في زمن الثورات العربية، يصعب على المرء ان يفهم الكثير من المواقف الدولية والاقليمية التي تتبارى هنا وهناك في حرب باردة تأخذ طابع الحدة في الغالب ويغيب الحد الادنى من المنطق ويكاد الحليم يصبح حيرانا من
كتب علي عبادي
في زمن الثورات العربية، يصعب على المرء ان يفهم الكثير من المواقف الدولية والاقليمية التي تتبارى هنا وهناك في حرب باردة تأخذ طابع الحدة في الغالب ويغيب الحد الادنى من المنطق ويكاد الحليم يصبح حيرانا من شدة تناقض الجهة الواحدة.
أول ما يشدّ انتباهك موقف الولايات المتحدة الذي يتشظى الى مواقف، ويصبح "التعامل مع كل حالة على حدة" قاعدة غير مفهومة للكثيرين ومنهم سياسيون في الكونغرس يتهكمون على ادارة اوباما لأنها تفتقر الى عقيدة سياسية تداري بها واقع العالم انطلاقا من كونها "قائدة العالم". وهكذا، ما يجوز في تونس من تأييد الديمقراطية (ولو من باب الاستحواذ والحلول محل النفوذ الفرنسي )، لا يصحّ في مصر (التي يضحى معها الاستقرار الاقليمي اولوية قصوى كما عبرت كلينتون في منتدى ميونيخ)، وما يصح لاحقا في مصر بحكم الامر الواقع (مع حرص على ضبط ايقاع الديمراطية المصرية الوليدة )، لا يصح في ليبيا (بحكم المصالح الاقتصادية والامنية وغيرها). وما يصبح -لاحقاً- ضرورياً في ليبيا (من تدخل عسكري) يتحول الى مخاطرة ( مع ما يستتبع ذلك من سحب القوات الاميركية الموجهة ضد ليبيا).
واذا كان للشعوب ان تتمتع بحق تقرير المصير، فليس ذلك ممكنا لشعب البحرين الباحث عن المشاركة في القرار، بدلاً من التفيؤ بظلال خادعة من برلمان مشلول وحكومة متآمرة على شعبها تطمح الى استبداله بخليط من الجنسيات، أمر لم تفطن اليه الا العقلية الاسرائيلية بناء على مفاهيم عنصرية دينية او مذهبية لا فرق. واشنطن "لا تقوى" حتى الان على ان تؤثر على تغيير مسار الأمور في البحرين، والسبب انها تفضل ان تسلط كلَ الاضواء على ايران مخافة ان تستفيد الاخيرة من اي متغير في المنطقة لمصلحتها. ولهذا يتم التغاضي عن كل ما يُرتكب في البحرين ضد الديمراطية والانسانية من انتهاكات لا توفر احدا.
المعايير المزدوجة امر لا يخص واشنطن وحدها. فكل من تخلقَ بأخلاقها ويمضي في طريقها مصاب بهذا الداء : فرنسا مثلا التي تخلفت عن الركب في تونس ومصر وشهدت على نفسها بالتواطؤ مع حكم بن علي ومبارك، تريد الآن ان تلبس قناعا مختلفا في ليبيا، حيث امتطت نهج التدخل العسكري ليشهد لها الجميع انها "اول من رمى"، لكنها تشعر بالوحدة الان بعدما خذلتها ادارة اوباما في منتصف الطريق.
أما بعض العرب فلا يحركهم أنين الشعوب المنتفضة، كأنهم ليسوا منهم ولا اولئك من العرب، تاركين للدول الكبرى ان تحرك دفة الأمور على هواها. وهم - الى ذلك- لا يرون الا ايران عدوا، وباتوا يتفننون في ابتداع قصص "شبكات التجسس الايرانية" في (البحرين والكويت) في موسم البحث عن عداوات جانبية. وأضحى الاجتماع الدوري لمجلس التعاون الخليجي محطة مهمة في استعداء ايران. وللمقارنة، انتقدت ايران (انتقدت وحسب) تدخل السعودية عسكريا في البحرين لنصرة حكومة على شعبها، ودعت لخروج هذه القوات من المملكة الصغيرة. في حين ان تركيا على لسان رئيس وزرائها اردوغان استخدمت لغة اكثر حدة في التحذير من "كربلاء جديدة" في البحرين. وما حصل ان دول الخليج عقدت اجتماعا طارئا للتنديد بموقف ايران، في حين انها لم تعلق (مجرد تعليق) على موقف تركيا. اكثر من ذلك، اتخذت تركيا مواقف في اكثر من شأن عربي : في سوريا حين دعا اردوغان القيادة السورية الى ترجمة وعودها بالاصلاح عمليا (وبالمناسبة لم تر دمشق اي بأس في تعليقات الجار التركي برغم ما فيها من خروج على المألوف). ولأنقرة مداخلات معروفة في العراق (أيدت اياد علاوي في مواجهة نوري المالكي) وفي فلسطين وفي لبنان. ومواقف تركيا ليست سوى ترجمة لنفوذ سياسي واقتصادي متعاظم في منطقة الشرق الاوسط، ومع ذلك لا تلقى مواقفها المثيرة للإنتباه اي رد من الجانب العربي "المعتدل" برغم الفتور الواضح في العلاقة بين الجانبين (وعلى الخصوص بين تركيا والسعودية ).
لماذا استعداء ايران اذاً يا بعض العرب، ومن حقها ان تبدي رأيها (مجرد الرأي) في كل ما يجري المنطقة، شأنها شأن اي دولة صاعدة مؤثرة لها مصالح وارتباطات مشروعة. أليس ما يحدث في لبنان يصيبها كما يصيب حلفاءها، أليس الامر كذلك في فلسطين والعراق وفي كل مكان ؟ ام انه يحق لأميركا الصديق الصدوق ان تتدخل في الصغيرة والكبيرة ولا يحق ذلك لإيران ؟ (لاحظ تعليقات ومداخلات المسؤولين الاميركيين في شأن البحرين الداخلي واجتماعات جيفري فيلتمان مع اطراف بحرينية مختلفة).
أعود الى المعايير المزدوجة : العالم تدخل في تيمور الشرقية وكانت جزءا من اندونيسيا واجبرها على قبول استقلالها، وتدخل في كوسوفا واجبر صربيا على منحها الاستقلال. لكنه اليوم يصم الآذان عن سماع اصوات استغاثة شعب البحرين الذي تقهره جيوش "مجلس التعاون"، ولا يريد لا الاستقلال ولا الانقلاب المسلح، بل يريد حق تقرير شؤونه.
لا نتوقع من هذا العالم ان يصبح يوماً ذا ضمير حي، فهو بنى أسسه ومداميكه على المصالح المادية والنفوذ الاستكباري، ومن غير الوارد ان تصبح حقوق الإنسان والأمم امراً ذا أهمية بالنسبة اليه بمعزل عن حساباته. وقد اعتاد ان يحترم فقط ذوي الإرادات الصلبة والأصوات العالية والأفهام الواعية الذين لا بد ان يصلوا الى اهدافهم بعد مشاق. "إن بعد العسر يسرا. إن بعد العسر يسرا ".