عقب إعلان برقة اقليماً فدرالياً اتحادياً، لاح شبح التقسيم في الأفق الليبي طارحاً العديد من التساؤلات عن الأسباب والتداعيات
في 20 تشرين الأول/أكتوبر، تحديداً في مدينة سرت استحال معمر القذافي، الزعيم الليبي المتخم بجنون العظمة، جثة تتناقلها بخفة أيدي مجموعة من الثوار. أربعون عاماً، حكم خلالها القذافي بيد من حديد دولة ذات تركيبة داخلية معقدة وثروة نفطية هامة ومساحة شاسعة نسبة لعدد سكانها الذي يبلغ ستة ملايين نسمة فقط. سياسة التهميش التي اتبعها القذافي بحق القبائل الغير موالية له بالكامل وبحق العديد من المدن ما عدا العاصمة طرابلس وسرت (مسقط رأسه)، إضافة إلى أسباب أخرى شكلت أرضية خصبة لنشوء حركة تمرد لإسقاط من كان يُطلق على نفسه لقب ملك ملوك أفريقيا. الثورة التي وُلدت في بنغازي لم تكن لها أصداء ايجابية لدى جميع الليبيين الذين اختار بعضهم، ولا زال هؤلاء متواجدين حتى الآن، نصرة القذافي والدفاع عنه، مما استدعى تدخلاً خارجياً جاء عن طريق حملة عسكرية شنّها حلف الأطلسي بغطاء دولي حمل الرقم 1973: إنها معركة بسط النفوذ في أرض النفط والثروات.
6 آذار/مارس إعلان برقة اقليماً فيدرالياً: التقسيم يلوح في الأفق
شهدت الفترة الفاصلة بين مقتل القذافي وإعلان اقليم برقة (شرقي البلاد) إقليماً فيدرالياً اتحادياً برئاسة أقدم معتقل في سجون النظام السابق أحمد الزبير السنوسي، في إطار مطالبة ما يسمى مجلس برقة بالعودة إلى الدستور الملكي الذي عُمل به بين عامي 1951 و1964 والذي يعتمد على مبدأ تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم: برقة، فزان، وطرابلس، ظهور عراقيل كثيرة جعلت من هدف إعادة بناء الدولة أمراً غاية في الصعوبة. أراد حملة السلاح من أبناء القبائل المختلفة جني ثمار ثورتهم والذي انعكس صراعاً على السلطة كان آخر تجلياته خلافاً حول طريقة توزيع المقاعد البرلمانية بحسب قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام (102 مقعداً لإقليم طرابلس، 60 مقعداً لإقليم برقة، و38 لإقليم فزان)، مما أثار حفيظة أبناء برقة الذين طالبوا بالمساواة لجهة الحصص الممنوحة للأقاليم الثلاثة.
وفي ظل عجز السلطات الليبية في طرابلس عن الإمساك بزمام الأمور داخلياً، يجد مشروع الفدرلة في برقة، الغنية نفطياً، طريقه نحو التنفيذ الفعلي خصوصاً أنه يجاري مصالح الدول الغربية التي ساهمت في إسقاط القذافي بانتظار حجز مقعد في سوق الثروات الليبية. فبحسب بعض المراقبين، فإن الشركات الغربية ستباشر بعقد اتفاقيات مع السلطة الحاكمة في برقة لتطوير حقول النفط والغاز واستثمارها. ولعل ما يؤكد ذلك، هو استحداث وزارة للنفط شرق البلاد، منفصلة عن طرابلس.
"الفدرلة"رغم حدوثها..تبقى مستبعدة بالنسبة للمجلس الإنتقالي
في اتصال مع موقع المنار، تستبعد العضو في المجلس الوطني الإنتقالي سلوى الدغيلي تطبيق فكرة التقسيم في وطنها، وتشير إلى أن عدم نقل البلاد من الثورة إلى الدولة لا يعني أن دعاة الفدرلة، وهم قلة برأيها، هم من سيضعون نظام الحكم في ليبيا. وتطرح الدغيلي السؤال التالي: "هل تكفي فترة ستة أشهر لبناء دولة؟ لقد ترك لنا القذافي وطناً يعاني من مركزية فظة، بحيث أن كل المؤسسات تتواجد في طرابلس. أنا، ابنة بنغازي، إذا أردت الحصول على توقيع لمعاملة علي الذهاب إلى طرابلس"، موضحة أن "ما يجري حالياً هو انتقال لنوع من اللامركزية وليس تقسيماً".
يستخدم المجلس الإنتقالي الرفض الشعبي، غرب البلاد خصوصاً، لفكرة الفدرلة والتقسيم وسيلة للتقليص من نسبة القلق في صفوفه. المجلس عاجز عن القيام بمهمتين اوكلتا إليه: السياسة الخارجية والدفاعية. بالنسبة للأولى، فإن الحكومات الأجنبية هي التي تحدد تفاصيلها، لكنها لا توجه إملاءاتها لوزارة الخارجية أو للجهات المختصة ضمن المجلس الوطني الانتقالي، بل لشيوخ عدد من القبائل، أو لبعض القادة الميدانيين من مقاتلي القبائل الذين عملت معهم قوات الناتو، وأقامت معهم علاقات قوية وبناءة. وفي ما يتعلق بالمهام الدفاعية، فإن المجلس الوطني الإنتقالي، لا يستطيع القيام بها أيضاً، لأنه لا يملك جيشاً. أما الميليشيات المسلّحة من أبناء القبائل، فتخضع لإمرة شيخ القبيلة حصراً. هو واقع يطرح السؤال التالي: كيف سيتمكن المجلس أو أي حكومة مقبلة كتم أفواه زعماء القبائل ممن لا يريدون شريكاً لهم في الحكم؟
بعد السودان.. ليبيا حلقة جديدة في مسلسل التقسيم: شبح التداعيات
يؤكد الباحث في الشؤون الإستراتيجية د. طلال عتريسي أن مشروع فدرلة ليبيا هو بمثابة "كارثة بالنسبة للمنطقة، فبعد تطبيق الإنفصال في السودان على أساس عرقي، وفي ظل مطالبة الجنوبيين في اليمن بالإنفصال، تأتي ليبيا لتكرس هذه الفكرة في المنطقة"، وذلك في إشارة إلى بعض المجموعات التي تطالب بالإنفصال كالبربر والأمازيغ في المغرب والجزائر، والأقباط في مصر، والأكراد في العراق. وفي اتصال مع موقع المنار، يلفت عتريسي إلى أن مشروع التقسيم هو بمثابة هدف للدول الغربية التي تسعى لجعله واقعاً، خصوصاً أن الأنظمة التي أنتجتها الثورات لا تزال حديثة العهد في إدارة البلاد التي تعاني مشاكل داخلية جمة. ويوضح عتريسي أن التقسيم يسهّل للغرب فكرة إبقاء اسرائيل الدولة الأقوى في الشرق الأوسط ويسهّل السيطرة على الثروات وتدجين الثورات.
من الواضح أن أياً من الأقاليم الثلاثة في ليبيا لا تمتلك المقومات التي تؤمن لها اكتفاءً ذاتياً على كافة الصعد، الأمر الذي يشكل بوابة لنزاعات عنيفة حول كيفية توزيع النفط الذي يكثر في المنطقة الشرقية والمياه العذبة المتوفرة في اقليم فزان وفي سرت التي يتواجد فيها الحوض النفطي الكبير. يؤكد هذا الواقع أن الفدرلة ستشكل مفتاحاً لحرب أهلية تجعل من بناء دولة موحدة مجرد طرح يتردد على لسان البعض.