29-11-2024 02:54 PM بتوقيت القدس المحتلة

.. لأنـه مـوسـى الصـدر تصدّر الكنيسة والجامع والشارع

.. لأنـه مـوسـى الصـدر تصدّر الكنيسة والجامع والشارع

لأنَّهُ «الصَّدرُ» الذي أرَّخَ أولى حُرُوفِهِ على وريقاتٍ أملِهِ مِن خدمَةِ الإنسان بما يعنيهِ مِن جمالات الأزل، وسط بحرٍ هائج مِن نارٍ الجنون الدَّولي والعقول الطائفيَّة والأنانيَّة

أحمد قبلان -  السفير

الامام السيد موسى الصدرلأنَّهُ «الصَّدرُ» الذي أرَّخَ أولى حُرُوفِهِ على وريقاتٍ أملِهِ مِن خدمَةِ الإنسان بما يعنيهِ مِن جمالات الأزل، وسط بحرٍ هائج مِن نارٍ الجنون الدَّولي والعقول الطائفيَّة والأنانيَّة، فقد كتبَ يوماً يُقَرِّر ما يُمليه عليهِ مفهومه للوجود قائلاً: ليس للذَّات البشريَّة إلاَّ ما كونتهُ يدُ الله، فإنْ هي انسلخت من طينِ نورها الأوَّل تحوَّلت قطعةً مِن نار.. وهدياً على فهمِهِ للذَّات الإنسانيَّة من محلِّ مجتمعها أكَّد الإمام الصَّدر أنَّ السُّلطة وظيفة إنسانيَّة، غايتُها تمكين البشر مِن أدوارهِم التي خُلِقوا مِن أجلها، وإلاَّ فهي «استبداد قاتِل». لذا ظلَّ يكرِّر أنَّ «المستبدَ لا محلّ له مِن شرعيَّة الحكم والحكومات. وأنَّ المستبد قد يكون برنامج أو طريقة حكم، أو شكلا مِن أشكال التَّعامي الفكري والسِّيَاسِي.

وعَن المشروع السِّيَاسِي، أكَّد أنَّهُ ناتجُ فهمنا عن المَصَالِح التي تضمَن حقَّ الفرد بالوصفين الفردي والاجتماعي، بما يتقاطع وجوديَّتَهُ وأصلَ خلْقته، من دون أنْ يكون للسلطة السياسيَّة أي حقَّ بالتَّسلُّط أو الإثرة، وإلاَّ تحوَّلت نمطاً مِن أنماط الاستبداد، ولأنَّ التَّكوين المجتمعي قد تتقاسمُهُ الإثنيَّات والعرقيَّات والدِّينيَّات - وهذا يفترضُ الإجابة عن حقِّ الآخر- بَيَّنَ الإمام الصَّدر أنّ الآخر قد يكون مِن دينٍ آخر أو مِن مذهبٍ آخر أو لا يعتقدُ أيَّ دينٍ أو مذهب أو على خصومة سياسيَّة أو فكريَّة، فأكَّدَ أنَّ عمدة وثيقة الوجود الأولى قرَّرت شراكتنا الإنسانيَّة، مشيراً أنَّ هذا مطلب الأديان التي قرَّرت أنَّ نَظارة الخَلق هي أساس الشَّراكة الأولى ومادَّة المشروعات التي تستهدفُ كمالات الإنسان، مُبَيِّناً أنَّ هذا معنى قول الله تعالى: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وأسَّسَ على ذلك أنَّ الذَّات البشريَّة مركز الاحترام وعمدة الخطاب الأوَّل للشراكة العامَّة بين الخلق، ومنها ترجَمَ مفهومه عن الموَاطَنَة واللبنانيَّة والعالميَّة والشَّراكة الدِّينيَّة والأخلاقيَّة والمضابط الكونيَّة نزولاً منه على الرُّؤيا الوجوديَّة والوحدة الكونيَّة.

وبناءً عليه، ونزولاً على فهم صفَة المواطن اللبناني باختلاف أديانِهِ وملله، أكَّد أنَّ الجامع الاجتماعي والنَّمط الأخلاقي يمكنُهُ أن يُؤسِس لأكبر فهم عن المواطنة الأخلاقيَّة في وطنٍ يمكنُهُ أن يتحوَّل نموذجاً رائداً للتعايش الإسلامي المسيحي.

ولأنَّهُ قرأ الإنسانَ بالمنشأ والحاجة والضَّمانات فقد حذَّرَ، في خضمِّ مُتَابَعَتِهِ لصُوَرِ الظُّلم والعدل المجتمعي، مِن تقاسم السُّلطة وأنماطِها على قاعدة الغُنم، مُذَكِّراً أنَّ العدل السِّياسي لا يمكن أنْ يتحقَّق من دون كهرباء وماء وطبابة وعمل ومدرسة وضمانات أخرى، وأنَّ الجريمة لها مُكَوِّنها المجتمعي ونمطها السِّياسي، مُؤَكِّداً أنَّ المجرم قد يكون المشروع الكبير وليس الفاعل الصَغير، وعندما عملَ على تأسيس المجلس الشَّيعي أكَّدَ لكلِ المُتَابِعين أنَّ الغاية مِن ذلك قطع اليد السِّيَاسِيَّة عن استغلال المذهَبيَّة والطائفيَّة لتحقيق مآرب زعامتيَّة، وتمكين المجلس الشِّيعي مِن المساهَمَة بتأسيس وثيقة العدل الاجتماعي والشراكة الأخلاقيَّة والنَّمط السياسي الذي يمنع مِن احتكار القرار والبرامج.

وعن أزمة تآكل السِّيَادَة اللبنانيَّة بسبب تداخل الإقليمي بالمحلِّي وسط هجمة دوليَّة على ما سمَّتهُ الحدود الآمنة لإسرائيل، أكَّد أنَّ كسر حاجز الطَّائفيَّة وتمكين المشترك الوطني والتَّضامُن السياسي هو أمكنُ سلاح لمواجهة التآكل السِّيادي.

وعن الاحتكام إلى المجتمع الدَّولي بخصوص فلسطين ولبنان وباقي الدُّول العربيَّة، ظَلَّ يكرِّر أنَّ الظُّلم الأمَمِي هو وليد استبداد مجلس الأمن الذي تقاسم العالم على شكل امتياز مصالح وطريقة غزو وانتداب، فضلاً عن إلغاء دُوَل وتأسيس أخرى على قاعدة هيمنة الأقوى، مُبَيِّناً أنَّ الضمانة الأساس في عالمٍ يملأه الذِّئاب هو المقاومة بكافَّة أشكالها، وهو القائل: ليست إسرائيل أقوى مِن الولايات المتحدة ولسنا أضعف مِن فيتنام».. مصرَّاً على أهميَّة هذا النمط في هزيمة الجبابرة..

وعلى الأثر، أعلَن عن تأسيس نواة المقاومة وحركة المحرومين كمركز أوَّل للقراءة الطبيعيَّة في كتاب الحقوق الكوني.

السيد موسى الصدر وسط عدد من الشبانولأنَّهُ موسى الصَّدر فقد تصدَّرَ الكنيسة والجامع والشَّارع، وهو يصرخُ بوجع المحرومين ومأساة المستضعفين ليُؤكّد أنَّ الأنانيَّة السياسيِّة والوثنيَّة الخاصَّة هي سبب المذابح التي اجتاحت لبنان، وأنَّ بناء المتاريس سبقَهُ بناء المدافِع النَّفسيَّة، وأنَّ الاستبداد السُّلطوي تحوَّل إلى طريقة نهب ممنهَج للثروة والقطاعات والموارد والأصول الماليَّة والفرص الوظيفيَّة، ما أسَّس لموجَة هائلة مِن التمرَّد النُّفسي الذي تُرجِمَ فيما بعد على شكل انفجار مختلف الأوجه.

وعن علاقتِهِ بالسلاح الفلسطيني، أكَّد أنَّ قيمة السِّلاح مِن وجهتِهِ ونمطِ استعمالاتِه، مُصَرَّاً أنَّ فلسطين والقدس تفرضان نمطاً وطريقةً ذات هويَّة أخلاقيَّة وفدائيَّة وقيم مرجعيَّة ضامنة، وإلاَّ سقط في زارُوب الأنَانِيَّات.

وعن العرب، كان يرى أنَّ الشَّعب العربي ذخيرةٌ هائلة لولا أنَّ نمط الأنظمة يقوم على التَّوريث والمركزيَّات الخانقة والمفهوم الأمني والاحتكار السُّلطوي، وكان قبيل اختطافِه قلقاً جدَّاً لِمَا يرى من تهويد فلسطين، وسط أجندات عربيَّة مكتومة لا هَمَّ لها إلاَّ الاستبداد الذَّاتي والنمط الأمني والقطيعة الصريحة لقضيَّة القدس وحاجات العالم العربي.

وعن آمَالِهَ، ختمَ قبيل سفره: إنَّ غايةَ الأديان تدورُ مدارَ خدمةِ الإنسان، وتلك علَّةُ الوجودِ مِن خلقِ الموجود.. ثمَّ قفلَ نحو مرابع جهادِه سيراً على فقهِ كلماته ليبقَى محتجزاً أسيراً طيلة هذهِ السُّنوات العجاف، فيما ينابيعُ وثيقتِهِ ما زلت كالشمس تعلِّمُنا أنّ قلادة الله ختمٌ مرصودٌ على «خدمة الإنسان»، ومحاربةِ الظُّلم والحرمان.

* المفتي الجعفري الممتاز