كانت تقول لإسرائيل إن السياج الحدودي القائم على حدود القطاع، قادر على منع جسد الفلسطيني من المرور لكنه يعجز عن منع روحه. والصاروخ صار روحاً تصل به إلى «الضفة» الأخرى
لا يمكن لمن في مثل سني أن لا يفخر ليس فقط بإطلاق الصواريخ من غزة، وإنما أيضا بإنتاجها في غزة. وبالرغم من اني لست ممن يؤمنون أن صواريخ غزة هي التي ستحرر فلسطين، إلا أنني أؤمن أن هذه الصواريخ بين المعالم المركزية على طريق هذا التحرير. فغزة كما وصفها شاعرنا الأبدي الراحل، محمود درويش: « لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها، إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها. وغزة لا تتقن الخطابة... ليس لغزة حنجرة... مسام جلدها هي التي تتكلم عرقاً ودماً وحرائق». صواريخ غزة كانت ولا تزال كلمة «لا» التي يطلقها الفلسطيني ضد كل محاولات استلاب حقه ومصادرة مستقبله.
حلمي موسى كتب في جريدة السفير:
ولذلك، فإن صواريخ غزة، لم تكن أبدا «عبثية» خصوصاً لمن كانت الصواريخ في طفولته عنوان القوة وبوابة التحرير. تعود بي الذاكرة إلى خبر، ربما لم يبق منه سوى أطلال ضبابية، نشرته صحيفة «أخبار فلسطين» الصادرة في غزة قبل حوالى 50 عاماً. تحدث الخبر المدوي عن شاب فلسطيني من مخيم البريج، على الأغلب، «اخترع» صاروخاً. بعدها شاعت أنباء متضاربة عن تبني مصر لهذا الشاب في مشروعها لإنتاج صواريخ «الظافر» و«القاهر»، واعتقاله لتجرؤه على القفز عن الواقع.
مرّ نصف قرن تقريباً على تبدد الغموض وتحول الصاروخ في غزة إلى حقيقة قائمة. فالصواريخ التي كانت تنطلق من غزة نحو سديروت وكيرم شالوم وياد مردخاي، الواقعة على بعد كيلومترات قليلة بمحاذاة القطاع كانت مجرد رسالة. كانت تقول لإسرائيل إن السياج الحدودي القائم على حدود القطاع، قادر على منع جسد الفلسطيني من المرور لكنه يعجز عن منع روحه. والصاروخ صار روحاً تصل به إلى «الضفة» الأخرى. وبعد ذلك صار الهدف ليس أن تصل الروح إلى الضفة الأخرى وإنما أن تصل إلى أبعد مكان في عمقها. ذهبت الروح بعدها إلى المجدل والمسمية واسدود وبيت دراس والجية ويبنا. وظل الأمل أن تصل الروح إلى يافا حتى لو أسموا أرضها وجوارها تل أبيب، وربما بسبب ذلك.
وغزة تعتز بصواريخها، خصوصاً تلك التي تنقل روحها إلى البعيد وصولاً إلى القدس. وهي تأمل أن تصل روح الفلسطينيين والعرب من كل مكان وحيث هم إلى أرض يحبونها. والمسألة لم تعد حلماً وهي بالتأكيد ليست وهماً، صارت حقيقة.
كتب المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت» أليكس فيشمان أن «يوم الجمعة أطلق على تل أبيب صاروخان ثمانية إنش، واحد برأس قطره 20 سنتمتراً ينتج في غزة أساساً لمصلحة حركة الجهاد الإسلامي، وصاروخ آخر من طراز فجر 5 أطلقته حماس، كما أن صاروخا آخر من انتاج محلي تخطى حاجز مدى الـ80 كيلومتراً، وهو مدى أقصى لم يصله صاروخ حتى اليوم من غزة، وسقط في غوش عتسيون». هكذا إذن تعترف إسرائيل بصاروخ «ثمانية إنش» من صنع الجهاد الإسلامي وصاروخ آخر من صنع حركة حماس وهو الذي أسمته الحركة «مقاومة 75» (إم 75).
ومن المؤكد أن هذه الصناعة استندت إلى خبرات إيرانية وسورية ومن «حزب الله» أيضاً، وأنجزت في ظروف بالغة الصعوبة. ولكن المؤكد أكثر أن المصاعب هذه وأكثر منها لم تحل دون «تطوير» هذه الصناعة التي حملت إلى تل أبيب وإلى القدس للمرة الأولى إشارة «صنع في غزة».
ويمكن للمرء أن يزداد فخره بهذه الصواريخ، إنتاجاً وإطلاقاً، إذا أخذ في الحسبان واقع أن القطاع مكشوف تماماً للاستخبارات الإسرائيلية. ولذلك فإنها ليست مجرد حدث تقني، وإنما هي أيضاً حدث استخباري من الطراز الرفيع. ويزداد هذا الفخر عندما تدعي إسرائيل انها قضت في الضربة الأولى على مخزون وراجمات الصواريخ بعيدة المدى خصوصاً تلك التي عرفت بـ«فجر 5» إيرانية الصنع.
لقد أنتجت غزة بفخر صناعة محلية لصواريخ مختلفة المدى والقدرات حملت أسماء مختلفة تبعاً للفصائل والتوجهات من «القسام» إلى «القدس» إلى «الأقصى» و«صمود» وسواها. لكن أبرز هذا الانتاج كان من دون ريب صواريخ أقرب في تقنيتها إلى صواريخ «غراد» بمدى 40 كيلومتراً، وإلى صواريخ «فجر» بمدى يصل إلى 80 كيلومتراً. وباتت الصواريخ هذه لا تحمل الروح فقط وإنما توفر قدرة ردع لم تكن تتوفر للفلسطينيين سابقاً.
في إسرائيل يتحدثون عن «معجزة تكنولوجية» في أداء «القبة الحديدية». في غزة معجزة تكنولوجية من نوع آخر اسمها صاروخ «صنع في غزة».