ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: لا تزال المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة تعيش حالة من الاهتزاز الأمنيّ والسياسيّ في أكثر من موقع، نتيجة التدخلات الأمريكية والأوروبية في شؤون شعوب هذه المنطقة، مستفيدةً من حاجة هذه الشعوب إلى الحرية وتأمين سبُل العيش الكريم، وأجواء التوتر الطائفي والمذهبي الذي يعصف بهذا العالم وكل الواقع السياسي المهترئ الذي لا يتطلع إلى مصالح شعبه وحاجاته ومستقبله...
وهذا ما نشهده في العراق، حيث تنشط الأجهزة التابعة للدول الاستكبارية، وكل الذين لا يريدون الاستقرار للعراق، لمنع العراقيين من توحيد كلمتهم وبناء دولتهم القوية والقادرة، وإزالة كل الآثار التي ترتّبت على الاحتلال الأمريكي، وكل التداعيات التي أنتجها على الساحة العراقية، من مآسٍ اجتماعية، وانقساماتٍ عرقية وطائفية ومذهبية وسياسية...
إنَّنا، وفي هذا المجال، نعيد التَّأكيد للشَّعب العراقيّ العزيز، بكلِّ أطيافه ومذاهبه وتنوّعاته السياسيَّة، على ضرورة العمل السَّريع لتجاوز حال الانقسام السياسيّ الحاصل في العراق، وإخراج الصِّراع فيه من إطاره الطّائفيّ والمذهبيّ، إلى إطاره السياسيّ والقانونيّ، منعاً لعودة الفتنة المذهبيَّة والطّائفيَّة الّتي لا تقتصر تداعياتها على العراق، بل تمتد إلى كلّ المنطقة، ولا تزال تعاني من آثارها...
إنَّنا نعتقد أنّ وعي القيادات العراقيّة لخطورة انقسامها، والآثار المريرة التي تترتب عليه، سوف يجعلها تتخلّى عن كلّ حساباتها الضيِّقة لحساب الصالح العام الذي يخدم كل فئات الشعب العراقي الذي يتطلع إلى دولة تؤمن أبسط مقومات عيشه، ولينطلق من القاعدة الّتي رسمها أمير المؤمنين(ع): بعدما أُبعد عن حقه، فقال: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين".. لتكون القاعدة في العراق: "لأسالمنّ ما سلمت أمور العراقيّين"، ولا سيما في ظل التفجيرات الأخيرة الدامية التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى، والتي طاولت المدنيين والزائرين لمقام الإمام الحسين(ع) في ذكرى أربعينيته، والتي أعادت إلى الأذهان الصورة الدامية التي كنا نأمل أنها طُوِيت نهائياً، والتي نرى الهدف منها هو خلق مناخات عودة التوتر المذهبي والطائفي وإشعار العراقيين باليأس من واقعهم ليقبلوا أي واقع قد يُفرض عليهم...
إننا نقول لكل الذين يتحملون المسؤولية في العراق، ألا يكفي هذا النزف حتى تجلسوا حول طاولة واحدة لتفكروا بكيفية وقاية الشعب العراقي من العابثين بأمنه وأنتم تعلمون أن لا أمن إلا من خلال التوافق السياسي، ولا سيما في هذه المرحلة...
أمّا في التطوّرات الأخيرة في المشهد السوريّ، فإنّنا نلاحظ نعي الإدارتين الأمريكيّة والفرنسيّة لمهمّة المراقبين العرب، مع أنّ هذه المهمّة لم تكتمل، ولا تزال في بداياتها، وتحتاج إلى تعاون الجميع، وقد حملت في طيّاتها إيجابيّات يمكن البناء عليها...
إنّ هذا يشير إلى أنّ الإدارات الغربيّة، وعلى رأسها الإدارة الأمريكيّة، لا تريد للمبادرة العربية أن تصل إلى أهدافها في إيجاد جو من الهدوء يخلق مناخات لحوارٍ جدي بين مختلف أطياف الشعب السوري وتنوعاته، بل تريده جسراً من أجل الوصول إلى التدويل الذي يسمح بالإمساك بالملف السوري لإخراج سوريا من الدور الذي تؤديه في مواجهة المشاريع العدوانية في المنطقة...
إنّنا في الوقت الّذي نؤكّد استمراريّة المبادرة العربيّة، وضرورة إعطائها كلّ الدّفع والوقت لكي تستكمل فرصتها الحقيقيَّة، نعيد التّأكيد على الجامعة العربيَّة أن لا تخضع للضّغوط الغربيّة الّتي تريد للتّقرير النهائيّ للمراقبين العرب، أن يكون لحساب أهدافها في إغراق سوريا في لجّة الاستنـزاف الأمنيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، حتّى يكتمل المشهد الدّامي في المنطقة العربيّة والإسلاميّة لحساب المصالح الاستكباريّة، وتعمل بكل جهدها لإيجاد سبُل الحل الذي يضمن الاستقرار لسوريا ووصول الشعب إلى أهدافه في الحرية والعيش الكريم...
أمّا الجمهورية الإسلاميّة في إيران، فإنّنا نلاحظ تصاعد حدّة الضّغوط والتّهويلات الّتي تطاولها على مستوى عملتها واقتصادها، وحتى أمنها...
إنَّنا ندرك حجم المؤامرة السَّاعية لإضعاف إيران كي لا تملك أي موقع من مواقع القوة ولا تتابع دورها في دعم قوى المقاومة التي تقف في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ، والسياسات الاستكباريّة...
إننا وانطلاقاً من هذا الواقع، نعيد التأكيد على الدول العربية والإسلامية بضرورة الوقوف صفاً واحداً في مواجهة الضغوط التي تتعرض لها الجمهورية الإسلامية في إيران، وأن لا تسمح لكل الذين يعملون على انقسامها من خلال التلاعب بالوتر الطائفيّ والمذهبيّ والقوميّ، لأنّ أيّ إضعافٍ لأيّ بلد إسلاميّ هو إضعاف للأمّة كلّها، وسقوط أيّ بلد تحت وطأة الضّغوط الاقتصاديّة، سيكون مقدّمةً لاستعمال هذا السّلاح مع الدّول الأخرى...
لقد آن الأوان لكلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة، أن تعي أنّ قوّتها لا تنبع من شراء طائرات لا تملك قرار استخدامها، نتيجة سياسة التخويف التي تتبعها الدول الاستكبارية مع دول المنطقة، بل من توحّدها وتقوية بعضها بعضاً، انطلاقاً من قول الله تعالى: {محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، ومن حديث الرّسول(ص): "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً"، "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسّهر"...
وبالعودة إلى فلسطين، فإنّنا نخشى من الآثار التي تترتب على الجهود الأخيرة السّاعية لإحياء المفاوضات بين السّلطة الفلسطينيّة والعدوّ، وخصوصاً بعدما عمل هذا العدوّ على ملء الضفّة الغربيّة بالمستوطنات، وتهويد القدس في شكلٍ جذريّ وشامل منذ توقّفت المفاوضات.. إنّنا نرى في ذلك إخراجاً للعدوّ من طوق العزلة الّتي أصيب بها عربيّاً بعد الحراك الشّعبيّ، ودولياً بعد رفضه تقديم الحدّ الأدنى من الحقوق للفلسطينيّين. ونعيد التأكيد على القيادات الفلسطينيّة، بعدم تكرار التجربة التفاوضيّة الّتي لن تعيد حقّاً فلسطينيّاً، ولن تحقّق أيّ مصلحة للفلسطينيّين، بل هي مجرّد كسب وقت للزّحف الاستيطانيّ وتهويد القدس أكثر، واستكمال المشروع الصّهيونيّ في الإطباق على الضفّة الغربيّة في شكل كامل...
إنّنا نعتقد أنّ البديل عن التّفاوض مع العدوّ، هو العودة إل الحوار مع الذات، والعمل الجدّيّ لتكريس المصالحة الفلسطينيّة الدّاخليّة، ليكون شعار هذه المصالحة: نريد فلسطين كلّها من النّهر إلى البحر...
أمّا لبنان، فإنّه يعود إلى الدوَّامة من جديد؛ دوَّامة الأجور الّتي يُراد لها أن تبقى في دائرة السِّجال إلى أبعد وقتٍ ممكن، من دون مراعاة للنَّتائج الّتي تترتَّب على ذلك في الواقع الاجتماعيّ وحتّى الاقتصاديّ، وخصوصاً أنّ ارتفاع الأسعار سبق عمليَّة تصحيح الأجور بأشواط...
إنّنا نريد للحكومة، حكومة "كلّنا للعمل".. أن تعمل من أجل توحيد البلد، من خلال حسن إدارتها للملفّات المطروحة، بما فيها التّعيينات الإداريّة، لتتعامل معها بعيداً من الحسابات الخاصّة لهذا الفريق السياسي أو ذاك، أو لهذا الموقع أو ذاك أو الكيديّة، بل أن يكون صاحب الكفاءة هو المقدّم، حتّى لو لم يكن له ظهر سياسيّ يدفع به إلى الواجهة...
كما نريد للحكومة أن تتحرّك كفريقٍ واحدٍ في مواجهة الملفّات الخدماتيّة والحياتيّة وملف الإنماء، كما ندعوها إلى العمل بكل مسؤولية لمعالجة الفلتان الأمني الذي بات هاجس المواطنين، ولا سيما بعد اكتشاف المتفجرة في صيدا، والتي كادت تؤدي بكارثة فيها، وأن تكون العين الساهرة والحارسة لأمن المواطنين، والذين عليهم مسؤولية كبيرة في هذا المجال...
أيّها المسؤولون، النَّاس تنتظر منكم الأفعال لا الأقوال، تنتظر منكم مواقف الوحدة الّتي تقي الوطن من الفتنة، لا مواقف التَّفرقة الّتي تغذّي الفتنة، ننتظر منكم أن تكونوا الساهرين على خدمتهم، لا الذين يعملون لحساب مصالحهم الطائفية والمذهبية والمواقع السياسية، آن الأوان أن يرى اللبنانيون صورة بديلة تطوي الصفحات السوداء المرسومة في ذاكرتهم عن حكام مرّوا بهذا البلد، أخذوا منه ولم يعطوه إلا الفتات، أعطوا البلد حقه وسيعطيكم الكثير...