ليس سراً أن الأميركيين لا يتمتعون بشعبية في الأوساط الإيرانية، رسمية كانت أم شعبية، وذلك منذ أطاحت الثورة الإسلامية عام 1979 الشاه محمد رضا بهلوي المدعوم من واشنطن،
ليس سراً أن الأميركيين لا يتمتعون بشعبية في الأوساط الإيرانية، رسمية كانت أم شعبية، وذلك منذ أطاحت الثورة الإسلامية عام 1979 الشاه محمد رضا بهلوي المدعوم من واشنطن، وأقامت مكانه جمهورية إسلامية أطلقت على الولايات المتحدة لقب "الشيطان الأكبر"... لكن ما لم يكن متداولاً بشكل علني أن الإيرانيين يضمرون كراهية أكبر للبريطانيين الذين استعمروا بلادهم لعقود، ولا يزالون حتى اليوم يلعبون دوراً كبيراً في الأحداث لا بل يشكلون رأس حربة الهجوم العالمي على إيران. ومن الأمور المثيرة للسخرية، كما كتب روبيرت فيسك في "الاندبندنت" البريطانية أن الإيرانيين يعرفون تاريخ العلاقات البريطانية-الفارسية أفضل من الإنكليز أنفسهم، ففي فترة ما بعد الثورة طلبت وزارة الإرشاد الإسلامية من مدير مكتب "رويترز" في طهران هارفي موريس نبذة عن تاريخ وكالته، فأرسلت له الإدارة في لندن سيرة البارون فون رويترز، وإذ به يكتشف أن مؤسس احدى أهم وكالات الأنباء في العالم هو الذي بنى سكك الحديد في إيران وحقق أرباحاً خيالية، وأنه كان أسوأ من الشاه نفسه.
ولا يمكننا طبعاً أن ننسى المساعدة التي قدمتها بريطانيا لأميركا للإطاحة برئيس الحكومة محمد مصدق المنتخب ديموقراطياً عام 1953 عقب تأميمه شركة النفط البريطانية - الإيرانية، ويومذاك أوقف مصدق واستطاع الشاه الشاب أن يعود منتصراً ليفرض حكمه بدعم من "السافاك". هذا بالإضافة إلى أن الوثائق التي كشفت بعد اقتحام السفارة الأميركية في طهران، أظهرت تعاون الاستخبارات الأميركية والبريطانية ضد حكم الإمام الخميني.
واليوم جاء اقتحام الطلاب الإيرانيين للسفارة البريطانية عشية القرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية بفرض عقوبات على إيران ووقف التعامل مع المصارف الإيرانية، وما أعقب ذلك من قرار إيراني بطرد السفير البريطاني من طهران، ليشكّل صدمة عالمية، فالحدث تجاوز كونه كرهاً تاريخياً أو حتى كونه رداً على سياسة العقوبات التي تتبعها لندن تجاه الجمهورية الإسلامية، ففي الحدث دلالات على أن الغضب الإيراني من السياسات الغربية قد بلغ ذروته، وصبر إيران قد نفذ، خاصة بعد عمليات أمنية استهدفتها في الفترة الأخيرة إن كانت داخل نطاقها الجغرافي أو خارجه. والحدث الذي نتكلم عنه هنا يعلم الإيرانيون جيداً أنه لن يمر مرور الكرام، خاصة وأن الخطة الغربية الأساسية في عملية تفكيك المنطقة تقتضي حالياً الضغط بكافة السبل على سورية من جهة وإيران من جهة أخرى، حتى لا تستطيع طهران أن تساعد حليفتها في مواجهة العدوان الغربي - العربي عليها، وعلى ما يبدو فإن الخطة الأميركية بتدمير سورية أولاً والاستفراد بعدها بإيران قد عدّلت لتشمل البلدين في الوقت نفسه. وبالتالي كانت إيران على علم مسبق بأن هذا التصعيد، وإن نفت علاقتها الرسمية به، سيعرّض علاقات الجمهورية مع الاتحاد الأوروبي إلى خطر الإنهيار بالكامل وتصنيف الإتحاد الأوروبي في معسكر عدائي واحد مع أميركا.
وبالتزامن مع هذا الحدث برز تهديد قائد سلاح الجوّ في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زاده بضرب الدرع الصاروخية الأطلسية في تركيا، والذي سارعت تركيا إلى الإحتجاج عليه واستنكاره. هذا التصريح شكّل صدمة أخرى على الصعيدين الإقليمي والدولي، فهذه المرة الأولى التي يصدر فيها عن طهران تهديداً عسكرياً مباشراً تجاه أنقرة على الرغم من مرورهما سابقاً بعدة أزمات لم يصل فيها الخطاب إلى هذا المستوى من الحدية، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على الإنزعاج الإيراني غير المسبوق من الأتراك وعدم قدرتها بعد اليوم على الفصل بين سياسة تركيا الإقليمية وعلاقتهما الثنائية، وهذا ما كانت طهران تحاول فعله للحفاظ على "شعرة معاوية" مع أردوغان.
أما على صعيد العلاقات بين طهران والغرب فهي متأزمة منذ انتصار الثورة الإسلامية، ومن أبرز ملفات الخلاف هو الملف النووي الإيراني الذي تتحمل الجمهورية الإسلامية أعباء العقوبات التي فرضت عليها بسببه، ولكن حتى هذا الملف وعلى الرغم من أهميته الإستراتيجية لم يحمل بالنسبة لطهران صفة المستعجل في يوم من الأيام، بل اعتمدت سياسة النفس الطويل في التعامل معه كما جميع ملفاتها وخلافاتها، فما الذي تغيّر الآن ؟!
مصادر إيرانية مطلعة أكدت لـموقع قناة المنار أن "أزمة إيران مع الغرب في سورية استدعت هذا التدخل العاجل من طهران"، وهو تبدّل غير مسبوق في السياسة الإيرانية ! وتتابع المصادر "بعد التشكيك في موقف طهران من تطوّر الأحداث في سورية كان لا بد من إعلان قرار واضح وصريح من قبل القيادة الإيرانية، واستتبع الإعلان بالتلويح بضربة عسكرية لو شعرت إيران بخطر يداهمها جراء نشر الدرع الصاروخية الأميركية في تركيا، ولكن واهم من يظن أن سبب هذا التصعيد هو الدرع وحده، إنما السياسة التركية تجاه النظام السوري هي السبب الحقيقي، خاصة وأن تقاريراً استخباراتية عدة مرفقة بوثائق تؤكد أن عملية إسقاط نظام الأسد لن يقف عند حدود تقسيم سورية، وبحسب هذه التقارير ستمتد الموجة لتضرب إيران بهدف تقسيمها وإقامة ما يسمى دولة بلوشستان الكبرى"، هذا من جهة، أما من جهة أخرى تضيف المصادر بأن "إقامة شرق أوسط جديد بحسب المخطط الأميركي – الغربي هدفه النهائي والأساسي توجيه ضربة قاضية إلى دول الشرق الأقصى والإستفراد مجدداً بحكم العالم من خلال سياسة القطب الواحد".
لذا قامت إيران بـالتصعيد المضاد تجاه المعسكر الغربي – التركي مع تحييد الإصطدام حالياً بالدول العربية الداعمة لهذا المشروع كونها بحسب الإيرانيين تشكّل أداة فيه ولا تملك سلطة اتخاذ القرار، وتقول المصادر إنه "من المرجح أن تنتقل طهران في التعامل مع الهجمة عليها وعلى سورية من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل على نطاق واسع، أو بعبارة أخرى توسيع جبهة الإشتباك، فتعدد محاور الحرب على سورية من تحريض إعلامي متواصل وضغوط سياسية يومية وعقوبات إقتصادية مباشرة والتهويل بمناطق عازلة وعدوان عسكري، يضاف إليها عمليات عسكرية على القوى الأمنية السورية والمدنيين وعمليات الإغتيال، كلها عوامل دفعت القيادة الإيرانية إلى إعلان غير رسمي عن بدء مرحلة المواجهة الشاملة".
إذاً نحن اليوم أمام مشهد تدخل إيراني مباشر لحماية نفسها وحماية سورية بعدما اتضح جلياً أن جامعة الدول العربية تسير وفق الأجندة الأميركية، وهذا "ما لم ترد دوائر صناعة القرار في طهران أن تصدقه في البداية" بحسب المصدر، فبقيت الجمهورية الإسلامية متأملة بدور سعودي مشرّف على الأقل، وهذا ما لم يحصل، بل جل ما فعله العرب هو تغطية الحرب على العراق عام 2003 وعلى لبنان عام 2006، والمشاركة بعدوان الناتو على ليبيا، وأخيراً الدفع باتجاه تدويل الأزمة في سورية بدل أن تساهم في حلها. كل "الإنجازات" العربية هذه، شكلت تخطياً لجميع الخطوط الحمراء وأثبتت لمحور المقاومة والممانعة أن الدور العربي ميؤوس منه، ولم يعد لدى الإيرانيين مبرر للبقاء خلف الكواليس والسماح لأعدائهم بالتحكم بمسار العدوان اللامحدود على سورية ومحور المقاومة. ويبقى سؤال محيّر: هل ستُفرض حرب على المنطقة نتيجة انعدام خيارات الحلول الأخرى ؟
يمكنكم التواصل مع نادر عزالدين على بريده الالكتروني
Nader.ezzeddine@hotmail.com