إنّه الرابع عشر من شهر آذار عام 1978، جيش الإحتلال الإسرائيلي يجتاح الجنوب اللبناني ويرتكب المجزرة تلو الأخرى تحت عنوان حماية المستعمرات الإسرائيلية
إنّه الرابع عشر من شهر آذار عام 1978، جيش الإحتلال الإسرائيلي يجتاح الجنوب اللبناني ويرتكب المجزرة تلو الأخرى تحت عنوان "حماية المستعمرات الإسرائيلية"، بداية في حانين وكونين ومروراً ببلدة الخيام وختاماً في العباسية، فاحتفلت هذه البلدات جنباً إلى جنب بأعراس الشهادة.. حدث أصر البعض على حذفه من ذاكرة التاريخ اللبناني في محاولة واضحة لطمس آثار الجرائم الإسرائيلية بحق أهل الجنوب العزّل. تاريخٌ سبقهُ، حيثُ لم تكن هناك مقاومة، مسلسل طويل من الإعتداءات والمجازر الصهيونية بحق أهلنا في القرى الحدودية اللبنانيّة، والشاهدُ الأبرز على عدوانية إسرائيل منذ نشأتها كانت مجزرتا حولا وعيترون، حيث قتلت العصابات الصهيونية العشرات من الأطفال والرجال والنساء.
ولعلّ أبرز المجازر بشاعة التي ارتكبها العدو كانت مجزرة العباسيّة في اليوم السادس للإجتياح، وبعد يومين من وقوف الإمام المغيّب السيد موسى الصدر في قلعة بعلبك وإطلاقه قسمه الشهير بأن لا يهدأ حتى لا يبقى محروم واحد.
....ما قبل المجزرة
قبل أيام من مجزرة العباسيّة كانت البلدة تحيا بأبنائها حياة هادئة وطبيعية، ومع بداية الإجتياح الصهيوني الأوّل راحت تشهد نزوحاً لبعض أبناء قرى "الشريط الحدودي"،الذين نزحوا إلى العباسية باعتبارها أكثر أمناً من قراهم التي كانت تتعرض للقصف الإسرائيلي المتواصل، ولإجتياح برّي همجي.
بدأ يسود جوّ من الذعر بين الناس، إذ اشتدّ القصف الصهيوني على الجنوب وازدادت الأجواء توتراً، وكانت الأخبار العالميّة توحي بأنه سيكون هناك عملاً عسكرياً ما على الأرض، فخاف الناس واتخذوا بعض وسائل الحذر كالإختباء أو الهرب إلى صيدا وبيروت قبل يوم واحد من المجزرة، فقد كانت العباسية حتى ذلك اليوم لا تزال آهلة بالسكان، ولو كان قصف البلدة قد تمّ نهار السبت بدلاً من الأحد لكان عدد الشهداء الذين سقطوا من جرائه أضعاف العدد الذي سقط، لأنّ البلدة كانت مكتظة بالنّاس سواء أكانوا من أهلها الأصليين أم من النازحين.
العدوان يصل إلى العباسيّة
أشرقت شمس الأحد 19/3/1978 ، وازدادت معها الأجواء سخونة، فجيش الإحتلال كان قد وصل إلى بلدتي صريفا ومعروب وأصبح وضع العباسيّة شديد الخطورة.
وما هي إلا ساعات حتى بدأ القصف على البلدة بواسطة الدبابات الرابضة في بلدتي صريفا ومعروب، فسقطت القذيفة الأولى في العباسية مسقطة معها أوّل ضحية ( الشهيد كمال الشموط )، فأخذ الناس بالإختباء أوّل الأمر، ثمّ بدأ الكثير منهم بمغادرة البلدة متجها نحو بيروت ، ومنهم من رحّل عائلته وبقي هو في البلدة.
بعد ذلك تركّز القصف برّاً وبحراً وبكل أنواع الأسلحة المتاحة، إذ استعملت القوات الصهيونية في عدوانها القنابل الإنشطارية لأوّل مرّة منذ بداية اعتداءاتها. وقد توالى بعد ذلك سقوط القذائف فاشتد إحساس الناس بالخطر المحدق بهم، ولم يعد بإمكانهم إدراك ما يجري خارج مخابئهم، وكانت حركة النزوح نحو بيروت خلال ذلك ما تزال مستمرة وبشكل كثيف حيث بلغت حوالي 80% من سكان البلدة، وقد تم ذلك بواسطة السيارات والشاحنات وكل ما يتوفر لديهم من وسائل النقل، حتى أن البعض هرب سيراً على الأقدام بين البراري والحقول.
ومع مرور الوقت كانت تشتد وطأة القصف الصهيوني على البلدة أكثر فأكثر، فلجأ من بقي من أهل البلدة إلى المسجد ظنا ً منهم أنه أكثر أماناً من سواه، ولكنهم للأسف كانوا مخطئين! فالجيش المعادي للإنسانية إستغل هذا الإزدحام في بيت الصلاة ليقوم بواسطة طائراته الحربية (أف 15) الأميركية الصنع التي كان يختبرها للمرّة الأولى في الميدان لدراسة كفاءتها وأدائها في ظروف المعركة وتحديد إمكانات أجهزتها الإلكترونية، بشن غارة جويّة على المسجد أصابت هدفها بدقّة! فدمّر على رؤوس من فيه.
نتائج العدوان الإسرائيلي على البلدة....
ما إن خفّت وتيرة القصف الإسرائيلي حتى خرج الناس من ملاجئهم، فإذ بهم يفجعون من هول المشهد، جثث مقطعة الأوصال منتشرة هنا وهناك ، في الشوارع والأزقة التي سدّ الركام معظمها فتعذر عبورها بالسيارات. كما أن هناك جثثاً كانت مبتورة إلى نصفين ومتناثرة في أماكن متفرقة، إضافة إلى الأنين المتصاعد من تحت الأنقاض.
بدأ الأهالي البحث في المسجد الذي كان قد دمّر مع المنازل المجاورة له، وقد استمر العمل بذلك حتى ساعة الغروب حيث توقفت عملية الإنقاذ لأنّ القوات الصهيونية منعتهم من التجوّل مساءً. ومع بزوغ فجر اليوم التالي تواصلت عمليات البحث، فتمّ إنقاذ من كان لا يزال على قيد الحياة، وانتشال جثث الشهداء، وقد حاول بعض الصحافيين والمسعفين في ذلك النهار دخول البلدة ولكن العدو منعهم من ذلك.
....استمرت عملية الدفن الجماعيّة للشهداء الذين فاق عددهم الـ 150 حوالي عشرة أيام. وقد تمّ دفن الكثير منهم بغياب أهلهم أو حتى علمهم بأمر استشهادهم، حتى أنّ بعض الأهالي استدلوا على أضرحة أبنائهم وذويهم بعد فترة غير قصيرة، هذا عدا عن استحالة التعرّف على الكثير من الضحايا بسبب التشوّه الذي أصاب الجثث. أمّا الصهاينة فقد قاموا بجرف المنازل المدمّرة، اذ كان همّهم الأوّل إزالة آثار جريمتهم، فسارعوا إلى رفع الركام ، ولم يسمحوا للصحافة العربية والدولية بدخول البلدة إلا بعد مرور خمسة عشر يوماً .
وعلى الرغم من كل ما تقدّم، يأتيك اليوم من يُبرّر لإسرائيل عدوانها، ويطالب بنزع سلاح المقاومة! ربما لإنزعاجه من حجم الأمان الذي ينعم به الأهالي على الحدود وفي باقي قرى الجنوب ولبنان. أمان أرسته مقاومة أثبتت منذ العام 1982 أنّ مثل هذا العدو لا يمكن أن يفهم سوى لغة السلاح.