تكاد أزمة الكهرباء تصبح مستعصية على الفهم، والأرجح ان معظم اللبنانيين باتوا عاجزين عن فك رموز هذه الأزمة التي يختلط فيها السياسي بالتقني، والخاص بالعام.
عماد مرمل - السفير
تكاد أزمة الكهرباء تصبح مستعصية على الفهم، والأرجح ان معظم اللبنانيين باتوا عاجزين عن فك رموز هذه الأزمة التي يختلط فيها السياسي بالتقني، والخاص بالعام.
من حيث المبدأ، كان يفترض أن يبدأ العد العكسي لنهاية هذه المعاناة المزمنة مع إقرار الحكومة ومجلس النواب خطة الكهرباء التي تطلب الاتفاق عليها مخاضاً عسيراً واشتباكاً داخلياً حاداً، كاد يودي بالحكومة نفسها، قبل ان ينجح منطق تدوير الزوايا في استجرار الطاقة السياسية للخطة من معامل التسوية.
آنذاك، احتفل اللبنانيون بولادة الخطة الإنقاذية التي استبشروا فيها خيراً وضوءاً، فيما راحت الأطراف السياسية تتصارع على أبوة الإنجاز المفترض، محاولاً كل منها أن ينسب النصر الكهربائي اليه، ليرفع رصيده السياسي والشعبي ويحسن موقعه سواء داخل السلطة ام المعارضة، في زمن ندرت فيه الإنجازات.
لكن المفاجأة التي صعقت الكثيرين هي ان مساحة العتمة راحت تتسع بعد إنجاز الخطة وانتهاء مهرجانات النصر، ذلك ان معامل إنتاج الطاقة لا تعمل على الحبر، والتغذية الكهربائية لا تأتي عن طريق سطور الورق، بل تحتاج بالدرجة الأولى الى قرار سياسي مرفق بآليات عمل منتظمة.
وهذه المرة، تبدو أزمة الكهرباء وكأنها بصدد خلط الأوراق، بعدما وصلت الى ذروة جديدة لها، وهذا ما دلت عليه طبيعة الاحتجاجات الشعبية التي اخترقت الاصطفافات السياسية والطائفية والمذهبية التقليدية، حتى بات حزب أنصار الكهرباء، أو حزب «النور» اللبناني، هو الأقوى في البلد، بعدما ضمّ إليه شرائح شعبية من 8 و14 آذار، ومن مؤيدي سلاح المقاومة ومعارضيه، ومن المتحمّسين للمحكمة الدولية والرافضين لها، ومن داعمي النظام السوري والمنادين بإسقاطه.
والملاحظ في هذا المجال، ان الشارع تحرك من تلقاء ذاته في اوقات كثيرة ومناطق عدة، بعيداً عن أي تحريض حزبي او تغطية سياسية، بل إن القيادات هي التي تضطر الى مجاراة الشارع والسير على إيقاعه في غالبية الأحيان، ما يهدّد باحتمال أن تخرج الامور عن السيطرة كلياً إذا تفاقمت أزمة الكهرباء.
ولا يُخفى أن «حزب الله» وحركة «أمل» هما الأشد إحراجاً إزاء شارعهما الغاضب الذي يطرح عليهما تساؤلات صعبة، من نوع:
- هذه حكومة الأكثرية المضادة لـ14آذار، وأنتم القوة الفاعلة فيها، فماذا فعلت لمواجهة العتمة؟
- أين العدالة في التقنين، ولماذا تحصل بيروت على 21 ساعة تغذية ومناطق أخرى مصنفة سياحية على 18 ساعة، بينما تحرم باقي المناطق من الكهرباء؟
- أين اصبحت الخطة التي أقرها مجلس النواب ولماذا لا تنفذ؟
- من يعطل التنفيذ ولماذا لا تكشفون عن هويته؟
وبرغم حساسية هذه التساؤلات، إلا ان هناك حرصاً لدى التنظيمين، على الحؤول دون ان تترك أزمة الكهرباء أي انعكاسات سلبية على العلاقة التحالفية مع «التيار الوطني الحر»، وتؤكد مصادر «حزب الله» ان هذه العلاقة أمتن مما يظنه البعض، وأزمة التقنين القاسي هي نتاج تراكمات مزمنة ولا يتحمل مسؤوليتها الوزير جبران باسيل، وبالتالي فإن الحكومة مجتمعة معنية بإيجاد الحلول العاجلة لها.
وفي حين يحرص «حزب الله» على النأي بتحالفه مع العماد ميشال عون عن تداعيات ملف الكهرباء، لجأت في المقابل بعض القوى الى توظيف حالة الغضب الشعبي في أماكن معينة لتصفية الحسابات مع عون وإحراجه، على قاعدة ان وزارءه يعطلون مصالح الناس، بدءاً من اتهام وزير العمل شربل نحاس بالتشدد في قضية تصحيح الأجور ما أدى الى تأخير الزيادة أشهراً عدة، مروراً بانتقاد سلوك وزير الاتصالات نقولا صحناوي، وصولاً الى تحميل وزير الطاقة جبران باسيل المسؤولية عن تدهور وضعية الكهرباء في عهده بسبب طريقة إدارته لها، كما يردد خصوم «التيار الوطني الحر» الذين لم يترددوا في رفع صور باسيل مرفقة بعبارات مكتوبة ضده، ما أوحى بأن هذا النوع من التحركات تحديداً كان معداً سلفاً وان منظميه أخذوا وقتهم في إعداد الصور وطبعها، لتوظيفها في حملة محشوة ببطانة سياسية وإن تكن شعاراتها خدماتية.
ولئن كان هناك من يسعى الى استخدام ملف التقنين في معارك سياسية، سواء ضد وزير الطاقة او الحكومة الميقاتية ككل، فان ذلك لا يعفي الوزير والحكومة معاً من المسؤولية عن المساهمة في تقديم الهدايا الثمينة الى خصومهما في المعارضة، نتيجة التأخير في إطلاق مسارات المعالجة الكهربائية، علماً ان هؤلاء الخصوم لن يترددوا بطبيعة الحال في قبول الهدايا واغتنام كل فرصة متاحة للتصويب على نقاط الضعف في جسم الأكثرية الحالية، بأقل جهد ممكن، كما حصل حتى الآن على مستوى ملفي الأجور والكهرباء اللذين أظهرت الحكومة تخبطاً في مقاربتهما.
ومع أنه يسجل للحكومة أنها استطاعت حتى الآن عبور حقول الألغام التي صادفتها منذ انطلاقتها، إلا أن تعثرها حتى الآن في نزع صاعق عبوة الكهرباء الموقوتة قد يؤدي الى انفجارها بين يديها، مع ما سيرتبه ذلك من أضرار سياسية فادحة، في لحظة لا تحتمل مغامرة السير على خطوط التوتر العالي، وبالتالي فإن الإخفاق في هذا الامتحان ستكون له تداعيات في غاية السلبية على صورة الأكثرية الحالية التي ستفقد الكثير من هيبتها ومصداقيتها أمام جمهورها قبل الآخرين.
وإذا كانت الحكومة قد تمكّنت من كسب بعض الوقت، وكُتب لها عمر جديد، بعد نجاتها بأعجوبة من «كمين» استحقاق تمويل المحكمة الدولية، فإن عليها أن تدرك أنها قد تدفع، من حيث لا تتوقع، ثمن الاحتكاك في الأسلاك الكهربائية، لا سيما أن جزءاً من أسباب الخلل في معالجة التقنين القاسي يعود الى حسابات متعارضة ومصالح متضاربة على مستوى السلطة التنفيذية، في ظل ما يُحكى حول وجود مقاربات متباينة لآليات العمل بين رئيس الحكومة ووزير الطاقة، ناهيك عن كلام من عيار ثقيل يضع أزمة الكهرباء في سياق صراع كبير يدور بين مراكز النفوذ في السلطة على إدارة قطاعات حيوية تدر ذهباً هي الطاقة والنفط والاتصالات.