"إذا كلّفت المحكمة الدولية شركة أمنية أيا تكن حتى تقوم بجلب المطلوبين امامها فهذا يشكل هرطقة قانونية ومخالفة قانونية لا يمكن القبول بها"
كثيرة هي التجاوزات القانونية والقضائية التي ارتكبتها وترتكبها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (وهي الخاصة اساسا بالنظر في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الاسبق للبنان رفيق الحريري)، فمن كيفية نشوئها والطريقة التي هُرِّبَ بها نظام إنشائها من مجلس الوزراء في عهد الرئيس فؤاد السنيورة الى إعطاء القضاة صلاحية وضع وتعديل قواعد الاجراءات والاثبات امامها، الى إمكانية تفسير القانون اللبناني بحسب مشيئة هؤلاء القضاة، الى طلبات مدعي عام المحكمة في مجال الاتصالات وطلبات الحصول على عناوين الشعب اللبناني وبصماتهم وبيانات طلاب الجامعات اللبنانية وغيرها الكثير من الطلبات التي تجاوزت فيها المحكمة صلاحياتها وصولا الى حد المساس بسيادة الدولة والقانون والسلطات الدستورية في لبنان.
وقد نشر قبل ايام مقال على موقع "المنار" للكاتب الأميركي فرانكلين لامب تضمن معلومات تفيد بأن المسؤولين في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يريدون التعاقد مع شركة "بلاك ووتر" سيئة السمعة التي تفوق المحكمة الدولية نفسها بمراحل في تجاوزاتها، لان مجال تجاوزات هذه الشركة يتركز في مجال القتل والاجرام بما يفتح الباب امام احاديث عن انتهاكات لحقوق الانسان وجرائم دولية لا مقام لبحثها هنا وليس ما نُشِرَ عن نشاطات هذه الشركة في العراق وافغانستان إلا جزءا من جرائمها.
وبحسب المحامي الاميركي، تشير المعلومات (التي حصل عليها من مصادر في الكونغرس الأميركي) الى انه وبدعم من وزير الحرب الاسرائيلي إيهود باراك جرى التواصل بين المسؤولين في المحكمة والمسؤولين في الشركة الاميركية، وانه جرى بحسب المعلومات نفسها توقيع تفاهمات بين الطرفين بموجبها ستكلف المحكمة "بلاك ووتر" صلاحية جلب المطلوبين او المتهمين من قبل المحكمة بدل ان يتم ذلك عبر القنوات المحلية المختصة في الدول المطلوب جلب احد مواطنيها او احد المقيمين على اراضيها او عبر الانتربول الدولي.
وهنا السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هل انه بعد حلول المحكمة الدولية مكان السلطتين التشريعية والقضائية في لبنان (في عدة مواضع)، ستحل هذه المحكمة محل السلطة التنفيذية ايضا؟ وهل ستقوم هذه المحكمة بتنفيذ قراراتها في لبنان من خلال "بلاك ووتر" بدل الاستعانة بالانتربول او الاجهزة اللبنانية المختصة؟
والسؤال أيضاً، هل يحق لمحكمة دولية ان تُوُكِلُ مهمة جلب المتهمين امامها الى جهة خاصة او شخص من اشخاص القانون الخاص تحدده هي، بغض النظر عن ماهية هذا الشخص او هذه الجهة، فكيف إذا كانت هذه الجهة هي "بلاك ووتر"؟
تكليف المحكمة لـ"بلاك ووتر" هرطقة ومخالفة لا يمكن قبولها
توجّهنا بأسئلتنا الى الاستاذ في القانون الدولي رزق زغيب الذي اكد انه "إذا كلّفت المحكمة الدولية شركة أمنية أيا تكن حتى تقوم بجلب المطلوبين امامها فهذا يشكل هرطقة قانونية ومخالفة قانونية لا يمكن القبول بها"، مضيفا ان "المحكمة الدولية تتعامل مع دول او منظمات لها شخصية قانونية على صعيد القانون الدولي العام ولا تتعامل مع شخص من اشخاص القانون الخاص كالشركات والافراد".
ولفت زغيب الى ان "المحكمة يمكن ان تتعامل مع الانتربول الدولي او سلطات الدول مباشرة"، واشار الى ان "الانتربول لديه سلطة استثنائية لتقدير وتقرير إعطاء الصيغة التنقيذية لمذكرات التوفيق الصادرة من عدمه"، موضحا انه "ليس للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ان تعطي شركة بلاك ووتر صلاحية جلب احد امامها كما حصل". وقال أيضاً إن "العراق بلد خاضع للاحتلال الاميركي الذي خوّل هذه الشركة الصلاحية بممارسة ما سبق ان قامت به من اعمال بينما في لبنان فالوضع مختلف حيث انه بلد مستقل غير محتل من احد وصاحب سيادة على ارضه".
واعتبر زغيب ان "اي محكمة دولية تنشأ تسحب جزءاً من صلاحية القضاء المحلي واختصاصه ولذلك تنشأ إشكاليات ونزاعات بين القضائين الدولي والمحلي في هذا المجال"، وتابع "فكيف والحال هذه بالنسبة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي اثارت منذ وجودها الكثير من الاشكاليات القانونية والقضائية"، لافتا الى ان "كثرة هذه الاشكاليات تُبعِد المحكمة عن القيام بدورها ومهامها المنوطة بها فيما يتعلق بتحقيق العدالة والوصول الى الحقيقة".
مذكرة التفاهم بين لبنان والمحكمة لا تبرر طلبات المحكمة الغريبة!!
وفيما استغرب زغيب "الطلبات التي تقدمها هذه المحكمة من لبنان كطلبها بالحصول على بصمات اللبنانيين"، رفض "التذرع بمذكرة التعاون بين لبنان والمحكمة لتنفيذ طلبات المحكمة"، وأشار الى انه "حتى وجود هذه المذكرة لا يجوز تفسيرها على هوى القضاة وعلى هوى المحكمة بأن تتوسع الى هذا الحد في طلباتها بحجة التعاون المقرر في المذكرة".
ولكن هل يوجد في اي قضاء دولي او داخلي ان تم توكيل مهمة تنفيذ القرارت القضائية الى شركة امنية خاصة؟ وهل هناك سابقة في المحاكم الدولية في هذا المجال؟ ام ان هذه المحكمة ستضيف ما هو جديد على صعيد القضاء الدولي بعد كل تلك السوابق المخالفة للقانون التي اذهلت العالم بها على الصعيدين القانوني والقضائي؟
"لا يوجد على الصعيد الدولي امر مشابه لتكليف شركة خاصة بجلب المتهمين وليس هناك اية سابقة في هذا المجال" هذا ما اكده زغيب، واشار الى انه "عندما نشأت محكمة دولية في سيراليون تمّت الاستعانة بمنطمة افريقية اقليمية حكومية تعترف بها الدول هناك وموقعة على بروتوكول تأسيسها، اي ان هناك موافقة مسبقة على صلاحياتها ووظائفها. كذلك الحال عندما انشأت المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة تمّت الاستعانة في بعض المسائل بالامم المتحدة وهي ايضا منظمة حكومية معترف بها من قبل الدول التي وقّعت على بروتوكول تأسيسها وبالتالي توافق الدول على الصلاحيات المعطاة لها".
ولفت زغيب الى انه "لا يوجد في نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ما يجيز لها تكليف شركة خاصة بجلب من تتهمهم كما لا يوجد مثل هذا الامر في قرار مجلس الامن الذي بموجبه نشأت المحكمة ولذلك لا صلاحية للمحكمة للقيام بذلك".
إذا كلفت المحكمة "بلاك ووتر" جلب المتهمين، فعلى لبنان التقدم بشكوى لمجلس الامن
وسأل زغيب انه "إذا كلّفت المحكمة بلاك ووتر او اي شركة آخرى لجلب المتهمين فماذا تستطيع هكذا شركة ان تخدم المحكمة حينذاك على ارض الواقع في الاقليم الخاضع للدولة اللبنانية او اية دولة آخرى".
ودعا "لبنان إلى أن يتقدم بشكوى لمجلس الامن فيما لو اصدرت المحكمة هذا التكليف لبلاك ووتر باعتبار ان هكذا قرار يمس بسيادة البلد"، وختم انه "حتى لو طلبت المحكمة من السلطات اللبنانية إحضار او توقيف شخص ما وامتنع لبنان عن ذلك، فليس للمحكمة في هذه الحال إجبار لبنان على تنفيذ قرارها وانما لها فقط ان تعود الى الامم المتحدة وتبلغ ما حصل لان دور المحكمة هو دور قضائي فقط محدد بمحاكمة المجرمين ولا دخل لها في التنفيذ".
واكيم: ماذا ننتظر من محكمة محققوها باعوا وثائق التحقيق
وحول نفس الموضوع استصرحنا موقف رئيس "حركة الشعب" في لبنان نجاح واكيم الذي اكد ان "اي تكليف من المحكمة لشركة بلاك ووتر هو امر غير جائز قانونا"، واشار الى انه "لا يستغرب ان تقوم المحكمة الدولية بأمر كهذا لان المحكمة اصلا واساسا مخالفة للقانون منذ نشأتها وصولا لكل أُطر عملها ولذلك يمكن ان تلجأ الى ارتكاب هكذا حماقة"، سائلا "لكن هذه الحماقة كيف يمكن ترجمتها على ارض الواقع".
وقال واكيم إنه "من الطبيعي ان تقوم هذه المحكمة المخالفة للشرعية بأعمال مخالفة للقوانين"، وتساءل "ماذا ننتظر من محكمة باع المحققون فيها وثائق التحقيق"، واعتبر ان "الخطأ هو بالتعامل مع هذه المحكمة اصلا ومراجعة ما إذا كانت إعمالها قانونية ام لا"، واضاف ان "الخطأ ان ندخل في تفاصيل هذه المحكمة لان كل هذا الكيان المسمى محكمة دولية هو كيان غير شرعي وغير قانوني وبالتالي كل ما تقوم به هو غير شرعي وغير قانوني".
ورغم ان التفاهم والاتفاق بين المحكمة وبلاك ووتر لم يظهر الى العلن بصورة صريحة وواضحة بعد، وانما لا يزال في طور بعض التسريبات الصحافية من هنا وهناك، إلا ان الوقائع اثبتت غير مرّة ان الرأي العام يعلم بما تقوم به المحكمة الدولية من خلال وسائل الإعلام قبل ان تعلن المحكمة الى الملأ الاعمال التي تقوم بها. أضف إلى ذلك تحديث وتعديل قواعد الإجراءات والإثبات لتفصيلها على ما يبدو على قياس الأهداف السياسية للمحكمة ومن وراءها، وهو أمر يجعل من إمكانية لجوء المحكمة إلى خيار بلاك ووتر ممكناً بموجب قانون تستحدثه أو تعدله.
ولذلك لن يتفاجأ بعد فترة وجيزة من يشاهد حفلا لتوقيع تفاهم او اتفاق بين المحكمة والشركة سيئة السمعة، إنما الدهشة ستصيب كثيرين فيما لو رأينا المحكمة الدولية تلتزم القانون ولا تنتهكه لانها ستكون بذلك قد خالفت ما اعتادت وعّودت الناس القيام به.