ولكن في هذا التقرير التوليفة الإقليميّة المناسبة ما يكفي من البيانات حول إسرائيل ليضمن للقارئ أنّ الوحدة المتوسطية التي يطرحها تحمل التطبيع على متنهامما قد يسمح أن يقضي شمعون بيريز في بيروت بعض الوقت
يتغيّر التوصيف ولكن المضمون واحد، إذ إنّ أيّ طرح اقتصادي إقليمي يجعل إسرائيل في قلب شراكة أورو ــ متوسّطية، هو وجه آخر لعملة «الشرق الأوسط الجديد» الذي يبقى مبتوراً بحكم الظلم والظلام المسيطرين على المنطقة، فضلاً عن العداوة القائمة بين بلدانها والدولة العبرية. فكيف يصل الترويج لهذه الطروحات إلى بيروت؟.
كتب حسن شقراني في جريدة الأخبار اللبنانية :
الطرح يحمله هذه المرّة ــ بعد كوندوليزا رايس في أعوام إدارة جورج بوش الابن ــ «معهد التوقعات الاقتصادية للعالم المتوسّطي» (IPEMED)، إذ يتحدّث الفاعلون فيه عن «مساحة متوسطية» تتمتع بما يكفي من الإمكانات لكي تتحوّل رقماً صعباً في الثورة الصناعية الجديدة التي يشهدها العالم. تحوي هذه المساحة البلدان الأوروبيّة إضافة إلى بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي إن الحديث هو عن كتلة بشرية مؤلفة من 500 مليون نسمة من العالم المتقدم في هذه المجموعة، والعدد نفسه في الجانب النامي. وفي الإجمال، مليار نسمة يطمح المعهد إلى دمجهم في قالب واحد من الوحدة الإقليميّة، على أن يلعب قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دوراً أساسياً في صياغتها.
ولكن في هذه الطبخة بعض البحص! وخلال عرض مؤسس المعهد، جان ــ لوي غيغو، لفلسفته حول مستقبل المنطقة في ندوة خاصة بهذا الموضوع استضافها المعهد العالي للأعمال (ESA) في بيروت أمس، ظهر هذا البحص واضحاً. إذ في معرض تشديده على أهمية الوحدة الأورو متوسطية، أشار هذا الباحث الفرنسي إلى أن إسرائيل وتركيا هما شريكان مهمان أيضاً في المعادلة. الحديث كان «Live» على مسمع الحضور، ولكن لمن أبى أن يُصدّق أذنيه ــ طبعاً لأنه يسمع حديثاً عن التطبيع مع إسرائيل في قلب منطقة كليمنصو ــ أمكنه الاطلاع على التقرير «نحو مساحة متوسطية: الثقة في المجتمع الرقمي».
ففي هذا التقرير الذي يُشكّل شراع المعهد في بحثه عن التوليفة الإقليميّة المناسبة ما يكفي من البيانات حول إسرائيل ليضمن للقارئ أنّ الوحدة المتوسطية التي يطرحها تحمل التطبيع على متنها، وحتّى أعلى صفحات التقرير مذيّلة بأحرف من اللغة العبرية.
هكذا إذاً، نحن أمام مقاربة جديدة قائمة على «القرب، التكامل والوحدة» ــ وهي الكلمات التي يستخدمها جان ــ لوي غيغو في مطالعته التحليليّة ــ تأخذ في الاعتبار دور إسرائيل بصفتها لاعباً مهماً في المنطقة نظراً إلى مؤشراتها المبهرة على صعيد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT).
ولكن على ماذا تقوم هذه المبادرة تحديداً؟ ولماذا هي بهذا المستوى من الأهمية بنظر المروّجين لها (طبعاً وفقاً للأهداف المعلنة)؟
هناك علامة فارقة يحملها هذا التقرير، مقارنة بدعوات وحدوية أخرى طُرحت لمنطقة الشرق الأوسط بهدف التطبيع (ومن أبرز تلك الدعوات فلسفة الرئيس الإسرائيلي الحالي شمعون بيريز التي عبّر عنها في كتابه الشهير «الشرق الأوسط الجديد» عام 1994 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وغداة «أوسلو»). الفارق هو أنّ التقرير يدعو إلى اندماج أكبر بين شعوب المنطقة من خلال تعزيز الثقة بينها، وأيضاً عبر تطوير المجتمع الرقمي المتوسطي الذي يُشكّل منصّة لرفع مستوى التعامل في ما بينها.
يُركّز التقرير على المجتمع الرقمي الذي مثّّل المتنفّس الوحيد للشعوب العربية المخنوقة من سخط الديكتاتوريات بعد سنوات طويلة من حكم الاستعمار. فبرأي معدّيه، تنطلق تلك الشعوب لتعزيز معرفتها الرقمية وانخراطها في النشاطات المختلفة على الشبكة العنكبوتية، ومن هنا حجّتهم: ليس بالضرورة أن تنحصر تلك النشاطات في مجال مناصرة الحقوق الإنسانية والسياسية، بل يُمكن أن تتطوّر صوب التجارة الإلكترونية (e-Commerce). ففي هذا المجال يؤكّد الخبراء أن المقوّمات العربية لا تزال في بداياتها، ولكن في هذا المجال أيضاً تبرز الثغر التي تُمكّن من فتح الحدود الاقتصادية الرقمية مع إسرائيل، وليس فقط أمام السلع بل الخدمات الأساسية مثل السياحة.
ولتحقيق هذه المساحة الرقمية يقترح التقرير 3 خطوات: أوّلاً، إنشاء «سحابة إلكترونية متوسطية» (Mediterranean Computing Cloud) تكون دعماً أساسياً لتبادل الخدمات بين الشمال والجنوب وبين بلدان الجنوب نفسها. ثانياً، تطوير ميثاق للاستخدامات الرقمية في المنطقة إضافة إلى مرجع يرعى صياغته الاتحاد الأوروبي ليحكم العمل في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، على أن يؤمّن لشركات المنطقة احتياجاتها المختلفة عند مختلف المستويات: من مواجهة المشاكل وصولاً إلى حلول التطوير.
ثالثاً، إطلاق نقاش معمّق حول السياسات التي يجب اعتمادها في مجال حماية الملكية الفكريّة، الخصوصية الحياتية، وصولاً إلى سيادة البلدان، وما إلى ذلك من حقوق تتعلق بالحرمة!.. … وبعد تحقيق كل هذه الأحلام يُمكن «الاحتفال بالمنطقة المتوسطية الرقمية في مناسبات سنوية بطابع ثقافي وعلمي...»، يختم التقرير. في هذه اللحظة نحن بعيدون جداً عن احتفال كهذا ولا شكّ. فقبل قطع قالب الحلوى هناك العديد من المسائل التي يجب التأمّل بها، ومنها هذا السؤال: لماذا يستمر الأوروبيون بالحديث عن وحدة متوسطية متغاضين عن المعضلة الأساسية في هذه المنطقة: القضية الفلسطينية ودور إسرائيل؟.
يُقنع الأوروبيون أنفسهم بالأرقام الجميلة (المنطقة وحدها تُنتج 15% من الناتج العالمي مثلاً)، بالاقتباسات الرنانة (منطقة المتوسط هي «قارّة سائلة بحدود صلبة وبسكان متنقلين» وفقاً للعالم الاجتماعي والسياسي الفرنسي الراحل، برونو إيتيان) إضافة إلى الرصد الدقيق لهذه المرحلة من العولمة حيث التركيز على دور الأقاليم: «يظهر ذلك من الوقت الذي يوليه الرئيس الأميركي باراك أوباما للاتحادات الإقيلمية مقارنة بمجموعة الدول الثماني العظمى (G8)»، يوضح جان ــ لوي غيغو.
ولكن مهما يكن التحليل موضوعياً يبقى حاملاً في طياته فكرة أنه في وقت ما قريب، قد يقضي شمعون بيريز في بيروت وقتاً أكثر مما يُمضيه في واشنطن!.