منذ أن أعلن الكاتب الجزائري صنصال عن مشاركته في مؤتمر الكتّاب العالميين الذي «سيعقد» في القدس المحتلة والذي تنظمه إحدى الهيئات الإسرائيلية، حتى ارتفعت الأصوات المنددة تعبر عن خيبتها
كتب "اسكندر حبش" في جريدة السفير تحت عنوان" بوعلام صنصال والأدب كشاهد زور" :
لا بدّ أن تضعنا قضية الروائي الجزائري بوعلام صنصال أمام موقفين، إذا جاز التعبير، وإن كنّا في النهاية، لا نستطيع أن نفصل بينهما، لأنهما صادران عن شخص واحد، هو كاتب بالدرجة الأولى، أي إنّ أولى سمات الكتابة، أن تنتصر للحرية والحق، وإلا ما معنى الكتابة بأسرها. منذ أن أعلن الكاتب الجزائري صنصال عن مشاركته في مؤتمر الكتّاب العالميين الذي «سيعقد» في القدس المحتلة (بدأ في 13 الحالي ويستمر إلى 18 منه) والذي تنظمه إحدى الهيئات الإسرائيلية، حتى ارتفعت الأصوات المنددّة بذلك. وهي أصوات تملك شرعيتها الأكيدة في التعبير عن دهشتها وعن خيبتها، حين تجد كاتبا، يوافق على القيام بهذه الرحلة، أي إنه يقدم وقبل أيّ شيء آخر براءة ذمة، لنظام، تصح فيه كلّ الصفات السيئة، وبخاصة أنها تأتي من كاتب جزائري، يعتبر أنه يمتلك عقلا نقديا، ويريد أن يحرّك المياه الراكدة، ليبحث عن أفق جديد، لا في الكتابة فقط، بل أيضا في هذا «العقل الراكد»، وفق ما تذهب إليه روايته الأخيرة التي يحاكم فيها فترة ما بعد الثورة الجزائرية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يتحرك هذا العقل إلا في اختيار التطرف الأقصى، أي أن تأتي زيارة لدولة، لا تتوقف عن تزوير تاريخ بأسره، وعن إبادة شعب بأكمله، لتلغي كل شيء حتى الجغرافيا؟ من هنا، وببساطة، كيف نفهم هذه الزيارة؟
من يعرف مسار صنصال، قد لا يتفاجأ بوصوله إلى هنا، إذ كلّ شيء في كتابته، كان يوحي أنه سائر لاتخاذ مواقف، قد تقوده إلى اختيار التطرف الأقصى. فمن قرأ أدبه منذ روايته الأولى «قسم البرابرة» (مترجمة إلى العربية لمن يهمه الأمر، مثلما تُرجمت روايته «حرافة» أيضا) وصولا إلى الأخيرة «شارع داروين» ومرورا بالعديد غيرها، وبخاصة «قرية ألمانية» (التي أثارت العديد من ردود الفعل المرحبة بها في الغرب، حيث ترجمت إلى عشرات اللغات) لا بدّ أن يقف موقف التساؤل من هذا الأدب الذي يحاول بدوره أن «يخترع» تهويماته الخاصة، بحيث لا يتوقف عن مجافاة الواقع الفعلي، ليخترع واقعا موازيا، يمتلك بالضرورة إن لم نقل سمة إكزوتيكية رغبة في أن يكون موافق عليه غربيا.
لو كان الأدب أسلوبا فقط، لقلنا إن صنصال، كاتب بامتياز، فهو من قلة فرانكوفونية، عرفت كيف تخترق فضاء القارئ الأوروبي، ليحوز الجوائز الأدبية المتعددة في أكثر من بلد. ولو وضعناه أيضا في سياقه التاريخي، أي ضمن الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، لقلنا إنه من قلة عرفت كيف تعيد صوغ هذا المشهد، بعد مشهد كتاب السبعينيات (بوجدرة وغيره) الذين ألقوا بظلهم الفعلي على الأدب. من هنا، جاءت موجة التسعينيات (صنصال، ياسمينا خضرا، سليمان بن عيسى...) لتعيد تأكيد هذه الكتابة التي فتحت أفقا مخالفا. لكن، في النهاية، لا تقف الكتابة عند هذا الحدّ الأسلوبي، بل هي أيضا موضوع، وهي وقبل أيّ شيء آخر، موقف أخلاقي (Ethique) من الوجود.
حين يقارن صنصال في روايته الخامسة «قرية ألمانية» بين الإسلامية، كحركات متطرفة، إقصائية، وبين النازية، التي لعبت الدور عينه، هل يحق له فعلا أن يعترف بإسرائيل على أنها دولة مختلفة؟ ومَن أعلن مرارا بأنه يحق للكائن أن يعلن «إلحاده» وأنه ضد الأنظمة الدينية، أيحق له أن يعترف بدولة «عبرية» تطالب مؤخرا بأن تكون دولة دينية لكل يهود العالم؟
حتى وإن أصبح صنصال يعتبر نفسه أنه غير جزائري، بل كاتب أوروبي بعد أن حاز جنسية أخرى، هل يشفع له هذا التبرير، في الوقوف إلى جانب الجلاد، وهو الذي أعلن أنه ضد كل جلادي العالم؟
لنبتعد قليلا عن خطاب التخوين وعن التطبيع وعن كل ما يثير حماسة الخطاب: هل يمكن، إنسانيا على الأقل، تقديم كلّ هذه التنازلات لنظام لم يتوقف يوما عن إلغاء كل شيء، يقف موقف الضدّ منه؟ ما معنى أن يكون المرء أديبا وكاتبا ومثقفا، حين يغض الطرف عن جوهر الأدب، بكونه وحده أي الأدب «من يسمح للكائن البشري بأن يحتفظ بوعيه كإنسان» (فيما لو استعرنا جملة الكاتب الصيني غاو سينيانغ).
حين حاز صنصال «جائزة المكتبات» في ألمانيا العام 2011 (وهي أهم جائزة أدبية ألمانية) جاء في بيان اللجنة أنها اختارته «للاحتفال بنشاطه الأدبي الذي يساهم بطريقة فعالة في تقدم أفكار السلام». هل يكمن السلام حقا في المشاركة بمؤتمر أدبي في القدس، أم علينا فعلا أن نعيد تحديد مفهومه؟ ثمة شيء وحيد في هذه الزيارة وبعيدا عن كل شيء: لا يمكن للأدب أن يكون ولو لمرة شاهد زور...
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه