"بعونه تعالى.. تم إفتتاح محل كهرباء سيارات".. هذا ما حملته لافتة رُفعت على طريق رئيسي في بلدة جباع، البلدة الجنوبية التي احتضنت عشرات العائلات السورية النازحة جراء الأحداث الأخيرة في سورية
إسراء الفاس - مروة حيدر
"بعونه تعالى.. تم إفتتاح محل كهرباء سيارات".. هذا ما حملته لافتة رُفعت على طريق رئيسي في بلدة جباع، البلدة الجنوبية التي احتضنت عشرات العائلات السورية النازحة جراء الأحداث الأخيرة في سورية.
"أبو هشام" واحد من مئات النازحين الذين قدموا إلى الجنوب هربا من العنف القائم في سورية. عمل في مجال كهرباء السيارات، وبمساعدة أهالي جباع، وظّف خبرته في البلدة الجنوبية التي تفتقر إلى هذه المهنة.
لم يكن غريباً أن يستقبل أهل الجنوب عائلات سورية، وهم الذين ذاقوا معاناة النزوح في السابق. وبما أن نازحي الجنوب لم يحظوا بالاهتمام الاعلامي كغيرهم ممن توزعوا على باقي المناطق اللبنانية، قصد فريق موقع قناة المنار عدداً من القرى والبلدات الجنوبية ليقف عند أحوال النازحين السوريين فيها.
صيدا: المنهج السوري مُعتمد في المدارس
الجولة بدأت من صيدا. موعدنا كان مع "محمد"، وهو أحد شبان رابطة الطلاب المسلمين التابعة للجماعة الإسلامية، التي إضافة إلى غيرها من التنظيمات الإسلامية في المدينة، أولت اهتماماً كبيراً بمساعدة النازحين السوريين، تحت مظلة ما سُمي بـ "اتحاد إغاثة اللاجئين السوريين".
ما ميّز صيدا –بحسب "محمد"– هو الخدمات التعليمية التي أُمنت للطلاب السوريين وفقاً للمنهج المعتمد في المدارس السورية. كما أُعفي التلاميذ السوريون من رسوم التسجيل، وتم تأمين لوازم أخرى من زي مدرسي وقرطاسية ووجبات الفطور في المدارس.
وبالإضافة إلى التعليم يقول "محمد" إن الإتحاد يتكفل بتأمين الخدمات الطبية عبر مستشفى صيدا الحكومي. أما عن المساعدات العينية المكوّنة من حصص غذائية وغيرها، فتتلقى العائلات رسائل نصية عبر الهاتف المحمول تفيد عن توزيع قسائم مساعدات جديدة.
إصطحبنا الشاب العشريني إلى بيت في إحدى حارات صيدا النائية، تقطن فيه أربع عائلات نزحت من منطقة تل منين في ريف دمشق، منذ قرابة الخمسة أشهر، بينهم عشر أطفال تحت سن الخامسة.
المنزل المؤلف من ثلاث غرف واسعة ومطبخ صغير مجهز بالمستلزمات الضرورية. ويعاني من عدة مشاكل أبرزها التشققات الواضحة في الجدران، وتسرب المياه.
"محمد" (14 عاماً) هو إبن إحدى العائلات في المنزل، طالب شريعة، وكان يأمل أن يتخرج من الأزهر. يعاني من وضع صحي صعب (فتحة في القلب)، ومع ذلك فهو يعاون رب أسرته في تأمين دخل العائلة الذي يصرف في تأمين بعض الاحتياجات.. يعمل "محمد" في قطاف الزيتون يومياً من السابعة صباحاً وحتى الرابعة عصراً بدخل يومي لا يتجاوز الخمسة عشر ألف ليرة تصرف كلها لتلبية حوائج المنزل الضرورية.
الوجهة بعدها كانت إلى منطقة عبرا – إحدى الضواحي الراقية في مدينة صيدا- حيث يسكن أبو شادي وعائلته المؤلفة من أربعة أولاد، بينهم طفل معوق، في منزل بإحدى المجمعات السكنية حديثة البناء.
يشدد تاجر الألبسة الذي ترك عمله في منطقة التل بدمشق أنه علينا أن لا "ننغرّ" بوضع المبنى الجيد موضحا أن البيت قدمه أحد "فاعلي الخير" للعائلة.
يجزم أبو شادي أنه لدى وصوله إلى صيدا، لم يتلقَ أي مساعدة من أي جهة، بل باع ذهب زوجته ليغطي مصاريف العائلة وكلفة إيجار منزل في مجدليون بلغت ثلاثمئة دولار شهرياً. بعد ذلك استأجر سيارة عمومية مقابل بدل يومي، وبدأت ابنته العمل في أحد أهم أفران المدينة سعياً لتأمين نفقات العائلة. وفي وقت لاحق قدم أحد الصيداويين، "أبو يوسف" منزل إبنه المغترب والمجهز بشكل كامل كي تسكن فيه العائلة ريثما يعود الإبن.
وحالياً تتلقى العائلة مساعدات من قبل اتحاد إغاثة اللاجئين السوريين.
جباع: مساعدات وفرص عمل
بعد صيدا كانت وجهتنا إلى مركز بلدية جباع، (قضاء النبطية)، حيث انتظرنا عباس دهيني، المكلف من قبل البلدية تأمين المساعدات للنازحين السوريين في القرية، بعد أن وفدت إلى البلدة عشرات العائلات السورية مخلفة أرزاقها في سورية طلباً للأمن المفقود هناك.
يوضح "الحاج عباس" – كما يُطلق عليه النازحون- كيف سعت بلدية جباع بالتعاون مع مكتب العمل الاجتماعي التابع لحزب الله في المنطقة لتأمين منازل بكامل أثاثها، ومعونات للعائلات إضافة إلى التعليم والطبابة المجانيين.
إصطحبنا برفقته إلى منزلين في طرف القرية، متوسطي الحال، قائلا: "لقد كان هذان البيتان بيتا واحد، لكن عندما قدمت العوائل السورية إلى الضيعة قمنا بتقسيمه على هذا الشكل."
تسكن في البيت الأول عائلتان من "آل فياض" نزحتا من منطقة باب توما في دمشق، بعدما تم استهداف عدة منازل مجاورة، حسبما روت "أم أحمد".
تقول الإمرأة الأربعينية إنهم قصدوا أول ما قصدوا بلدة جباع، منذ قرابة الشهرين: "المعاملة التي لقيناها لم نكن نتوقعها أبداً".. وتتابع حديثها راوية كيف أمنت لهم بلدية القرية المنزل بكامل تجهيزاته، مسهبة في الحديث عن المساعدات التي تُقدَّم إن لناحية الاستشفاء، أوالتعليم الذي تم توفيره لولديها مع كامل المستلزمات المدرسية من كتب وقرطاسية وزي مدرسي ونقل مجاني. ولا تنسى "أم أحمد" التعاطف الذي لقيته العائلة من الجيران الذين ساهموا في تأمين فرصة عمل لولدها الأكبر "أحمد" في أحد أفران البلدة.
المنزل المجاور تسكن فيه عائلة قدمت من منطقة زين العابدين. استقبلنا رب العائلة (م.ب) على كرسي نقال بات يلازمه بعد إصابته برصاص مسلحين. رغم مدح المصاب بحفاوة استقبال أهل البلدة ومساعدات البلدية، تلوح على وجهه ملامح المرارة من الجو المذهبي المشحون في بلاده، وقد عبر عنه أكثر من مرة قائلاً: "سورية ما عادت كالسابق، كان السني يصاهر العلوي، والشيعي يتزوج المسيحية... واليوم طغت ثقافة الحقد في بلادنا".
يتلقى الجريح السوري عناية طبية كاملة، كما يخضع لعلاج فيزيائي بشكل دوري.
عند خروجنا من منزل الجريح اعتقدنا أن الجولة في بلدة جباع انتهت، ليتبين لنا أن في جعبة "الحاج عباس" المزيد من القصص، قائلاً: "بس خمس دقائق.. هنا عائلة".. "دقيقتين.. هناك عائلة أخرى موعودة بزيارة المنار".
ذهبنا معه إلى منزل في حي هادئ بعيداً عن ساحة البلدة، تقطن فيه أربع عائلات قدمت من حلب، من بينها عائلة "أم عمر"، الأرملة والأم لأربعة أيتام.. قال "الحاج عباس" إن المكتب الاجتماعي تكفل بنفقات واحتياجات هذه العائلة بشكل كامل، وتم تجهيز منزل مستقل كانوا يتحضرون للانتقال إليه.
"أم فاروق" هي الأخرى أم لثلاثة أولاد، وهي ربة لأسرة شاركت العائلات الثلاث في المنزل المذكور. يعمل زوجها، مروان، كعامل بناء في القرية. تقول "أم فاروق" إن ما تتلقاه العائلة من مساعدات يقتصر على الحصص الغذائية والتحاويل الطبية التي تغطي نفقات الطبابة بشكل كامل، إضافة إلى التعليم، فيما تتقاسم العائلات الثلاث دفع إيجار المنزل من خلال عمل مروان وأرباب الأسر الأخرى.
تجولنا بعد ذلك مع "الحاج عباس" في حارة أطلقنا عليها اسم "حارة النازحين"، بيوتها متلاصقة تعج بالنازحين. من بينهم كانت "أم يامن" التي قصدت جباع لِما سمعت من أقارب لها عن حسن المعاملة والضيافة.. تمدح القيمين على ملف المساعدات وتدعو بطول العمر لـ "الحاج عباس"، كما تحمّل فريق "موقع المنار" رسالة تقول: "إنها قصدت الجنوب لأن لا ثقة لها إلا بأهل الجنوب، الذين جربوا المعاناة يوماً ويدركون ألمها جيداً".
أنهينا الجولة وكان الفضول يجرّنا لمعرفة ما هي المفاجأة التي وعدنا بها "الحاج عباس" الذي أخذنا إلى شارع رئيسي يصل جباع بقرى أخرى. فاستقبلتنا لافتة كبيرة كُتب عليها: "بعونه تعالى.. تم إفتتاح محل كهرباء سيارات". كان المحل لأبو هشام، النازح السوري الذي تكفل أهل جباع بتأمين إيجار وتجهيز المحل ريثما يتمكن من "الوقوف على رجليه" وتأمين متطلبات عائلته.
يقول "أبو هشام" إن الفكرة اقترحها "الحاج عباس" بعدما علم أن مهنته تفتقدها البلدة. يأمل "الحاج عباس" أن ينجح هذا المشروع، كاشفاً أن هناك نية لفتح محل خياطة لنازح آخر.
الطيبة: مساعدات موجودة.. ولكن!
المحطة الثالثة في جولة الجنوب كانت في بلدة الطيبة، قضاء مرجعيون. لكن نعيم جباع لم يكن هو نفسه في الطيبة، حيث المساعدات موجودة... ولكن!
دخلنا الطيبة، نسأل عن نازحين سوريين وفدوا إلى البلدة. رافقنا أحد سكان البلدة يدلنا على بيوت لجأ إليها سوريون، منهم من سكنها بالمجان ومنهم من يدفع إيجاراً بالمقابل. المنزل الأول كان لوحيد الحريري، الرجل الستيني الذي يعمل هناك منذ أربع سنوات، وبعد أحداث درعا الأخيرة قدمت عائلته إلى البلدة. يقول الرجل إنه لم يتلق مساعدات من أحد، كما ان أحداً لم يطرق بابه.
يعمل الحريري في الباطون، وتساعده زوجته عندما يُتاح لها فرصة لذلك، فتعمل تارة في خدمة المنازل أو حتى في مساعدة المزارعين في قطاف الزيتون. يسكنون حالياً في منزل مستأجر مقابل 300$ شهرياً، ويعانون من نقص في التجهيزات الأساسية.
تقول الزوجة إنها لجأت إلى أحد النافذين في القرية ودونت اسمها منذ أكثر من شهرين، ولم تتلق أي مساعدة.
وفي جوار بيت الحريري، عائلة سورية أخرى سكنت في منزل يعود لأحد سكان البلدة وهو عبد الله صولي، الذي يقول إنه قصد في حرب تموز سورية، ولم ينس استقبال شعبها له، وآن أوان رد الجميل.
يتقاسم الرجل الخمسيني والعائلة المؤلفة من أب وأم وطفلين الطعام، والكهرباء، كما أنه جهز لهم غرفتين منفصلتين عن منزله الذي يقطن فيه، ويعتب على القيمين على المساعدات في البلدة، لتقصيرهم حسبما يقول.
عتاب الحريري وصولي حملناه إلى أحد المعنيين بالملف، الذي إصطحبنا إلى منزل في البلدة نفسها سكنته عائلتان.. وبناءً على طلبه تجولنا في الدار، لنجد أن العائلة لم تكن على غرار سابقيها، حيث أنها لقيت احتضاناً والمساعدات، بحسب قولهم.
ويوضح الشاب المعني أن البلدية في الطيبة عاجزة عن تأمين مساعدات لكل الوافدين، آخذاً على الحكومة غيابها وتقصيرها، وعدم إهتمامها بنازحي الجنوب إسوة بغيرهم. يقول الشاب إن المساعدات جرى تأمينها من قبل البلدية، وهي مساعدات محدودة، إلا أن الأعداد الوافدة تتطلب إمكانيات أكبر من تلك المتوفرة.
بنت جبيل: نموذج للاحتضان والتضامن الشعبي
تركنا بلدة الطيبة قاصدين مدينة بنت جبيل، التي تبعد بضعة كيلومترات عن فلسطين المحتلة. ومع أننا استبعدنا أن يلجأ عدد كبير من العائلات السورية للمدينة الحدودية لبُعدها عن العاصمة، إلا أن الأرقام فاجأتنا كما غيرنا.
في بنت جبيل، لم تشكل الأرقام وحدها مفاجأة، بل التضامن الأهلي والجماعي لسكان المدينة مع النازحين، إذ تتشارك جهات عدة في تأمين جميع أشكال المساعدات للعائلات السورية. يطلعنا المعني بالملف في المدينة (أ.ب.) على البيانات والاستمارات التي ملأت بشكل منظم ودقيق، والتي تظهر الجهات الممولة للمساعدات والآلية المعتمدة لصرفها. يساهم كل من في بنت جبيل من تنظيمات وجمعيات وأفراد في تقديم المساعدات ويدوّن (أ.ب.) في سجل الممولين: البلدية- مكتب العمل الاجتماعي التابع لحزب الله- مكتب الخدمات الاجتماعية التابع لمؤسسة السيد محمد حسين فضل الله- جمعية التعاون الخيري- نقابة أصحاب المؤسسات التجارية في بنت جبيل- لجنة الوقف الشيعي - إضافة إلى مساعدات فردية.
"لا يوجد اسم اي نازح سوري لجأ إلى بنت جبيل في وزارة الشؤون الاجتماعية، فعاليات البلدة هي من تكفلت بكل المساعدات" يقول الرجل الستيني، والذي يعتبر أحد وجهاء المدينة.
ويشرح أن أولى اجتماعات فعاليات المدينة كان في أيار/ مايو الماضي تدارس فيها المجتمعون سبل توفير مساكن وتجهيزها تحسباً لتوافد نازحين. ويضيف أنه تم شراء قطعة أرض بثمن 70.000$ ليتم بناء مساكن خاصة تتسع لأعداد ضخمة، إلا أن وزارة الداخلية يومها منعت استصدار رخص بناء.
الحصص الغذائية توزع على العائلات النازحة بشكل أسبوعي، وفي شهر رمضان كان هناك وجبة إفطار يومية لهذه العائلات، تحت عنوان "مائدة الامام زين العابدين" التي يشرف عليها مكتب العمل الاجتماعي. ومن بين المساعدات تأمين مستلزمات المسكن وتجهيزه بالكامل.
يقرّ "أ.ب." بأن النازحين يعانون من مشكلة شح في المياه، لكنه يوضح أنها مشكلة يعاني منها أهالي بنت جبيل في الأساس..
وكغيرها من القرى والبلدات الجنوبية تؤمن بنت جبيل الطبابة والتعليم المجانيين لمختلف العائلات النازحة.
"أبو خالد" هو أحد أرباب الأسر التي وفدت إلى بنت جبيل في حزيران/ يونيو الماضي، يسكن هو وسبع أسر في مجمع سكني حديث خصص مبنى منه للنازحين.
جلنا في شقة أبو خالد المؤلفة من أربع غرف ومطبخ، واطلعنا على ما قُدم للعائلة من تجهيزات وأثاث. يشرح "أبو خالد" أن الغربة بقسوتها تبقى أهون من مشاهد القتل والدمار التي شاهدها في سورية، وبحرقة يتحدث عن اوضاع بلاده واصفاً اياها بالصعبة.. مستبعداً العودة في الوقت القريب.
محطتنا التالية في بنت جبيل، كانت في مضافة عشيرة "أبو مجيل" التي قدمت من داعل في درعا قبل ثلاثة أشهر. أقامت 21 عائلة من العشيرة نفسها في مجمع سكني حديث في أطراف المدينة. استقبلنا شيخ العشيرة "أبو فيصل" في ديوانية أعدها أهالي البلدة إكراما للعشيرة التي استقبلت عدداً كبيراً من أهالي بنت جبيل خلال حرب تموز عام 2006.
"نحن قصدنا بنت جبيل كي لا نشعر بالغربة"، يقول أبو فيصل. "استقبلونا استقبال.... بيجوز.... أكثر من أولادهم!".. ويشدد على أن اللبنانيين "اخوتنا وأحباؤنا.. والله هم أهلنا".
يمازحنا الرجل السبعيني ويسهب في الحديث عن كرم أهالي المدينة، متوقفاً عند طبق تشتهر فيها بنت جبيل، هو "الكبة النية". "رغم أن لا شيء يعوض عن الوطن" يقول أبو فيصل إن لبنت جبيل رمزية كبيرة في قلوبهم وعقولهم. ويتابع ممازحاً فلا يخفي جد الأحفاد الخمسين رغبته في زواج رابع، رغم أن بعض أحفاده يكبرون ابنه الأصغر هادي، ذي الأعوام السبع.
تصـويـر: وهب زيـن الديـن