لا ينقص صوم زعماء الموارنة وصلاتهم في بكركي اليوم إلا الاعتراف بحاجتهم إلى مرجعية دينية
غسان سعود
لا ينقص صوم زعماء الموارنة وصلاتهم في بكركي اليوم إلا الاعتراف بحاجتهم إلى مرجعية دينية يلتقون حول صولجانها عندما يختلفون أو عندما يقررون العمل لمصلحة طائفتهم، كما تفعل القوى السياسية في الطوائف الأخرى. وهذا ما يفترض أن يفعلوه، في ظل رغبة البطريرك الجديد في مراكمة إنجاز أرضية مشتركة فوق إنجاز اللقاء من دون شروط..
أمين الجميّل، ميشال عون، سمير جعجع، سليمان فرنجية...
يسرق الأخيران الأضواء من الأوّلين: مِشية جعجع، صدى خطواته في أذني فرنجية. عينا ابن طوني فرنجية، عرق أصابعه، تورّد خدّيه، أنفه وجبينه، تُرى بماذا ستذكّر جعجع؟ ثم، ابتسامة جعجع المتشنّجة، ثقته بنفسه وبتضحيات القضية. فيرا، الطفلة الشقيقة، الذبيحة الثابتة في بؤبؤي فرنجية. انكسار ظهر جدّه، صعوبة الغفران. يسلّم اليوم في بكركي أحدهما على الآخر أو لا؟ ليس السلام هنا تفصيلاً. يد الميليشياوي التي قادت المهاجمين ويد الطفل سليمان الذي خبّأ بها عينيه الدامعتين عن عدسات التصوير مهّدتا لحروب من تهجير الشمال المسيحي للشمال المسيحي إلى تهجير «المجلس الحربي» لـ«المجلس الحربي». ها هي حرب لم تنته وسلمٌ لم يبدأ... بعد.
يحضر الرجلان في محطة حاسمة، قد تكون مجرد التزام بـ«اعرف عدوّك»، كما قد تتحول إلى «عهد جديد». زعامتان شماليتان تتطلعان إلى جبل لبنان ما بعد زعيمي الجبل، الجميّل وعون، اللذين يرفضان تسهيل عبور هذين الوارثَين المرفوضَين إلى جبل لبنان.
أمين الجميّل، إذاً، وميشال عون، فضلاً عن «الوارثين»، يلتقون قبل ظهر اليوم في صالون بكركي بدعوة من البطريرك الراعي.
تاريخ الموارنة في صالون. عند طائفة الروم الأرثوذكس يسمّى هذا اليوم «الثلاثاء العظيم» كواحد من أيام أسبوع الآلام. يختصر الأربعة حروب الموارنة. قاتلهم جعجع واحداً واحداً، فشل عون في إلغائهم، يفتقر أمين الجميّل إلى ثقتهم ويتذكّر فرنجية تجارب جده وأبيه معهم.
يدخل عون إلى الصالون مطمئناً إلى أن قامة ناشط من تياره فاقت انتخابياً قامة أعرق الحاضرين في السياسة. يدخل الجميّل معترفاً بشرعية الزعامة لثلاثة حاول بشتى الطرق قطع طريقهم إلى الزعامة. يدخل جعجع طالباً الخلاص من اتهامه المستمر بارتكاب إحدى الجرائم السياسية الأشنع في تاريخ الموارنة. ويدخل فرنجية حاجزاً لنفسه مكانة عجز العنف والالتصاق بالنظام السوري وحروب الإلغاء الانتخابية عن حرمانه إياها. يحضر غياب رئيس الجمهورية عن لقاء «جبابرة الموارنة»، ويحضر حضور البطريرك الجديد بشارة الراعي.
للسنّة قضية الحريري، وللشيعة قضايا، وللدروز... أما المسيحيون، كلّ المسيحيين لا الموارنة وحدهم، فلا تكاد تكون لهم قضية إلا اختلافات زعمائهم في ما بينهم، بدءاً بالأسباب الشخصية والسلطوية، وانتهاءً بالاستراتيجيا الدفاعية وسلاح حزب الله، مروراً بالعلاقة مع سوريا، والسعودية، وأميركا، والقانون الانتخابي، والمحكمة الدولية...
مهمة الراعي عويصة. فحتى لو وقّع الحاضرون على بيان مشترك، فسيبقى المحك هو التطبيق، وستبقى علامة الاستفهام مرتسمة فوق أي ثوابت تجمع الأربعة؟ مثلاً: لا يعبأ جعجع بـ«مكانة الجيش المارونية» حين يندفع خلف دعم قوى الأمن الداخلي على حساب الجيش. ويضع كل هواجسه الشخصية السابقة بشأن تملّك الأجانب جانباً ليطارد أرضاً تباع من مستثمر شيعي هنا وأخرى هناك، فيما يفقده التحالف مع تيار المستقبل كل حسّ يتعلق بالحضور المسيحي في مؤسسات الدولة وبالحدّ من الفساد الذي قضى على الطبقة المتوسطة. أما الجميّل فتجاربه خلعت عنه رداء الالتزام بالثوابت، مهما تكن، بينما يصالح فرنجية تاريخه ضمن مجموعة ثوابت، بعيدة كل البعد عن ثوابت جعجع منذ كان للرجل ثوابت. أما عون فيبقى ثابتاً حيث الثوابت أدوات في خدمة هدف بات منذ عودته إلى لبنان واضحاً: «مصلحة المسيحيين»، كما يراها هو. وبالتالي لا ثابتة يتّفق عليها جبابرة الموارنة إلا إلغاء الطائفية السياسية؛ لا لشيء إلا لأن إلغاءها يلغيهم.
لكن، رغم ما سبق، يبدو الراعي مندفعاً بحماسة لتحقيق اختراق يكاد يكون المهمة الأساسية التي انتدبه الفاتيكان، بمباركة مجلس المطارنة (أو العكس)، لتحقيقها. فيستفيد من التلاقي المسيحي ـــــ المسيحي تحت عباءته ليذهب مرتدياً هذه العباءة إلى بناء علاقات نديّة جديدة مع الطوائف الأخرى، ومن انفتاح هؤلاء عليه كما ظهر الأسبوع الماضي في الفاتيكان. من هنا، يمكن توقع مشهد الزعماء الأربعة أمام ولادة مرجعية مسيحية جديدة اسمها بشارة الراعي. يذهب أبعد ممّا كان يحلم به ميشال عون قبل أربع سنوات حين طرح تفاهم جميع اللبنانيين مع تفاهمه وحزب الله. يخرج من الشرنقة التي أجلس جعجع البطريرك السابق فيها. يتجاوز في تفكيره حدود جميّلستان أو بكفيا والقرى التي تسميها عائلة الرئيس الجميّل المزارع. ويُعلم فرنجية أن زمن ترداد الزغرتاويين «إنت البطرك يا سليمان» قد ولّى.
حامل الصولجان قرأ تاريخ كنيسته جيداً، يصل في تقديره لموقع البطريرك إلى حدّ التلويح بالحرم الكنسي في القرن الواحد والعشرين لمن يفكّر (مجرد التفكير) في انتقاده، ويعلم أن لديه اليوم من الصدقية والحضور والوهج والتأييد ما يسمح له بتحقيق المشروع الفاتيكاني لإعادة المسيحيين إلى الخريطة في العالم العربي. وبالتالي، لن يسمح الراعي بخروج الأربعة كما دخلوا. ولا مجال لمناورات من هنا أو هناك كتلك التي هربت الجميّل وجعجع من تحقيق رغبة البطريرك نصر الله صفير في توقيع ميثاق الشرف الذي حمله النائب إبراهيم كنعان قبل سنتين إلى بكركي، موقّعاً من عون وفرنجية. وقوة الراعي في مبادرته. فقد علمت «الأخبار» أن اجتماع اليوم سبقته لقاءات ثنائية سرية جمعت البطريرك والزعماء الأربعة، امتدّ بعضها لساعات، نوقش خلالها الكثير من الأفكار قبل موافقة الزعماء الأربعة على حضور اللقاء من دون أيّ شروط مسبقة. وكان الراعي حازماً في رفضه طلب رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع مشاركة النائبين بطرس حرب ودوري شمعون، إضافة إلى كارلوس إده ونايلة معوض، بعد رفض فرنجية هذا الأمر.
وقد رصد المتردّدون يومياً إلى بكركي حركة كثيفة للنائبين إبراهيم كنعان وسامي الجميّل في الصرح البطريركي، إضافة إلى مطران عاون البطريرك والنائبين المذكورين في الإعداد للقاء. ويشار في هذا السياق إلى وجود ورقة ثوابت مشتركة معلنة بين فرنجية والجميّل من جهة، وورقتين غير معلنتين بين عون وكلٍّ من فرنجية والجميّل. وبالتالي، هناك الحد الأدنى من التلاقي بين عون ـــــ الجميّل ـــــ فرنجية، يفترض ترقّب موقف جعجع منه، مع الأخذ في الاعتبار أن كتل فرنجية ـــــ عون ـــــ الجميّل سبق أن قامت بأعمال مشتركة في المجلس النيابي، عارضت كتلة القوات معظمها. وبين ملفات تكتّل التغيير والإصلاح التي سبق لبعض نواب التكتل أن ناقشوها بالتفصيل مع البطريرك الجديد أيام كان مطراناً، هناك الكثير مما يمكن القوى المسيحية أن تدعمه، من اللامركزية الإدارية الموسّعة إلى إعطاء الجنسية للمنحدرين من أصل لبناني، مروراً باقتراع المغتربين، في ظل تأكيد المقرّبين من الراعي أن الأخير قريب جداً في أفكاره من موقف تكتل التغيير والإصلاح تجاه ضرورة وضع استراتيجية جدية لتعزيز وضع المسيحيين في مؤسسات الدولة، وهو يتطلّع دون شك إلى توفير مختلف القوى المسيحية الدعم لاقتراح القانون الذي يعدّه تكتل التغيير والإصلاح من أجل تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية بوضوح.
وبالتالي، بعيداً عن نجومية مصافحة جعجع وفرنجية وتبادل الجميّل وعون القبلات، الأهم في اللقاء هو حامل الصولجان، في شهر واحد أعاد لبكركي ما خسرته خلال عشرين عاماً.