شكراً مرسي. فاتحة عهده في مصر: «عودوا إلى ثكناتكم».
نصري الصايغ
شكراً مرسي. فاتحة عهده في مصر: «عودوا إلى ثكناتكم».
تجرأ حاكم مصر الجديد على العسكر. أطاح سلطتهم ونفوذهم وطموحهم، وأعادهم إلى رشدهم العسكري... فالعسكر، ليس للسياسة، وليس فوق السياسة ولا «مرشد» السياسة. العسكر مأمور وليس آمراً. «الأمر لي»، هي من اختصاص السلطة السياسية، وخصوصاً إذا كانت منتخبة ديموقراطيا، وإذا كانت ممثلة للقوى السياسية تمثيلاً صحيحاً.
شكراً لرئيس مصر، لأنه بدأ فاتحة عهده، بالفاتحة الحقيقية. لا تقاسم للسلطة مع العسكر. واجب العسكر، حماية التراب الوطني وحراسة الدولة وحدودها، ضد كل عدوان، دعم قرارات السلطة، إذا كان ذلك مطلوبا، التزام حرفية الدستور والقوانين والامتثال الدائم لقرارات السلطة السياسية.
شكراً، لأن فاتحة مرسي لم يقرأها أحد قبله في العالم العربي، ولأنه أرشد دول الربيع العربي، على مسؤولياتها الديموقراطية وأولاها: تطهير الدولة من السلطة العسكرية، وحرمان هذه القوة من التفكير مرة أخرى، باغتصاب السلطة، فلم يشهد التاريخ العربي الحديث، أسوأ منه، «طرًّا».
عندما حضر العسكر إلى السلطة، غابت السياسة، طوردت الأحزاب، اعتقلت الأفكار والعقائد، صودرت الحريات، وتم تلفيق شعار فلسطيني، سمح للعسكر بأن يشفي غليله من الفلسطينيين.
الشعب في الدول العسكرية البوليسية يعامل كخائن. نعم، الشعوب العربية عوملت وكأنها خائنة بالفطرة، بالسلالة، بالثقافة، بالفعل، بالدين... الشعب خائن، أو هو قيد الخيانة، أو هو الخيانة مع وقف التنفيذ... كان المطلوب مصادرة الشعوب وسجنها ونفيها وحيونتها. كانت الأدوات جاهزة ولا تحتاج إلى اكتشاف. القمع يسير عاريا في وضح النهار... عندما تقول عسكر في السلطة تستنتج سرعة المشاهدة وبرهان الحياة اليومية ان الخوف منتشر كالهواء. أدوات العسكر: استخبارات تتجسس على الصمت والأحلام، على الأقوال والأفعال، على ما هو عادي واستثنائي، على ما هو جميل ورائع...
العسكر يعني معتقلات سرية وحجزاً وإخفاء وسرقة وخيانات واغتيالات وتلفيق تحقيقات، وتزوير أحكام، وسرقة أتعاب...
العسكر يعني ممارسة الخداع والتحريض والفتك والسحل والتدمير وإدارة الجريمة المنظمة وتدبير لوائح اتهام بالأبرياء، لابتزازهم في أعز ما يملكون: أعراضهم وأملاكهم وأبناءهم.
لا بريء في أنظمة العسكر، إلا الأتباع والعبيد والجبناء، وحشود الانتهازيين، ولا طريقة لإقناع الجماهير بصوابية الحكم، إلا عبر توظيف كتّاب ومفكرين زنادقة، قادرين على الخداع والتزوير ببلاغة ورصانة وحرفية.
لا حياة في أنظمة العسكر. الخوف يقتل إنسانية المواطن. يستثير فيه شهوة الكسل، وشهية السلامة، وغريزة استطابة الضعف والمسكنة والمذلة. لا جباه عالية للناس مع الحكم العسكري. لا قامة لمواطن أو لإنسان، تعلو «جزمة» العسكري. جزمة العسكري عقله، قبضته قضيته، السلطة نعيمه، وعلى الناس ان يتنعموا بالجحيم، ويشكروا الله على بقائهم «أمواتا يرزقون».
في ظل الحكم العسكري، وداعاً للقضايا. وداعاً فلسطين. وداعاً الوحدة، وداعاً الاشتراكية، وداعاً القومية، وداعاً الحرية، وداعاً الديموقراطية، وداعاً التنمية، وداعاً القيم، وداعاً الانتصارات، وداعاً الكرامة، وداعاً الخبز... وداعاً لكل إنساني ووطني وجميل وأخلاقي.
قادنا العسكر إلى هذا الحتف. أكان حاكماً بذاته، أم كان ترسانة دعم لسلطة ملكية، أميرية، سلطانية، وراثية. هنا، في هذا المقام، العسكر خادم مطيع لسلطة استبدادية. هو أداة ارتكاب الفظائع، بحماية سياسية... العسكر أجير ومُؤاجر. ملكي أكثر من الملك. خاصة ان أبناء الملوك والأمراء، هم قادة الجيوش وأمراء الألوية.
كان العسكر في السلطة أشدّاء على شعوبهم، وجبناء في مواجهة أعدائهم، ومطيعين لنصائح أسياد العالم. ولقبهم، وفق الكاتب السويسري جان زغلر، أسياد الجريمة.
ليس هناك نظام عسكري في العالم، إلا وقاد بلاده إلى الخراب. بما فيه الاتحاد السوفياتي سابقا، وكل الدول التي دارت في فلكه، وفق النظام العسكري، القابض على الحزب والأمن والاقتصاد والناس.
الأنظمة العسكرية العربية بالغت في تسجيل الهزائم والتنازلات. ولم تنتصر في معركة، وعندما انتصرت قليلا، على العدو، عاقبت الشعب عبر تحويل الانتصار إلى جائزة لتأبيده في السلطة.
الاستثناء لا يعتد به. وهو، إذا كان مصيباً في مسار ما، فهو مجرم في مساراته مع شعبه... الاستثناء لا يعتد به، لأن فضائل العسكريتاريا، تعطبها الانهيارات المجتمعية والإنسانية، ولأنها، بحكم تركيبتها، تفترض إبقاء السلطة وحدها في مقام القوة، وتعميم الضعف والوهن والانقسام في قوى المجتمع... لا يؤمن العسكر بغير جزمته. لا يرضى إلا بمن دونها وما تحتها. يتعامل مع البشر كحشرات مؤذية.
لقد عرف العالم الثالث حكم العسكر. افريقيا دمّرتها القوى العسكرية الانقلابية، وكل مرة بشعار الدفاع عن الشعب، واستجلاباً لحرية مفقودة. (عسكر وحرية لا يجتمعان). عرفت أميركا اللاتينية انقلابات أطاحت ديموقراطيات وأحزاباً، فنهب عسكرها البلاد وأشرك الامبريالية بسرقتها.
مرسي في هذا القرار التاريخي، كان أميناً لروحية «الميدان». فوضع مصر، ربما لأول مرة في تاريخها الحديث، على الصراط المدني، فلم تعد أسيرة الثكنة العسكرية. كما منح العسكر فرصة استعادة الروح العسكرية وقيمها الفذة: التضحية، الوفاء، الإخلاص، الشهادة، التي تجعل من «العسكرية» قيمة عليا، فوق الشبهات، العسكر في مواقعه، له التحية، والشعب معه حتى الثمالة.
الأمة، أمام ظاهرة سياسية جديدة، تحتاج إلى ما يشبهها، لتصبح تقليداً، تسير عليه الدول العربية. ظاهرة تحرير الأمة من القبضة الأمنية والعسكرية، بعد أزمنة الطغيان والاستبداد والتخلف والتبعية.
عند هذا الحد يتوقف الشكر لرئيس جمهورية مصر، محمد مرسي.
بكل أسف، لا يزال ظل مبارك في دوائر السياسة الخارجية. لكأن مرسي حريص على الالتزام، بإدارة السياسة الخارجية، وفق التقليد السابق.
بكل أسف، مرسي هو مبارك إسلامي: حرص على التأكيد بالتزام معاهدة السلام مع اسرائيل، التزام شديد بسلامة القواعد الأميركية، تأكيد على محاربة الارهاب، حراسة الاستثمارات الاميركية، الثبات على النظام الاقتصادي الليبرالي.
من كان هذا دينه في السياسة الخارجية، لا يذهب إلى طهران بهذا الخطاب، من مقدماته المذهبية إلى خواتيمه الإسلامية... الثورة في طهران، إنما كان إحدى أبرز ركائزها، القطع التام مع السياسة الخارجية التي انتهجها نظام الشاه. قطعت مع الولايات المتحدة الأميركية، ودفعت الثمن. قطعت مع اسرائيل واستضافت فلسطين، فصارت سياستها ترسم على قاعدة العداء التام مع هاتين الدولتين. لم تحسب حسابات صغيرة. طهران دخلت المسرح السياسي بجدارة الصراع من أجل فلسطين، ضد أميركا وإسرائيل. وقد دفعت ثمناً باهظاً، ولا تزال. وحمت خياراتها الخارجية الاستراتيجية، بنظام سياسي إنتاجي علمي تقني، جعلها، برغم الحصار والحرب العراقية، الدولة الأقوى، والقادرة على حماية سياستها الخارجية بالقوة. لا تقارن مصر اليوم، بإيران على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً. لذا، لا تخاطب ايران مذهبياً... هذه صغائر السياسة. لا تبقى العلاقات الديبلوماسية معها مقطوعة، فيما سارعت سلطة مرسي إلى تعيين سفير جديد في إسرائيل، كي لا يفسر الغياب تحولاً في سياسة مصر إزاءها. لا تخاطب إيران لإحراجها، فيما الوفود الأميركية تؤم مصر، ليكون لها رأي في كل شاردة وواردة... ليست هذه هي مصر المنتظرة... ليست هذه هي مصر القائدة لأمتها.
أخيراً، لا خوف من «الاخوان». الخوف من «الأخونة». وكما لا ديموقراطية مع العسكرة، لا ديموقراطية مع «الأخونة» ولا سياسة خارجية جديدة كذلك.
من حقنا أن نشكك، ومن واجبنا أن ننتظر، وفي هذه الأثناء، عيننا على فلسطين. وقلبنا على سوريا. والكثير من الحرص على الحرية والديموقراطية والكرامة. عسى تكون مصر غدا، ضد ما كانت عليه بالأمس وعكس ما هي عليه اليوم في سياستها الخارجية.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه