ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: البداية مع فلسطين، الّتي لا تزال تشهد غطرسة صهيونيّة متصاعدة، تستهين بالعرب وبالمسلمين، ولا تبالي بالجامعة العربيّة، ولا بمنظّمة التّعاون الإسلامي وكلّ دعاة حقوق الإنسان، حيث تتواصل حملات الاعتقال، وليس آخرها، اعتقال رئيس المجلس التّشريعيّ وعدد من النوّاب، كما تتواصل مصادرة الأراضي، وآخرها مصادرة 1400 دونم في القدس، في وقتٍ تستمرّ الغارات العسكريّة على قطاع غزّة، وسياسات القمع والتّضييق في الضفّة الغربيّة.. كلّ هذا يتمّ وسط صمت الّذين يتحدّثون عن حقوق الإنسان وحريّة الشّعوب...
ومن هذا المنطلق نحن نستغرب عدم إقدام السّلطة الفلسطينيّة على اتّخاذ موقفٍ حاسمٍ تجاه ذلك كلّه، بإيقاف المفاوضات مع الكيان الصهيوني، هذه المفاوضات الّتي لطالما أكَّدنا أنَّها لا تُسمن الفلسطينيّين ولا تغنيهم من جوع، وأنَّها مضيعة للوقت، وهنا نعيد التّأكيد على العرب والمسلمين، ولا سيَّما الحركات الإسلاميَّة والوطنيَّة والقومية، وكلّ دعاة حقوق الإنسان، أن يتحمّلوا مسؤوليَّاتهم تجاه الشّعب الفلسطينيّ المجاهد وتجاه أرضه، وخصوصاً القدس، وإبقاء هذه القضيّة من الأولويات، حتّى مع وجود قضايا أخرى حاضرة الآن بقوّة، لأنَّه لا ينبغي أن نحيد النَّظر أبداً عن متابعة مخطّطات هذا الكيان، الّذي لا يكلّ ولا يملّ في سعيه للانقضاض على فلسطين، والكيد للعالم العربيّ والإسلاميّ، مستغلاً انشغال العالم العربي والإسلامي بقضاياه..
وفي هذا المجال، فإنّنا ندعو الشّعب الفلسطينيّ إلى أن يعمّق وحدته، وأن تتجاوز قياداته كلّ الحسابات الخاصّة لحساب أن تبقى فلسطين، كلّ فلسطين، ونحن على ثقة بأن هذه القيادات ستسرّع خطوات توحيد الصّفوف ولمّ الشّمل بعد وعيها أنها في مواجهة عدوّ لا يفهم إلا بلغة القوّة...
وفي موازاة ذلك، تستمرّ المراوحة في المشهد السّوريّ، وتستمرّ معها المشكلة، بكلّ ما تستنزفه من دماء، وما تتركه من آثار مدمّرة على وحدة سوريا، إضافةً إلى نتائجها السلبيَّة على المحيط الإقليميّ والدّوليّ، وعلى الواقع العربيّ والإسلاميّ خصوصاً...
وقد فوجئنا، كما فوجئ الجميع، بالطَّريقة الّتي تصرَّفت بها بعض دول الجامعة العربيَّة مع التطوّرات هناك، حيث سارعت إلى التَّشكيك في تقرير رئيس المراقبين العرب الواردة إلى الجامعة العربيَّة، والّذي أشار إلى تحسّن الوضع في سوريا، لتبني على ذلك موقفها، مما أوصل المبادرة العربيّة إلى طريق مسدود، ليتمَّ الحديث بعد ذلك أن لا مفرّ إلا اللّجوء إلى ما حذَّرنا من سلبياته، وهو مجلس الأمن الدَّولي...إنَّنا نرى في كل ذلك تعقيداً للواقع السوريّ وإيصاله إلى حافة الفوضى والمجهول، وإدخالاً لسوريا في لعبة صراع المحاور الدّوليّة والإقليميّة...
إنّ الهدف الّذي ينبغي للجامعة أن تعمل له، هو حفظ الواقع العربيّ وحمايته والحفاظ على استقراره ليكون أقوى على مواجهة التحدّيات والتهديدات التي يصنعها كلّ من لا يرى في هذا العالم العربي إلا نفطاً، وإلا مصالح الكيان الصّهيونيّ، لا أن يُضعف أي موقع من مواقع القوة فيه أو تعريضه للاهتزاز أو تقوي الآخرين عليه...
وليس بعيداً من ذلك، ما نراه في العقوبات الغربيّة التي تتصاعد ضدّ إيران، معطوفةً على حشد المزيد من القطع البحريَّة الأمريكيَّة في مياه الخليج وبحر العرب، حيث نشهد محاولة جديدة لدفعها إلى التّسليم بالشّروط الأمريكيَّة في كلّ ما يتَّصل بسيادتها وعنفوانها وكرامتها الوطنيّة...
إنّنا في الوقت الّذي نرى أنّ هذا الأسلوب يؤدّي إلى معاقبة الشّعب الإيرانيّ، والضّغط على لقمة عيشه وحاجاته الأساسيّة، ندعو العالم الغربيّ إلى وعي خطورة ما قد يؤدّي إليه هذا الأسلوب من نتائج سلبيّة على الاقتصاد والسّلم العالميّين، مما يستدعي عملاً جدّياً لتفادي أية كارثة نخشى أن تحصل، والجلوس على طاولة الحلّ الذي يضمن لإيران القدرة على الاستفادة من الطاقة النووية للشؤون السلمية وتطوير قدراتها العلمية...
ونحن نرى مسؤوليّة كبيرة على الدول العربيّة والإسلاميّة في إيجاد السبُل الكفيلة بإيقاف الضّغوط ومنع تفاقم الأزمة...
وهنا نعيد التَّذكير أنَّ القبول بالضّغط الاقتصاديّ على أيّ بلدٍ عربيّ أو إسلاميّ، سوف يسهّل استعمال الأسلوب نفسه مع دول أخرى، عندما تقتضي السياسة الاستكباريّة ذلك، وتتحرّك مصالحها في هذا الاتجاه...
ونصل إلى البحرين، هذا البلد المنفي من ذاكرة العالم، حتى من ذاكرة الذين يتحدثون بكل قوة وإصرار عن ضرورة أن تحظى الشعوب بحريتها والإنسان بحقه في العيش الكريم، وكأن هذا الشعب استثناء عن بقية الشعوب، فالدم النازف من أبنائه لم يتوقف...
إننا نجدد دعوتنا للحكومة البحرينية أن تبعد عن لغة العنف إلى لغة الحوار، ومن توتير الأجواء إلى تهدئتها.. فهذا هو السبيل لتعود البحرين إلى دورها الريادي، فقد آن لها أن تعي مطالب شعبها وحاجاته، وأن تدرس الأسباب التي تدفع هذا الشعب ليضحّي بحياته ومن دون أن يكلّ عن التحرك كل يوم ليعبّر عن إرادة الحرية...
وفي الوقت نفسه نقول لدعاة الحرية وحقوق الإنسان، أن الحرية لا تتجزأ، وحقوق الإنسان لا تتعدد، ولا ينبغي أن يكون عندهم شتاء وصيف على سقفٍ واحد...
ونصل إلى مصر لنهنّئ الشعب المصري، الذي بدأ سنة جديدة بعيداً عن النّظام البائد الّذي أرهقه اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وأبعده عن ساحته الأساسيّة، لتدخل مصر مرحلة جديدة، تمثّلت بانتخاب أوّل مجلس تشريعيّ...
إننا ندعو الشّعب المصري الّذي قدّم أغلى التّضحيات من أجل الثّورة، إلى المزيد من الوحدة والتّكاتف، وعدم السّماح للّذين يعملون على إثارة الفتنة في داخله بين الإسلاميّين والعلمانيّين، أو بين المسلمين والمسيحيّين، أو بين الإسلاميّين أنفسهم، والعمل سويّاً من أجل النّهوض بمصر، للعب دورها على المستوى العربيّ والإسلاميّ، ومواجهة التحدّيات الّتي تنتظر هذا البلد في المجالات الاقتصاديّة والأمنيّة والسياسيّة...
وبالعودة إلى لبنان، الغارق في العتمة وفي عشوائيّة الانقطاع المتزايد للتيّار الكهربائيّ، وفي فضائح الفساد، وآخرها فضيحة المازوت، فقد خيّبت هذه الحكومة آمال اللّبنانيّين الذين استبشروا بها، كونها جاءت من رحم الّذين يتحدّثون بأنّهم البديل لكلّ الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ السّابق...
إنَّنا في الوقت الّذي نعرف حجم الظّروف الصَّعبة الّتي نشأت فيها الحكومة، والتّركة الثّقيلة الّتي تحملها، فإنَّنا نرى أنَّ عليها أن تقوم بمسؤوليَّة كبيرة لإخراج البلد من أزماته الخانقة، وهذا لا يتمّ إلا من خلال حكومة تعمل كفريق متعاون لمعالجة الملفّات الأساسيّة، لا حكومة يناكد بعضها بعضاً، حكومة تخرج من لغة المحاصصة السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة إلى لغة الكفاءة ومصلحة البلد، حكومة تهتمّ بالنّهوض الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وتخرج البلد من كلّ واقعه، لا حكومة تصريف أعمال، حكومة تقي البلد من كل تأثير العواصف التي تعصف بالمنطقة، لا حكومة تجعل البلد مشرّعاً على رياح الآخرين، حكومة تخطيط بكل دقة لا حكومة ترتجل القرارات وتقع في الهفوات...
أيّها المسؤولون، لا يمكن لنا أن نبني بلداً في ظلّ كلّ هذه التّجاذبات والمماحكات السياسيّة، فيما الأرض تهتزّ من فوقنا ومن حولنا وتحت أقدامنا.. لقد آن الأوان للّبنانيّين أن يشعروا بأنّ هناك دولة تحتضنهم وتفكّر فيهم وتعيش آلامهم وتعيش طموحاتهم، لا دولة يفكّر فيها كلٌّ مسؤول بمصالحه الخاصة ومستقبله السياسيّ والانتخابي، وبعلاقاته التي بناها مع هذا المحور الدولي أو الإقليمي...
أيها المسؤولون إن جمال هذا البلد هو أمانة في أعناقكم فابقوه جميلاً بأرضه، بإنسانه، بعنفوانه، بحريّته.. لا تشوّهوا صورته في نفوس أبنائه وعند الآخرين...