقة التي تضيع في المجازْ
كأنّما الاعجاز أن تظلّ صامتا
وان يدير ملكَك الخدمْ».

ان يتخلّى الملك عن إدارة ملكه للخدم يعني أنه في مأزق حلُّه ليس في المدى المنظور، وأن يصمت الشاعر الكبير تاركاً الشعر لمن درسوا البلاغة في «تلخيص» القزويني من دون أن يكون لهم من ثقافة العصر نصيب ، يعني أنه يعاني أزمة تعوّقه عن النطق. والصمت ليس استسلاماً، ولكنه انتظار، انتظار الغريب أن يعود. فلا المجاز (الشعر) قادر على الامساك بالحقيقة التي تمثّل تيهاً بالنسبة إليه، ولا الحقيقة متملّكة قابليّة التجلّي بالمجاز الذي بات يمثل هو الآخر تيهاً بالنسبة إليها. هل يعني ذلك أننا عدنا إلى مربّع (عدميّة القول)، أم أننا قد ابتعدنا عنه خطوة إلى الأمام. إن وجود(مجاز سفر)، وإن لم يكن بالمقدور إدراكه حالياً، هو وجود إيجابي. ونعمة (الصمت) (الانتظار) تمثل خطوة إلى الأمام في هذا النفق المظلم الذي تمرّ به الثقافة البشرية في هذه المرحلة.

في «بكاء بلا طلل» :
«وصُعِّد بي نحو العلى
فسموتُ
وحين وصلتُ إلى سدرةِ المنتهى
سمعت على الشجر الطيرَ أوّابةً
بلا طللٍ دارسٍ
وهي تبكي»


إنها سدرةً المنتهى. وصلها الشاعر، فماذا بقي؟ ما الذي أبكى الطير؟ هل وصلت الثقافة البشريّة إلى مرحلة معاكسة لما كانت عليه يوم وجد طيور فريد الدين العطار الثلاثون الذي وصلوا إلى سدرة المنتهى أنهم طير واحد (السيمورغ) ؟ وهل تسير البشريّة في طريق انحداري، وأزمة العقل العلمي تتجاوز أزمة العقل المجرّد بما لا يُستطاع تجاوزه ؟ ما الذي أحضر الطير يسمعها الشاعر تبكي على الشجر أوّابة ؟ البكاء على طلل دارس مسوّغ وواضح الدلالة.ما معنى البكاء بلا طلل ؟ هل يشير ذلك إلى عدم وجود المعشوق ؟ هل ذلك هو ما أبكى الطير ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الوصول إلى سدرة المنتهى ؟ هل نحن أمام مشكليّة؟.

يصيخ الشاعرُ السمع إلى والده وهو يقول له :

«أنت نسيت الفكرة يا ولدي
وأضعت العبره
فالقبلة حيث توجه وجهك نحو الله
كانت ما بين اثنين يضمهما شغف الحب
وما زالت»
فيُواجه باشتعال الكشف بالعشق، والعشق بالكشف، فيرى نفسه
«صاعداً في ياء "ياسين"
إلى ميم "محمد"
... أخذتني نشوةُ الحال قليلاً فسكرتُ
وسألت الشارب الساقي علام الانتظارْ
صُبَّها قبل طلوع الفجر، سبعاً،
واسقنيها
قبل ان يكشفنا ضوءُ النهارْ»
ومع كلّ ذلك، يبدو هذا العشق وذلك الوصال عشقاً ووصالاً منغّصين.
«سألت صاحبي، وكان هادئاً
من ذا الذي قتلهُ ؟
فقال لي : في البدءِ كان الحبُّ
أجبته : في البدءِ كان الخوف»

وإذا كان الخوف إشارة سلبية تقدّم العشق عشقاً منغّصاً، فان السفر الخائف من الصباح لن يكون سفراً محمولاً بنشوة حقيقيّة. قد تكون تلك النشوةُ برقاً خُلّبا.

«سألتُها عن اسمِها
فلم تُجِبْ
وحينما تراجع الضبابُ
وانجلتْ عن الكروم غيمةُ التعبْ
نظرتُ نحو الحقل لم أجدْ
سوى فزّاعة القصبْ»( )

فهل يخفي الخوف الذي رآه الشاعر «في البدء» فزّاعة القصب هذه. والحديث عن حب في البدء مجرّد توهّم لا حقيقة وراءه ؟.

يخاطب الشاعر نفسه قائلاً :

«يا أيُّها الولدُ الشّقيُّ لعلّها فوضى
ومحضُ خديعةٍ
ولعلّ شيئاً ما هنالك لم يكنْ
لا أنت
لا السفر الطويلُ
ولا القطارْ»

(لعل) التي تكرّرت مرتين لا تحمل بين برديها الشكّ وحده. هي مفعمة باليأس والاحباط. نفي الوجود (لم يكن) لا يطال السفر وأداته القطار فحسب ، يطال الشاعر نفسه (لا أنت). وإذا كان الشك الديكارتي طريقاً إلى اليقين في ظل العقل المجرّد، فان الشك عند شمس الدين إشارة قوية إلى المأزقيّة الوجوديّة، في هذه المرحلة من التاريخ البشري. وهل لنا أن نتساءل فنقول: إذا وصلت الماركسيّة إلى مأزقها مع نظرتها إلى نفسها على أنها نهاية الفلسفة، والتفكيكية مع فوكوياما إلى نهاية التاريخ، فهل يعني أننا نعيش زمن اللعنة، أم أنّ وراء هذه الغلالة السواد نوراً قد يبزغ؟. ينتظر هذا النورُ صوغَ أسئلة المرحلة على يد مفكّرين وعوا مأزق الثقافة والوجود البشري.

تلك الاسئلة التي تمثل الدليل إلى عرفان هذا الزمان. قد يتمثّل هذا العرفان في تأصيل ثقافة دينية حديثة ترتكز إلى تكريم بني آدم  فالطريق إلى الله هو طريق الانسان إلى انسانيته. وحين يكون الطريق الثاني بخير يكون الطريق الأوّل بخير أيضاً. فغاية العرفان تحقيق انسانيّة الإنسان على الأرض. وما وصل إليه سلوك شمس الدين العرفاني هو أنّ الثقافة تعيش مأزقاً خانقاً. ويعني ذلك أن عين شمس الدين هي عينُ عينِ العارف. وما كان له أن يصل إلى النشوة العظمى في ظل مأزق الثقافة الحاليّة الذي يتفرّع من مأزق العقل العلمي.