مساحة تعلو فيها الارتفاعات هي التي بين " مجتمع المعرفة" و"مجتمع التعلم"، إلى جانب انفصام واضح بين أساليب التعلم في الجامعات اللبنانية وسوق العمل، هذا أهم ما تخرج من ملخصات المؤتمر التربوي الثالث ..
مساحة تعلو فيها الارتفاعات هي التي بين " مجتمع المعرفة" و"مجتمع التعلم"، إلى جانب انفصام واضح بين أساليب التعلم في الجامعات اللبنانية وسوق العمل، هذا أهم ما تخرج من ملخصات المؤتمر التربوي الثالث " للمركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي، الذي حمل عنوان "نواتج التعلّم الجامعي في لبنان بين المعرفة والمهارات". وبرز نقد لغياب وزارة التربية والتعليم العالي في مراقبة الجامعات الخاصة، كما غياب للمرشد التربوي في عدد كبير من المدارس، لتوجيه الطالب في اختيار الاختصاص الذي يمكن أن يبرع فيه حين يدخل إلى الجامعة.
افتتاح المؤتمر كان برعاية وزير العمل سليم جريصاتي الذي رأى أن تحصين التعليم الجامعي ينبع من اعتبارين : الأول قدرة هذا القطاع على احتضان كل الناس دون استثناء، والثاني مواكبة التطور التعليمي عالميا في موازة انتهاج سياسة رفع معدلات النمو وتأمين فرص العمل والحد من البطالة. وكشف وزير العمل عن وجود برنامج "فرصة العمل الأولى للشباب" باستكمال إجراءاته مع البنك الدولي وأنه من الممكن أن يشكل بارقة أمل أمام شباب لبنان في أقرب وقت. مدير المركز السيد علي زلزلي رأى أن "المؤتمر هو دعوة لوزارة التربية والتعليم العالي ولوزارة العمل ومؤسسات التعليم العالي لإجراء التقويم المستمر والتحديث الدائم للمناهج التعليمية لدعم سوق العمل".
الجلسة الأولى: نواتج تعليم لا تلبي ومسافات فاصلة بين المهارة والمعرفة
ينتسب الطالب إلى الجامعة، وفي ذهنه إنهاء متطلبات الاختصاص في أقرب مدة زمنية للحصول على الشهادة، فالوظيفة. هذا ليس استنتاجاً يخرج به الأستاذ في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية، وفق ما جاء في مداخلة الدكتور نمر فريحة، التي حملت عنوان "نواتج تعليم أم تعلّم، بل «كلام يردده الطالب نفسه على مسامعنا وكأنّه يحمّلنا مسبقاً مسؤولية رسوبه أو تأخره في التخرّج إذا حصل». ينعكس هذا الواقع، بحسب فريحة، على عمل الأستاذ والطالب لأنّ لدى كل منهما مقاربة غير منسجمة مع الآخر. أما الجامعات فلديها سياسات قبول معلنة تشتمل على متطلبات القبول، وخصوصاً «الشهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها». لكن ما هو معلن يختلف عما هو مطبق. يلفت فريحة إلى أنّ أكثرية الجامعات، ما عدا الجامعة اللبنانية المجانية، مؤسسات تبغي الربح وتساوم على المستوى التعليمي، كأن يتبنى بعضها اختصاصات لتلبية حاجة طارئة ظهرت أهميتها في المجتمع وسوق العمل عبر تقديم طلب لضم الاختصاص إلى مناهجها «فيقبل طلبها لأنّ لها دعماً سياسياً أو طائفياً أكثر مما تثبت أنّ لديها هيئة تعليمية متخصصة وبنى تحتية تكوّن الحاجة المادية للاختصاص». يعقب: «إذا كان الارتجال منع هذه المؤسسات من التنبّؤ المعقول بالنسبة إلى النواتج، فكيف يتم قياس كفاءات المتخرجين إذا كان ما تم تحقيقه حصل ضمن إطار تنافسي لجلب عدد أكبر من الطلاب؟».
وبالنسبة إلى نوعية العمل التربوي، يميّز فريحة بين التعليم والتعلم. يشغل، برأيه، المفهوم الأول الذي يفترض طالباً متلقّياً وحيادياً بصورة عامة حيزاً واسعاً من العمل الجامعي في لبنان، فيتحول التعليم إلى مجرد محاضرات تلقى على من وُجد في الصف، ومن لم يوجد يستطيع الحصول على نسخة من المقرر ليدرس محتواه ويتقدم إلى الامتحانات في نهاية العام الدراسي وينجح أيضاً. يستدرك الرجل أن هذه الحالة لا تنطبق على كل الاختصاصات، لكنها «تمثل نموذجاً، وإن متطرفاً، لما يحصل في بعض الاختصاصات الجامعية لدينا». أما التعلم، وهو المفهوم الثاني، فتوفره الجامعة للطالب بالنشاط الفردي أو الجماعي وتنمية مواقف إيجابية واكتساب مهارات فكرية وجسدية على الصعيدين المهني والشخصي. يتحدث فريحة عن مهارة يصعب اكتسابها خارج الجامعة «تعلُّم كيف يتعلم».
وفي دردشة مع موقع المنار وضّح لنا الدكتور فريحة ما يقصده من كلامه حول ضرورة إعادة النظر في المعايير المعتمدة للنجاح في مؤسساتنا الجامعية، فقال إن : "هذه الأزمة ليست مقتصرة فقط على لبنان بل على كل دول العالم، لأن كيفية إنجاح الطالب الجامعي من صف إلى أخر لا يجب أن تقتصر على مهمة واحدة هو بوصفه مجرد طالب، بل بقدارت الأستاذ في تقديم المعرفة للطالب والمهارات والتفاعل، والطاقات التي يقدر أن يستخرجها منه من خلال اختصاصه الذي أسميته " broactive" أي عنده مبادرة. هذه النقاط مهملة في جامعاتنا بصراحة. ولكي نثبت هذه المفاهيم نحتاج إلى مجلس سياسي عام للجامعات اللبنانية كافة موحد ، لأن الجامعات لا تنسّق في ما بينها، ثم أنها تتنافس على أشياء عديدة وليس منها للأسف تحسين المستوى ونوعية التعامل مع الطلاب والمناهج. وينهي الدكترو فريحة جوابه بأنه ليس متفائلا في حصول هذا الأمر .
ورأى عميد كلية التربية في "الجامعة اللبنانية الدولية" الدكتور أنور كوثراني أن الرغبة في قياس تعلم الطالب والنتائج التعلمية تستلزم أدوات متطورة ومدروسة وفريقاً من الموظفين المؤهلين، على الرغم من توافر هذين العاملين في آن تبدو محدودة، في مداخلته التي تركزت حول «المتخرج الجامعي بين المعرفة والمهارة»، وأكد على أن يرتكز ضمان الجودة في التعليم العالي على أهداف واقعية تناسب البيئة المحلية، لا أن يكون الاعتماد على الممارسات الدولية التي يتم تطويرها في أميركا الشمالية وأوروبا. معاني النوعية تختلف باختلاف البيئات، يقول. لذا، يتعين برأيه على الجامعة إعداد طلاب يتمتعون بمؤهلات جديدة ومعرفة واسعة النطاق، إضافة إلى مجموعة من الكفاءات لخوض غمار عالم أكثر تعقيداً وترابطاً.
الجلسة الثانية : تجربة مبتكرة في قياس نواتج التعليم و"اللبنانية" أفضل الجامعات
وتبرز في الجلسة الثانية مداخلة تقنية لـ"لقياس نواتج التعلم"، اشترك فيها كل من د. صوما أبو جودة ود. أمل زين الدين من مركز التعلم والتعليم في الجامعة الأميركية في بيروت. تحدثت زين الدين عن أهمية صياغة النواتج التعليمية بطريقة صحيحة وربط أداء الطلاب بالنواتج وجمع المعلومات والأدلة التي تظهر ما إذا كان الطلاب يحققون هذه النواتج أو لا، وإعداد خطة عمل لتحسين جودة النواتج. أما أبو جودة فقد تناول القياس المباشر الذي تنجم عنه نتائج تقويم الهيئة التعليمية لمشاريع الطلاب وواجباتهم الدراسية، والقياس غير المباشر الذي يأخذ رأي الطلاب بما يتعلمونه وبالأستاذ، ما يؤدي إلى التحسين المبني على الأدلة والجو العام للجامعة أو البرنامج أو المقرر. وخلال النقاش وجد هذان الباحثان نفسيهما في موقع الدفاع عن "الجامعة الأميركية"، علماً أنهما حاولا التركيز على موضوع المؤتمر المتعلق بقياس نواتج التعلم، وأكدا أن هذه العملية مستمرة وغير محددة بزمن، أو بوقت، وهي ترتبط بأداء الطلاب، وجمع المعلومات والأدلة، والمستويات بطريقة مباشرة، وغير مباشرة، وشددا على أن الطريقة المباشرة التي يتم فيها قياس النواتج هي الأفضل، كونها تؤخذ من خلال الدراسة والامتحانات ومشاريع التخرج.
وتناول الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية د. حسان حمدان في مداخلته، التي حملت عنوان "نواتج التعلم في لبنان: رؤية وواقع/ الكليات النظرية"، الانفصام بين ما يتعلمه الطلاب من نظريات وبين الواقع، فهم لا يستخدمون سوى 25% من المعارف التي يكتسبونها في سوق العمل، وخصوصاً في الكليات النظرية التي تعاني من أزمات تعلم ومناهج «فالطالب لا يحسن استخدام المعلومات والمعطيات والنظريات ولا يعيد إنتاجها بصورة نقدية، واهتمامات الشركات وأرباب العمل في مكان وما نعلّمه في جامعاتنا في مكان آخر». وأثار الأستاذ حمدان موجة من الأسئلة، وتوالت الردود على كلامه عن البنيان المعرض للانهيار، في حين أن البحث يدور حول كيفية ترتيب البنيان من الداخل. وحصلت تعليقات كثيرة في شأن دعوته لتسجيل أبناء في "الجامعة اللبنانية"، علماً أنه اعترف بنفسه بأن ولديه تعلما في جامعة خاصة، غير أنه وجه انتقادات لاذعة لهذه الجامعات، خصوصا على صعيد عدم تدريسها لمواد جامعية مهمة، بينما هي موجودة في الجامعة اللبنانية الرسمية. من هنا هو نصح الموجودين، ردا على مداخلة أحدهم وسؤاله المحتار هو إلى اي جامعة يدخل ابنه، باعتماد الجامعة اللبنانية منهجاً علمياً أفضل من غيرها.
وقدم الأستاذ في كلية العلوم في "الجامعة اللبنانية" د. أمين الساحلي دراسة مطولة حول "رؤية الكليات التطبيقية في الجامعة اللبنانية وواقعها"، ورأى وجود خصومة بين الناتج والناتج، لافتاً إلى أن تقارير الناتج تعتمد على أربعة عناصر هي: "المال، والشهادة العلمية، والنشر العلمي، والمؤسسة العلمية". وفاجأ المشاركين بالأرقام التي أوردها، وفيها أن موازنة "الجامعة اللبنانية" المخصصة لتجهيز وتشغيل المختبرات البحثية تصل إلى نحو ستة ملايين دولار فقط، والأرقام أكثر بقليل في الدول العربية، بينما يخصص الكيان الإسرائيلي أكثر من تسعة مليارات دولار للبحث العلمي.
الجلسة الثالثة: إعداد المتعلم لسوق العمل وخارطة طريق نحو المستقبل
مفاتيح المشاكل التي عرضت في الجلستين السابقتين تكمن برأي رئيس الجامعة الأميركية للثقافة والتعليم د. بيار جدعون في مراكمة الكفايات انطلاقاً من إتقان اللغات والمعلوماتية والاتصالات، وفي التعاطي بروح التعاون والعمل الفريقي وروح الريادة والفكر النقدي والانفتاح الثقافي، أدلى بهذا في مداخلته التي تركزت بالحديث عن "إعداد المتعلم لسوق العمل"، وكان برأيه أن الأهم الانتقال من مجتمع المعرفة إلى مجتمع التعلم وإعادة كتابة المقررات لكل حصة دراسية انطلاقاً من الإطار الوطني للمؤهلات المتمثل بالاستقلالية والمسؤولية المبنيّة على القيم التي تحكم الأفراد في المجتمع والخضوع للقوانين والأنظمة. وتمحور حديثه حول نقاط سبع أساسية في إعداد المتعلم لسوق العمل وهي: "الكفايات، مخرجات التعلم، ضمان الجودة، الإطار الوطني للمؤهلات، ملاءمة البرامج، متطلبات سوق العمل، التعلم مدى الحياة ومجتمع التعلم". وبعد أن شرح كل نقطة، شدد على أهمية المعرفة والمهارات المكتسبة، واعتبر أن الإطار الوطني للمؤهلات هو الطريق السليم لإعداد الطلاب لسوق العمل، وأن ضمان جودة التعلم يرتكز على ربط النواتج بحاجات السوق، وأنَّ على الجامعات أن تحقق الملاءمة بين برامجها ومقتضيات الإطار الوطني للمؤهلات.
وشدد منسق برنامج "تمبوس" الأوروبي في لبنان الدكتور عارف الصوفي، في مداخلته "خارطة طريق نحو المستقبل" على أهمية بناء قواعد معلومات موثقة ومتجددة وقابلة للتجدد في شأن قطاع التعليم العالي في لبنان، وصوغ استراتيجية وطنية جديدة خاصة بالتعليم العالي، وإعادة تنظيم التعليم العالي الرسمي وتوفير الظروف والموارد التي تمكنه من المنافسة محلياً ودولياً، وإقرار قانون إنشاء الهيئة اللبنانية لضمان الجودة في التعليم العالي. وبيّن الدكتور الصوفي أن أهم التحديات التي يواجهها قطاع التعليم العالي هي تحديات كونية لأسباب أهمها العولمة وانفتاح العالم بعضه على بعض وتطور تكنولوجيا الاتصالات وثورة المعلومات والازمات الاقتصادية العابرة للقارات والشعوب. ولعل من أهم هذه التحديات التوسع الكبير في قطاع التعليم وازدياد الطلب عليه وتحوله التدريجي من قطاع يلبي حاجات السوق إلى أن أصبح هو بحد ذاته سوقا للاستثمار.
توصيات المؤتمر :رؤية استراتيجية
وقد اعتمد المنظمون في ختام المؤتمر، صوغ استراتيجية وطنية، وبناء قاعدة معلومات، وهيئة ضمان الجودة، فدعت الى تغليب منطق التعلم الذي يعني المشاركة والتفاعل على منطق التعليم الذي يعني التلقي والحيادية. وطالب هشا شحرور الذي ألقى توصيات المؤتمر، بتبني معايير أكاديمية واضحة ومحددة وموحّدة في العملية التعليمية، ودعت التوصيات مؤسسات التعليم العالي الى الاهتمام بإعداد الاستاذ الكفوء وتمكينه من استراتيجيات التدريس ورفع مستوى قدراته، وتشجيعه على القيام بالدراسات والأبحاث الاكاديمية وربط تقييمه وشروط استمراريته بناءً عليها. والعمل على تجسير الهوة بين نواتج التعلم الجامعي وسوق العمل من خلال إجراء دراسات إحصائية توصيفية لواقع هذا السوق والعمل على مواءمة مخرجات التعليم العالي معها. ودعت إلى التخفيف من تسييس الجامعات، خصوصاً على الطريقة اللبنانية، إذا أمكن، حيث أصبح المعيار السياسي ذا فاعلية أكثر من المعيار الأكاديمي. والانفتاح على التجارب العالمية من دون استثناء والتعامل الذكي والإيجابي مع البرامج الدولية الهادفة إلى تطوير قطاع التعليم العالي.
وأكدت أن الجامعة عليها إعداد طلاب يتمتعون بمؤهلات جديدة، ومعرفة واسعة النطاق، بالإضافة إلى مجموعة من الكفاءات لخوض غمار عالم أكثر تعقيداً وترابطاً. وأن يكون تصميم البرامج الجامعية بناءً على نواتج التعلّم. واعتماد نظام تقويم مدى تحقق هذه النواتج وفق أسس تقويم مباشرة وغير مباشرة والبناء على نتائج التقويم لتحسين التدريس والتعلّم.
ودعت التوصيات الدولة الى التخطيط الطويل الأمد بما يحدد أولوياتها المعرفية والعلمية ليُصار إلى عقد شراكة بين مختلف الجامعات لتوجيه الأبحاث بما يهمّ البلد وتحديداً: الطاقة، الاستثمار الزراعي والصناعي، الدفاع وسواه مما قد تلحظه خطط الدولة.. وإعداد متعلّم قادر على التعلّم المستمر من أجل مواكبة التطورات في عالم المعرفة وسوق العمل.
زلزلي لموقع المنار: التوصيات تفيد الجامعات المشاركة
وحول جدوى هذا النوع من المؤتمرات أجاب السيد علي زلزلي مدير المركز، موقع المنار، أن فائدة هذه المؤتمرات تعود إلى جهتين: الأولى هي فائدة خاصة للمركز نفسه كي يتطور في دراساته التربوية، الفائدة الثانية تعود إلى بعض الجامعات التي تأخذ هذه المقررات على درجة من الأهمية ويجرون بعض التعديلات على مناهجهم وطرق تدريسهم، لأن كل هذه المؤتمرات تهدف إلى تخريج طالب اختصاصه يتناسب وسوق العمل. وجدية المؤتمر تكمن بمشاركة محتلف الجامعات اللبنانية الذين يضعون خلاصة خبرات حقيقية ثم هم انفسهم يعودون للاستفادة منها. وطالما نرغب في تخريج طالب مؤهل لسوق العمل ضمن اختصاصه طالما نحن مطالبون بإعادة النظر في مناهج التعليم العالي. نسجل هنا أسفنا إلى أن هذه التوصيات ليست ملزمة للوزرات المعينة، وندعوها إلى الاستفادة منها ما أمكن.
تصوير : وهب زين الدين