أهداف "العثمانيين الجدد"، التسمية التي تطلق على أعضاء حزب العدالة والتنمية، تخطت إطار الشراكة السياسية والإقتصادية ليصبح الأتراك جزءاً من الأحداث التي تعصف بالمنطقة عقب بداية ما يسمى بالربيع العربي
منذ صعود نجمه عام 2002 إثر فوز ساحق في الإنتخابات البرلمانية، بات حزب العدالة والتنمية التركي مسكوناً بحلم الإمبراطورية العثمانية. منذ ذلك الوقت انتهج الحزب، "الإسلامي" الهوى، سياسة "تصفير المشكلات" كبوابة لولوج العالم العربي بحيث تصبح أنقرة شريكاً أساسياً في نسج السياسات العربية. لكن أهداف "العثمانيين الجدد"، التسمية التي تطلق على أعضاء حزب العدالة والتنمية، تخطت إطار الشراكة السياسية والإقتصادية ليصبح الأتراك جزءاً من الأحداث التي تعصف بالمنطقة عقب بداية ما يسمى بالربيع العربي: مشروع إسقاط النظام السوري.
سورية وحزب العدالة والتنمية: تعاون ثمّ خصومة
شهدت العلاقة بين تركيا وسورية في عهد حزب العدالة والتنمية تقدماً ملحوظاً خصوصاً عقب زيارة الرئيس بشار الأسد لأنقرة عام 2004، هذا التقدم الذي توّج بمجموعة من الإتفاقيات بين البلدين سرعان ما استحال عداوةً مطلقة بينهما اثر انتقال السلطة في تركيا إلى موقع الخصم اللدود للنظام السوري عقب بداية الأزمة عام 2011، حيث بات شعار "العدالة والتنمية" في أكثر خطابات قياداته وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان: فليسقط الأسد.
وقوف السلطات التركية إلى جانب ما يسمى المعارضة السورية، لم يكن فقط ضمن إطار الدعم السياسي بل شمله الدعم العسكري المباشر من خلال ايواء عناصر مما يسمى الجيش السوري الحر وتأمين الدعم العسكري واللوجستي لعناصره، إضافةً إلى انتشار عدد كبير من مخيمات اللاجئين السوريين على امتداد المناطق الحدودية، التي شكلت بمعظمها مجرد غطاء لمخيمات تدريب لعناصر المجموعات المسلحة التي تقوم بعمليات إرهابية في الداخل السوري.
الأسد لم يسقط.. فهل ينقلب السحر على الساحر؟
عدم سقوط النظام السوري بعد مرور عام ونصف العام على اندلاع الأحداث، شكّل مأزقاً جدياً لأنقرة واضعاً سياستها الخارجية أمام السؤال الصعب: هل بتنا جزءاً من مغامرة فاشلة أو أزمة طويلة المدى؟ فقد أظهرت تصريحات المسؤولين الأتراك في بداية الأزمة ثقةً كبيرة بسقوط سريع للأسد، لكن يبدو أن الموقف الروسي من الأحداث السورية إضافةً إلى القدرات العسكرية للنظام وما يحمله تطور الأحداث في سورية من أهمية على المستوى الإقليمي، كل ذلك كان خارج حسابات الأتراك، الذين بدؤا يعيشون تبعات الأزمة على أرضهم.
ففي الآونة الأخيرة، برزت معلومات تتناول الرفض المتزايد من قبل مواطنين أتراك يعيشون في المناطق الحدودية لتواجد معارضين سوريين في مناطقهم، بحيث نقل الأهالي أن هؤلاء المعارضين يتصرفون بطريقة تثير المخاوف وأن منازلهم تحوّلت إلى مخازن للسلاح والذخيرة من دون أن يجرؤ رجال الشرطة على مواجهتهم، وإلا كانت عقوبتهم الموت، بحسب الأهالي.
إضافةً إلى ذلك، فقد برز تحذير جاء على لسان مرست سوكمن أوغلو، السياسي السابق من الأحزاب المركزية، والذي قال في مقابلة مع صحيفة «فاتان» اليومية إن هناك مؤامرة يجري إعدادها من أجل تحقيق شرخ أهلي وتحريض السنة والعلويين على الاقتتال. وذكر اوغلو بمجزرة مارا، المدينة الجنوبية الشرقية، حيث قُتل 111 علوياً وجُرح آلاف السنة والعلويين في اشتباكات طائفية عام 1978. هذه الأحداث التي بدأت تتردد كثيراً على لسان قادة الأحزاب التركية المعارضة وعلى رأسهم حزب الشعب الجمهوري، فرضت نوعاً من النقاش في الداخل التركي قوامه عدد كبير من الأسئلة عن جدوى هذا الإنخراط الكلي في الأزمة السورية، وإلى أي مدى تستطيع أنقرة تحمّل تبعاته على المستوى الداخلي والخارجي، إضافةً إلى تأثير ذلك على شعبية حزب العدالة والتنمية الذي يبدو أنه لا زال يراهن على قطف الثمار السورية ولو بعد حين.
الخطر الكردي المتعاظم
يرى الخبير في الشؤون التركية محمد نور الدين أنه "من الواضح أن حكومة حزب العدالة والتنمية لم تتوقع أن تستمر الأزمة السورية كل هذا الوقت. كانت تراهن على سقوط النظام خلال فترة أشهر، وتنقلب بذلك خريطة المنطقة لصالح الأتراك. لذلك لم يضع مخططو السياسة الخارجية التركية في حساباتهم وفي تقديراتهم إمكانية استمرار النظام في الوجود كل هذه الفترة. وعلى هذا الأساس، انقلبت رأساً على عقب كل الرهانات التركية وبدأت تظهر مخاطر لم تكن الحكومة التركية تتوقعها في الأساس، وهذا يعكس قصر نظر في تقدير الأحداث".
وفي حديث مع موقع المنار، يشرح نور الدين أن "أن مخاطر الأزمة السورية على تركيا تقع في أكثر من مورد: أولاً العنوان الأمني الداخلي، والذي يتمثل بتصاعد عمليات حزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي، ليس فقط في إطار عمليات فردية أو محدودة، بل في حصول مواجهات استمرت عدة أسابيع ولا تزال تستمر من وقت لآخر في جنوب شرق تركيا بين مئات المقاتلين من حزب العمال الكردستاني ومواقع ومراكز للجيش التركي خاصة في منطقة حقاري. إضافة إلى انتقال هذا النوع من العمليات إلى أماكن أخرى كمدينة غازي عينتاب وقرب أزمير على ساحل بحر ايجا، يعني في أقصى الغرب التركي. بمعنى أن هذه العمليات شملت كل تركيا من أقصى شرقها إلى أقصى غربها. وأسفرت هذه العمليات حتى الآن في الأسابيع الأخيرة عن مقتل ما لا يقل عن مئة ضابط وجندي تركي".
ويضيف نورالدين أن "الخطر الثاني يتصل ايضاً بالمسألة الكردية، وهو وجود واقع كردي جديد في شمال سورية بعد حصول فراغ أمني هناك يقضي بملئ حزب العمال الكردستاني هذا الفراغ. سواء بقي النظام في سورية أو ذهب، سواء حلّ مكانه نظام إخواني أو نظام متعدد أو تفككت سورية أو دخلت في فوضى لا نهاية لها، لن يعود وضع أكراد سورية في الشمال السوري كما كان عليه قبل بدء الأزمة. هذا يعني في الحد الأدنى أن هؤلاء الأكراد سيأسسون حكماً ذاتياً في المستقبل وفي الحد الأقصى إقامة دولة مستقلة. هذا يعني تمدد الطوق الكردي من شمال العراق إلى شمال سورية وهذا أمر خطير جداً على الأمن القومي التركي ويمكن أن يؤثر على تطور المسألة الكردية – التركية في الداخل التركي".
الخطاب المذهبي يوقظ النزاع السني-العلوي
وفي ما يخص تأثير الأزمة في سورية على تركيا من الناحية الإقتصادية، يوضح نورالدين أن "تركيا حققت قفزات نوعية على مستوى الدخل الفردي والنمو والناتج القومي أو حجم الصادرات والواردات. لكن نسبة الأرقام الأخيرة بدأت تُظهر التأثيرات السلبية للأزمة السورية على الإقتصاد التركي، تحديداً اقتصاد المحافظات المجاورة لسورية، حيث توقفت حركة التبادل التجاري".
وعلى صعيد التأثير الإجتماعي، اعتبر الخبير في الشؤون التركية أنه "في الأساس فإن تركيا تعيش حالة احتقان مذهبي بين السنة والعلويين منذ القرن السادس عشر. وبعد مجيء أتاتورك وفرضه واقعاً علمانياً، شكّل ذلك نوعاً من الحماية للعلويين، لكن المشكلة تكمن في أنه حتى العلمانيين الأتراك كانوا في علاقتهم مع العلويين يتصرفون بذهنية سنية، ولذلك لم ينل العلويون أي حق خاص بهم في عهد العلمانيين، فكيف الأمر مع حكومة لها طابع إسلامي كحزب العدالة والتنمية؟ وعندما بدأت الأزمة في سورية، كان من أحد العوامل التي رسمت سياسة أردوغان تجاهها هو البعد المذهبي، بمعنى أن أردوغان عندما تعاطى مع الأزمة السورية تعاطى في جزء منها انطلاقاً من خلفية مذهبية فكان يشدد على علوية الرئيس وسنية زوجته، ويشدد على أن النظام علوي والمعارضة سنية".
مستقبل الدور التركي في المنطقة بات رهن سقوط النظام السوري أو بقائه
ويشير الخبير في الشؤون التركية إلى مسألة مهمة وهي أن حزب العدالة والتنمية "قد وضع كل ثقله لإسقاط النظام السوري، ووضع مستقبل الدور التركي في المنطقة رهن سقوط النظام أو بقائه. وبالتالي أرى أن استمرار النظام يعني تراجع الدور التركي في المنطقة. تركيا أمام خيار واحد وهو الإستمرار بالسعي لإسقاط هذا النظام سواء بفرض المزيد من العقوبات الإقتصادية ومحاولة فرض التدخل العسكري من الخارج، أو عبر تفكيك الجيش السوري من الداخل وتشجيع الإنشقاقات العسكرية والسياسية، عبر تحريك الأقليات كالمسيحيين والدروز أي تفكيك شبكة أمان النظام. تركيا لا تراهن على أمر معين بل تراهن على تغير الظروف".
وفي السياق نفسه، يتابع نورالدين أنه "تراءى لتركيا أنه يمكن أن تتحول من لاعب شريك إلى لاعب أساسي وهذا يتطلب إضعاف اللاعب الآخر أي ايران. ورأت أنقرة أن ذلك يتمّ من خلال إسقاط النظام السوري وبالتالي تطويق الواقع الشيعي في العراق ولبنان".
تصوير: وهب زين الدين