إحياء المبعث، وقبل أن يكون مجرد تكريم لذكرى عزيزة على النفوس، فهو استعادة للدروس الكبرى التي انطوت عليها بعثة الرسول الأكرم (ص) والتي تحتاجها اليوم البشرية كلها
حفيقية المبعث النبويُّ ورسالته في فكر الإمام الخامنئي:
خطبة ألقيت في تاريخ 06/02/2008 :
حقيقة المبعث ورسالته :
إحياء المبعث، وقبل أن يكون مجرد تكريم لذكرى عزيزة على النفوس، فهو استعادة للدروس الكبرى التي انطوت عليها بعثة الرسول الأكرم (ص) والتي تحتاجها اليوم البشرية كلها لا سيما مجتمع المسلمين. تعاني الإنسانية راهناً من هيمنة القوى الطاغوتية، ومن الظلم، والتمييز، والفساد، وتسلط أهواء جماعات خاصة على حياة الناس. إبتليت الإنسانية اليوم بأهواء أناس سيطرت عليهم نزواتهم ونزعاتهم ولم يشموا ريح المعنوية إطلاقاً. الإنسانية اليوم أحوج لرسالة البعثة من أي وقت مضى. بعثة النبي الأكرم كانت دعوة للتوحيد قبل كل شيء. ليس التوحيد مجرد نظرية فلسفية أو فكرية، إنما هي منهج حياة للبشرية..
إنه تسويد لله على حياة الإنسان وتقصير أيدي القوى المختلفة عنها. »لا إله إلا الله« الرسالة الأصلية لرسولنا وجميع الرسل الآخرين، ومعناها: يجب عدم تدخل القوى الطاغوتية والشيطانية في حياة الإنسان ومسيرته واختيار أساليب حياته لكيلا تتقاذف الحياةَ الإنسانية بأهوائها وميولها ونـزعاتها. إذا تحقق التوحيد في حياة المجتمع الإسلامي والإنساني بمعناه الحقيقي الذي أراده الإسلام وحمل جميع الأنبياء رسالته، فسيبلغ الإنسان السعادة الحقيقية والفلاح الدنيوي والأخروي، وستزدهر دنيا الإنسان بدورها، وستصب لصالح التكامل والرقي الإنساني الحقيقي. الدنيا في النظرة الإسلامية مقدمة ومعبر للآخرة. الإسلام لا يرفض الدنيا، ولا يعد المتع واللذائذ الدنيوية شيئاً كريهاً سلبياً، ويريد للإنسان أن يظهر نشيطاً فاعلاً في مسرح الحياة بكل مواهبه وغرائزه. لكن هذا كله يجب أن ينصب في خدمة رفعة الروح والبهجة المعنوية الإنسانية لتكون الحياة عذبة حلوة حتى في هذه الدنيا.
ليس في مثل هذه الدنيا ظلم وجهل ونـزعة عدوانية، وهذه مهمة صعبة تحتاج إلى جهاد، وقد بدأ الرسول الأكرم هذا الجهاد منذ اليوم الأول. ما دعا إليه الرسول هو ما تحتاجه الإنسانية في كل أطوار حياتها عبر التاريخ. دعا الرسول إلى العلم، وأولى آيات القرآن الكريم كانت في مدح العلم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾. أشار إلى التعليم بدايةً. العلم أداة نجاة الإنسان وفلاحه، وهي أداة لا ترتبط بزمان ومكان معينين، إنما تنتشر لتشمل كافة عصور الحياة الإنسانية.
ودعا الرسول البشر إلى التحرك والثورة. قال الله تعالى في الآيات الأولى التي نـزلت على الرسول: {قم فأنذر}.. إنها الدعوة للقيام، والتحرك، وترك السكون والجمود، والشعور بالمسؤولية ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ...﴾ القيام لله مُجد في كافة ظروف الحياة الإنسانية، فمن دون القيام والحركة لا يتسنى بلوغ أيٍّ من الأهداف العليا.
ودعا الرسول الأكرم البشرية إلى تزكية النفس وتربيتها ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...﴾ التزكية شرط أول، فمن دون التزكية يتحول حتى العلم إلى أداة للفساد والانحطاط والضلال والسقوط البشري. وكما تلاحظون اليوم فقد تحول العلم في الدنيا إلى وسيلة لسقوط الإنسان، حيث استخدم في أسر الشعوب وقلب الحقائق وتجويع البشر. كم من البشر في أنحاء العالم يحرمون من مصادرهم الحياتية ويعيشون ظروف الفقر والمسكنة والفاقة والبؤس بسبب هيمنة المستعمرين الذين صالوا وسيطروا عليهم بأدوات العلم. وكذا الحال اليوم أيضاً، فالاستكبار العالمي - الاستعمار الحديث في العالم - يستخدم أدوات العلم ليتعس الناس ويأسرهم ويقتّلهم ويقضي عليهم. هذه نتائج العلم العاري من التزكية. الإسلام يدعو الناس للأخوة، والمساواة، وعدم التمييز بينهم، وعدم اتخاذ العنصر سبباً لتمييزهم عن بعض، وعدم تفضيل شعب على آخر تفضيلاً طبيعياً ذاتياً. الإسلام يدعو لتكريم التقاة. فملاك الأفضلية هو التقوى. والتقوى معناها مراقبة سلوك الذات، والنظر إلى موطئ الأقدام، والتخطيط للحياة في ضوء الحدود والتعاليم الإلهية.
هذه قضية لا تختص بزمن معين، والبشرية اليوم بحاجة لهذه الأمور. كلما تقدمت علوم الإنسان وحضارته، تبقى تلك الأمور هي التي تبعث على سعادته. على الأمة الإسلامية الاهتمام بهذه الأمور وطلبها والسعي إليها. وهذا ما يستدعي إرادة وعزماً راسخاً في الشعوب المسلمة ورؤساء البلاد ومسؤوليها ممن يمسكون بأيديهم زمام الأمور. جاء في دعاء اليوم »وقد علمت أنّ أفضل زاد الرّاحل إليك عزم إرادة يختارك بها«. هذا الطريق صعب طبعاً، لكنه يسهل بالعزيمة الإنسانية الراسخة. هذه هي الدروس التي يعلمناها الإسلام. إينما جربناها في حياتنا وجدناها عمليةً مجديةً، أي إن التجارب تعاضدها. في صدر الإسلام، تهيأ لجماعة قليلة العدد بعيدة عن التحضر والعلوم ومحرومة من كل خيرات الحياة أن تُطلق بفضل هذه الأصول وبالتمسك بهذه العرى الوثقى أعظم حضارة في العالم طوال عدة قرون.. حضارة انتهلت الإنسانية كلها من تحضّرها وعلومها وتقدمها. هذه هي تجربتنا القديمة. ونحن في الجمهورية الإسلامية اليوم أيضاً حيثما توكأنا على الإرادة وعلى الله وأينما استخدمنا طاقاتنا واستبعدنا أهواءنا ونزعاتنا، وعددنا الأهداف كبيرةً مهمةً كانت خطواتنا موفقةً ناجحة.
واضح أن صناعة المجتمع وصناعة الحضارة _ وهي من أكبر أهداف الإسلام _ غير متاحة من دون إثارة الأعداء. ففي صدر الإسلام أثار تشكيل النظام والمجتمع الإسلامي عداء البعض، وكذا الحال اليوم. الشعوب المسلمة اليوم تشعر في أنفسها بروح العزة الإسلامية، لكونها مسلمة. الصحوة الإسلامية ظاهرة حقيقية برزت إلى السطح شاء أعداء الأمة الإسلامية ذلك أم أبوا. وطي هذا الطريق يستدعي العزم الراسخ لدى مسؤولي البلدان... علينا أن نراقب أنفسنا ولا تنـزلق أقدامنا. لابد أن نحذر من أن تخدعنا بهارج الدنيا أو تؤثر فينا خدع الأعداء وحربهم النفسية. علينا تمتين وحدتنا باستمرار وتحاشي القضايا الفرعية الصغيرة. القضية الرئيسية اليوم هي صيانة هوية الجمهورية الإسلامية والهوية الإسلامية لهذا البلد. هذا ما ترنو إليه أعين العالم الإسلامي والأمة الإسلامية بقلق. لقد استطعتم عرض نموذج معين في العالم، ويحاول الأعداء نسف هذا النموذج. ولن تكون الهزيمة هنا هزيمة إيران فقط بل هزيمة العالم الإسلامي كله.