مجدداً تطل فلسطين المحتلة على واقعنا لتفرض نفسها على شريط الأحداث العربية المتصاعدة، فالعدو الذي يلوّح كل يوم بضرب كل المواقع التي تمثل خطراً حقيقياً عليه
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: مجدداً تطل فلسطين المحتلة على واقعنا لتفرض نفسها على شريط الأحداث العربية المتصاعدة، فالعدو الذي يلوّح كل يوم بضرب كل المواقع التي تمثل خطراً حقيقياً عليه من إيران إلى لبنان مروراً بسوريا، وينظر إلى الشعوب العربية كتهديد استراتيجي وهي تخرج تباعاً من سجن الأنظمة، يواصل تنفيذ خطته في للسيطرة على ما تبقى من أراضي الضفة الغربية والقدس المحتلة لتهويدها...
وهكذا يتابع الاحتلال الصهيوني اقتطاعه للأراضي الفلسطينيّة لحساب مستوطناته في الضفّة الغربيّة وفي قلب القدس، كما يواصل عدوانه على الفلسطينيّين في القدس وفي قطاع غزّة بين الحين والآخر، غير عابئ بزيارة الأمين العام للأمم المتحدة، الذي حاول أن يتجاهل أهل غزة رافضاً الاستماع إليهم والحديث معهم، في الوقت الّذي يُعلن رئيس وزراء العدوّ أنّه لن يتنازل عن غور الأردن في أيّ تسوية أو مفاوضات. ونحن نتساءل هنا: ماذا يبقى للفلسطينيّين إذا كان ما يُعرض عليهم هو القبول بكيان مسخ وراء الجدار العازل، فيما تُسلخ القدس نهائيّاً، ويُصار بعدها إلى اختزال الدّولة في بضعة كيلومترات منزوعة السّلاح ومقطعة الأوصال، ومحاصرة بكلّ الأساليب والوسائل، لتكون خاضعةً في نهاية المطاف لاقتصاد العدوّ، ولتوضع بطريقةٍ وأخرى تحت إدارته الأمنيّة أو إدارة الأمريكيّين والبريطانيّين الّذين يُشرفون على الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربية؟!...
أيّها العرب، أيّها المسلمون، إنّها فلسطين، إنّها القدس، إنها قبلة الشّعوب العربيّة والإسلاميّة والمستضعفة، وهي إن سقطت ـ لا سمح الله ـ فستسقط قضايانا الواحدة تلو الأخرى...
أيها العرب، أيها المسلمون، إن عليكم أن تكونوا جديرين بحمل هذه الأمانة، أمانة القدس لتكون التزامكم الراسخ في طول الساحة الدولية وعرضها في مجلس الأمن وغيره، وأمام هذا العالم الذي لا يحترم إلا الأقوياء، والذي يحتقر كل أولئك الذين يعتمدون سياسة التنازل خطوة خطوة...
إنها قدسنا، إنها قبلتنا الأولى، إنها مسرى الرسول ومعراجه، إنها تراثنا وأصالتنا وعلينا أن نعمل لحمايتها بكل قوتنا مهما كانت المشاكل والأزمات التي تعصف في الساحات الأخرى، لأننا عندما نربح القدس سوف نعيد بناء كل الواقع العربي والإسلامي على أساسها...
وعندما نطل من القدس على حركة السياسة العربية فيما يتصل بالملفات الأخرى، فإننا نرى أن الجامعة العربيّة قررت أن تتنصّل مجدّداً من الدور المحدد لها، وهو حلّ المشاكل العربيَّة داخل البيت العربيّ، لتحيل ذلك إلى مجلس الأمن الدّوليّ، مشرّعةً الأبواب أمام رياح هذا المجلس بكلّ تعقيداته، وبكلّ التّجاذبات الّتي تحصل في داخله، والمصالح الّتي تحكمه، هذا المجلس الّذي لا يُصدر قراراته من وحي معاناة الشّعوب المستضعفة ولصالحها، بل لصالح الّذين يملكون قرار حقّ النّقض فيه، والّذين عندما يؤيِّدون قراراً، فإنَّهم يؤيِّدونه لمصالحهم، لا لحساب هذا البلد المستضعف أو ذاك، وعندما يرفضون قراراً، فإنَّهم يرفضونه على أساس مصالحهم، لا لحساب هذا البلد أو ذاك...
لذا تراهم يبدّلون قراراتهم حسب التبدّلات الّتي تحصل فيما بينهم، وتقاسم النّفوذ الّذي يتّفقون عليه، أو الحصص الّتي يريدها كلّ واحد من الآخر...
ولهذا، كنّا نودّ من الجامعة العربيّة أن تتريّث في عرض الأمر على مجلس الأمن الدّوليّ، وأن تسعى بكلّ جهدها لتقريب وجهات النّظر بين المتنازعين في سوريا، وأن تعمل لفتح قنوات الحوار الدّاخليّ، ولكن حدث ما كنّا نخشى حصوله ونحذّر من تداعياته، والّذي كنّا نؤكّد دائماً أنّه لن يحلّ المشكلة، بل قد يؤدّي إلى ازدياد دوّامة العنف، لأنّنا دائماً نخشى من اللّعبة الدّوليّة الّتي لا تريد أن يبقى في العالم العربي أيّ موقع من مواقع القوّة قد يؤثّر في سياستها الاستكباريّة...
ومن هنا، فإنّنا نعيد التّأكيد على الجامعة العربيّة وكلّ الحريصين على البلد العزيز سوريا، أن يعملوا على إعادة وصل ما انقطع في هذا البلد، وفتح سبل الحوار، لإبعاد شبح الحرب الأهليّة الّتي قد تُسقط كلّ الواقع السوريّ، ولا سيّما في ظلّ الانقسام الدّوليّ حياله، والّذي سيسدّ باب الحلّ الدّوليّ، ويدخل سوريا في تعقيداتٍ جديدة ويضعها أمام احتمال المزيد من العنف بعدما سدّ باب الحلّ العربي...
ونحن عندما نشعر بالألم حيال ما يحصل في سوريا وما يسقط فيها من دماء بريئة وما يصيب شعبها، فإن قلوبنا تعتصر ألماً على مصر أيضاً وعلى الضحايا التي سقطت تحت عنوان التنافس الكروي، ونخشى أن تكون هناك جهات تسعى لإدخال مصر في الفوضى الدامية لمنعها من الاستقرار ومن الانطلاق في موقعها الريادي على مستوى الأمة كلها...
ومن جانب آخر، نطلّ على البحرين، الّذي لا زالت الدّماء تنزف فيه، نتيجة استمرار أزمة الثّقة وانعدام سبل الحوار، لنلاحظ أنَّ الجامعة العربيّة قرّرت أن تغيب فيه عن الأنظار، وأن تصمّ أسماعها عن كلّ ما يجري لشعب البحرين، لأنّها تريد للصّيف والشّتاء أن يجتمعا تحت سقفٍ واحد...
إنّنا ندعو مجدّداً إلى مقاربة موضوعيّة للملف البحرينيّ، سواء من خلال جامعة الدّول العربيّة، أو من خلال فتح قنوات الحوار الدّاخليّ على مصراعيها، لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه، يمثّل استنزافاً لقدرات وإمكانيّات وطاقات الشّعب والسّلطة معاً، ونحن نريد لهذه الطّاقات أن تتجمّع في خطّ الوفاق الّذي يحفظ البحرين ومستقبل شعبه وأجياله...
ومن جهةٍ أخرى، لا بدّ من التنبّه إلى ضرورة منع تداعيات الوضع السّوريّ على الدّاخل اللّبنانيّ، والّذي تمثّل في الأسبوع الماضي بسقوط عدد من اللّبنانيّين بفعل هذا الصّراع، سواء في البحر أو عبر الحدود، أو داخل الأراضي السوريّة، أو من خلال التّداعيات الشعبيّة الّتي يأخذ بعضها طابعاً مذهبيّاً وطائفيّاً، وقد يساهم في تعميق الهوّة بين اللّبنانيّين..
إنّ من حقّ كلّ فريق سياسيّ أو دينيّ أن يعبّر عن رأيه في أن يكون مع هذا الموقع أو ذاك، ولكن على الجميع أن يتّقوا الله فيما يتّصل بالفتنة وبالتّلاعب بالقضايا السياسيّة، أو بإثارة الحساسيّات المذهبيّة والطائفيّة في هذا البلد، الّذي يكفيه أزماته السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والحكوميّة...
ومن هنا، فإنّنا نناشد المسؤولين في لبنان، سواء من خلال الحكومة وأجهزة الدّولة، أو من خلال المعنيّين بالجانب الدّينيّ الرّسميّ وغير الرسميّ، أو المواقع السياسيّة، أن يتدارسوا أفضل السّبل لتجنيب البلد مخاطر هذا الارتماء في قلب الأزمة المتدحرجة في سوريا، وأن يتداعوا إلى لقاءات عمليّة تحفظ الوحدة الداخليّة، وتدعو إلى نبذ السّجالات ذات الطّابع العصبيّ والمذهبيّ، وتطوّق كلّ المساعي الرّامية إلى إحداث فتنة بين اللّبنانيّين...
وفي هذا الجوّ، علينا التنبّه إلى الهاجس الأمنيّ الّذي بدأ يطلّ برأسه ليقضّ مضاجع اللّبنانيّين في كلّ حديثٍ عن محاولات اغتيالٍ لهذا الموقع السياسيّ أو ذاك، أو لهذا الموقع الأمنيّ أو ذاك، ليتمّ من خلال ذلك تهيئة الظّروف لفتنةٍ يُراد لها أن لا تُبقي ولا تذر..
إنّ هذا الوضع يستدعي من كلّ المسؤولين السياسيّين، المزيد من الوعي، والتّخفيف من حدّة التشنّجات الّتي نجد تجلّياتها في التّصريحات المتبادلة بين الأفرقاء السياسيّين، والّتي وصلت حدّ الإسفاف، من دون أن ينظروا إلى انعكاس كلماتهم على الأرض الّتي تنتظر عود ثقاب لتشتعل..إنّنا ندعو المسؤولين اللّبنانيّين في هذا البلد، إلى وعي المخاطر الّتي تنتظرهم، نتيجة تداعيات هذا اللّهيب الطّائفيّ والمذهبيّ المستعر في المنطقة، والّذي يخشى أن يكون لبنان أوّل المتأثرين به...
كما نريد للحكومة ألا تستقيل من مسؤوليّاتها الجسام في هذه ال
مسألة، لأنّنا نشهد في كلّ يوم خلافاً متصاعداً في داخلها، تبرز من خلاله في صورة الانقسام الّذي غالباً ما ينعكس على وضع البلد الاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمني، ولذلك ندعو المسؤولين إلى الكفّ عن رمي الكرة في وجه النّاس، وإلى التّعاطي كوحدة متكاملة داخل مجلس الوزراء وخارجه، وصولاً إلى التّصدّي لكلّ ما من شأنه التأثير السلبيّ في أمن البلد واستقراره، بما في ذلك موضوع المحكمة الّذي بدأ يطلّ برأسه من جديد على إيقاع المشاكل المتناثرة هنا وهناك، كما ونعيد التأكيد على ضرورة إخراج التعيينات من المحاصصة الطائفية والمذهبية وحسابات المواقع السياسية إلى الكفاءة، فقد آن الأوان لأصحاب الكفاءة أن توصلهم كفاءتهم لا أن يشعروا بالغربة في هذا البلد.. إننا ندعو المواقع السياسية إلى أن تفكر بالكل لا أن يفكر هذا بطائفته ورصيده الانتخابي ويفكر الآخر بنفس الطريقة...
أيها المسؤولون، أيها المعنيون، الوضع في المنطقة يحتم عليكم العمل ليلاً نهاراً لحماية البلد من الداخل وتسيير عجلته السياسية والاقتصادية بمرونة وصبر، لا أن تجعلوه ضحية لانفعالاتكم وحساسياتكم.. فالله الله في الأمن والسياسة والاقتصاد والاجتماع، حتى لا يتداعى البلد ويسقط الهيكل على رؤوس الجميع...