ومن الجدير ملاحظته أن الحريري استخدم رجلاً محلياً من عائلات المنطقة من أجل ضمان شراء هذه العقارات. لم يعلم الناس أنهم يبيعون لصالح الحريري.
شاطئ الرملة البيضاء الرملي لا يزال ضمن الملكيات الخاصّة في مخالفة واضحة للقوانين التي تصنّف الشواطئ الرملية والحصوية كجزء من الأملاك العامّة الوطنية، وقد عمل رئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري حتى لحظة اغتياله على شراء معظم العقارات على هذا الشاطئ، فضلاً عن معظم عقارات منطقة الدالية في الروشة... وذلك بهدف تحويلها من حيز عام ومساحة مشتركة لأبناء المدينة والضواحي الى منتجعات مغلقة لفئة اجتماعية بعينها دون سائر الفئات!..
ضمن تحقيق يحمل عنوان " المعتدون على البحر بالاسماء والتفاصيل 3 | تنشر جريدة «الأخبار» مقتطفات من بحث نفّذته مجموعة «الدكتافون» هذا العام في إطار عرض حي على شاطئ بيروت (من مسبح عجرم في ميناء الحصن حتى الرملة البيضاء) تحت عنوان «هذا البحر لي». يستند هذا البحث الى الإفادات العقارية لدى الدوائر الرسمية لرصد تبدّل الملكيات على الشاطئ البيروتي، كما يستند الى مقابلات مباشرة مع المعنيين بهذه العقارات، فضلاً عن الوثائق التاريخية والدراسات التي قامت بها سابقاً جهات رسمية وغير رسمية وأكاديمية... في ما يلي جزء من هذا البحث يتناول وضعية منطقتي الدالية والرملة البيضاء.
الدالية :
حسب الصحائف العقارية للمنطقة والعائدة الى أربعينيات القرن الماضي، فإن الدالية «منطقة غير مخصصة للبناء». كما يظهر أن ملكيتها تعود إلى عائلات، أهمها: شاتيلا وبيضون. ومع السنوات، وبنتيجة البيوعات توسع إطار الملكية ليشمل عائلات أخرى، أبرزها: عيتاني، مطر، عفيف، معوض والمر. صنف المخطط التوجيهي لبيروت القسم الأكبر من الدالية ضمن المنطقة العاشرة IV، وبموجب هذا التصنيف، ينحصر حق البناء في إقامة المؤسسات الرياضية والبحرية ومرافق اللهو حصراً، مع السماح بارتفاع أقصاه 4 أمتار، أما نسبة الاستثمار فلا تتجاوز 1 في المئة، وذلك استناداً إلى المادة 19 من قانون تنظيم المناطق لمديرية التنظيم المدني والمستند بدوره إلى المرسوم 14914.
منطقة الدالية هي واجهة بحرية في منطقة الروشة، وتتألف من مساحات كبيرة مفروزة، وتأخذ اسمها من اسم الميناء القديم. وتشكل الدالية إحدى المساحات العامة الشعبية الأساسية في بيروت، وتضم أكشاكاً عدة تلبّي حاجات الرّواد، كما تشهد الاحتفال الكردي السنوي بعيد «النيروز». بهذا المعنى، الدالية مساحة مفتوحة على البحر ومكان للقاء الفئات المتنوعة، منها: صيادو بيروت، روّاد كورنيش الروشة، سكان الضواحي، سوريون وعراقيون وغيرهم من الجاليات المقيمة في بيروت. ولأن لكل طبقة اجتماعية إيقاعاتها الخاصة، فقد فرضت هذه الخلطة إيقاعها على الدالية، وخصوصاً في أيام العطل والآحاد.
من وجهة نظر الدولة، لا يتم التعامل مع هذه المساحة في المدينة على أن استعمالها عام ولا حتى أنها تحوي ميناء رسمياً: فالمشاة ينزلون إليها في خلال فجوة استحدثوها في درابزين الكورنيش المطل على صخرة الروشة، فيما تستخدم السيارات الطريق الوعر من جنب مدخل فندق الموفنبيك.
وبالعودة إلى الأرشيف، تبيّن أن ملكية المنطقة انحصرت تاريخياً ببعض العائلات اللبنانية التي مرّ ذكر بعضها آنفاً، كما هي الحال على باقي الواجهة البحرية لبيروت، إلا أنه ابتداءً من العام 1995 شهد وضع الملكية تبدلات جوهرية. فسجلت بيوعات كبيرة لصالح شركات عقارية استحوذت على معظم الحصص والأسهم. وفي عيّنة ذات دلالة يمكن ذكر حال العقار رقم 1113 الذي ابتاعته شركة «البحر العقاري» التي يملكها رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري والتي وضعت يدها على كامل المنطقة من خلال شرائها لكامل الأسهم في عملية كبيرة تمت في يوم واحد. وفي عام 2007، وبعد مفاوضات طويلة جرت السيطرة على كامل العقار بعد تخلي الوزير السابق ميشال المر عن حصته التي كان قد ابتاعها من مالكها السابق وديع معوض لصالح الشركة، مقابل 10 ملايين دولار دفعة من حسابات بنك «البحر المتوسط».
بحسب هـ. ج.، الذي عيّنه الحريري للتفاوض مع الملاك لبيع حصصهم، فإن «الحريري استبصر رؤية الخط البحري مليئاً بالمنتجعات والفنادق السياحية وموانئ اليخوت». كما أن «مثل هكذا مشروع سيجذب نمطاً مختلفاً من السياح الى المدينة من خلال الأنشطة التجارية والمطاعم التي سوف تحقن في الموقع». ومن الجدير ملاحظته أن الحريري استخدم رجلاً محلياً من عائلات المنطقة من أجل ضمان شراء هذه العقارات. لم يعلم الناس أنهم يبيعون لصالح الحريري.
وفي السنوات الأخيرة، وتحديداً عام 2005 (قبل اغتيال الراحل رفيق الحريري) انطلقت مفاوضات من قبل ممثلين للحريري مع أصحاب البيوت غير الرسمية الموجودة في عدة مواقع على طول شاطئ الدالية. الهدف من تلك المفاوضات كان التوصل الى قيمة التعويضات لهؤلاء المستخدمين لإخلاء الموقع لدى انطلاق مشروع الشركة. بحسب أصحاب هذه البيوت، المفاوضات توقفت مع اغتيال الراحل الحريري. فلهذا، بغضّ النظر عن نوع المشروع السياحي الذي كانت الشركات تنوي إقامته على هذه البقعة من بيروت، من الواضح أن المشروع لم يكن ليحتمل استخداماً عاماً غير «منضبط» من قبل فئات متنوعة من المجتمع، كما هي الحال اليوم. نظر الحريري إلى هذه المنطقة على أنها جزء أساسي من الحيّز الخاص ذات القيمة الاستثمارية العالية. بذلك، الدالية كما هي اليوم تشكل خطراً على صورة بيروت السياحية، وعلى رأس المال، بالفعل، عندما يصبح مستثمر كبير ذات سلطة سياسية المالك الوحيد للمنطقة بأكملها سيستطيع من خلال المال والسياسة استثمار الأرض بشكل «لائق» ومربح ـــ عكس أصحاب الأرض السابقين ـــ من خلال قدرته على الحصول على استثناءات تشرّع ما ليس مشرّعاً حسب تخطيط المنطقة (كما حصل في الموفنبيك).
بالإضافة الى ذلك، التدقيق في القوانين الموضوعة يقود إلى تبيّن مادتين مصممتين لمصلحة تجار البناء والمستثمرين. أولاهما أن التخطيط الذي حدد نسبة الاستثمار بـ 1 في المئة يرفعها الى 10 في المئة في حال استثماره من قبل شركة. أما الثانية فتكمن في القانون 402 الصادر في عام 1995 والذي يسمح بمضاعفة عامل الاستثمار حين تتجاوز المساحة 20 ألف م2. بمعنى آخر، أن أي استثمار على شاطئ بيروت يجب أن تتجاوز قيمته عشرات ملايين الدولارات ليكون مشروعاً مربحاً، وبذلك تقفل الطريق أمام المشاريع الصغيرة. وبناءً على ما سبق، تتوضح المرامي الاجتماعية من التشريع، الذي حرص، وخصوصاً في الفترة التي أعقبت وقف التقاتل الأهلي، على تقديم مصلحة فئة بعينها على مصالح سائر الفئات. وخلال هذه الفترة سنّت القوانين التي تسمح لأصحاب النفوذ السياسي والمالي بإعادة تشكيل وإنتاج حيز المدينة بما يخدم مصالحهم المباشرة، فضلاً عن ممارسات التلاعب وتحوير القوانين.
منطقة الدالية ما تبقى في الحيز الاجتماعي في المدينة. شراء كامل حقوق ملكيتها من قبل شركات يشكل الخطوة العملية الأولى لإمكانية سحب الوظيفة الاجتماعية للدالية وتحويلها إلى الاستخدام الخاص.
الدالية، تاريخياً، ملكية خاصة تتوزعها عائلات بيروتية، لكن روادها وكامل سكان المدينة يعتبرونها امتداداً للحيز العام في مدينتهم، بل يعتبرونها جزءاً منه. من هذا المنطق، بإمكاننا فهم المكان العام على أنه الفضاء الذي يتكون من ممارسات مستخدميه فيه. هو فضاء للتحاور من خلال تفاعلات يومية، وبذلك هو غير خاضع للسيطرة بطبيعته. ممارسات روّاد الدالية أنتجت في هذا الحيز المديني مكاناً عاماً ناتجاً من اكتسابهم لفضائه. هم اكتسبوا الحق في هذه البقعة من المدينة. روّاد الدالية بخلفياتهم المتنوعة، الصيادون، العشاق، السباحون، وقاطنو البيوت غير الشرعية، جميعهم يساهمون في تحويل الدالية الى مكان عام ـــ يؤثّرون عليه، ويتأثرون به ـــ ويتفاوضون في ما بينهم من خلال الفضاء الخارج عن سيطرة السلطات عليه. بهذا، وعلى عكس تصريحات رئيس البلدية في ما يتعلق بحرج بيروت، فإن علينا، كما على السلطة، أن نثق بـ«العام»، كل العام ـــ أو على الأقل أن نسمح لفضاء المدينة بأن يكون أداة لبناء هذه الثقة.
الرملة البيضاء :
شاطئ الرملة البيضاء هو الشاطئ الرملي الوحيد الذي لا يزال يستخدم كمكان عام في بيروت اليوم. المنطقة المجاورة له هي عبارة عن أبراج سكنية على موازاة بولفار رفيق الحريري، أسعار العقارات المبنية فيها مرتفعة جداً وتتراوح بين 4000 و6000 دولار أميركي للمتر المربع، ما يعني أن هناك أرباحاً عقارية هامة يمكن تحقيقها خلال فترة تكون فيها السياحة وإعادة الإعمار الأهداف الرئيسية للأجندة النيو ليبرالية للدولة اللبنانية. من الناحية الجغرافية، التميز واضح: الرملة البيضاء هي حي مترف وحصري، أما معظم رواد الشاطئ فيأتون من أماكن أخرى في بيروت.
قبل عشرينيات القرن الماضي، كانت المنطقة تجذب السابحين والعائلات الذين كانوا يأتون من جميع أحياء بيروت تقريباً. ومع أن هذه المنطقة الرملية لا تلغي الحافة الصخرية الطبيعية التي تحيط بيروت، بل تعتبر امتداداً لهذه الحافة. في تلك الفترة، حتى خمسينيات القرن الماضي، كان «البيارتة» يتوجهون الى الرملة البيضاء في ذكرى «أربعة أيوب» ـــ تكريماً للنبي أيوب الذي يقال إنه أتي من فلسطين الى بيروت للاستشفاء، فمكث مدة على الشاطئ من الرملة البيضاء حتى حنتوس، حيث مقام الإمام الأوزاعي حالياً. وكان إحياء الذكرى على الشاطئ يتضمن إحضار المأكولات (بالأخص «المفتقة» الحلوى البيروتية) وإطلاق الأطفال لطياراتهم الورقية في السماء، إذاً لعبت هذه البقعة من بيروت المكان العام بسبب استخدام الناس لها تاريخياً كمكان عام: إن مفهوم شاطئ بيروت كمساحة عامة لم يكن سوى نتيجة استعمال سكان المدينة له كحيز عام.
وانعكس هذا في خريطة التنظيم المدني التي وضعها الفرنسيون في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي والتي تظهر أن المنطقة السياحية الواقعة بين الطريق والبحر هي ذات أهمية للعامة، وبالتالي فهي مخصصة للاستخدام العام، ويمنع أي عمران من أن يقسم الامتداد الطبيعي للحافة البحرية.
في أوائل الخمسينيات، اشترى فريد طراد، الذي كان مخططاً مدنياً يعمل لدى الحكومة، الأرض الواقعة بين البحر والطريق وطورها من خلال مشروع فرز للأراضي. وبموجب الخطة الجديدة، أصبحت الأرض بين الطريق المستحدثة والبحر ملكية خاصة مصنفة Non-Aedificandi، أي أن القانون الذي يحكمها يحدد منع البناء (باستثناء تخشيبات مؤقتة للاستخدام العام) وعامل استثمار منخفض جداً، أي يستحيل إقامة مشروع استثماري مربح.
الصحائف العقارية لهذه المنطقة، تشير إلى أن العقارات كانت تاريخياً ملك عائلات لبنانية. بمعنى آخر، الشاطئ العام يقع تاريخياً على أراضٍ خاصة. عندما تم تطبيق مشروع الإفراز وإنشاء طريق، انقسمت المنطقة الى قسمين: القسم المصنف للسكن، شرق الشارع، والقسم الذي بقي شاطئاً رملياً يمنع البناء عليه بموجب القانون، غرب الطريق ـــ ما يسمح بشكل غير مباشر باستخدامها من قبل فئات اجتماعية متنوعة تحت إشراف البلدية. المساحة العامة هي في الواقع ملكية خاصة، ولكن نوع الاستخدام عام ويشرف عليه اليوم بعض المنظمات الحكومية وغير الحكومية بطريقة غير رسمية.
اجتماعياً، الشاطئ الرملي الذي أصبح مسبحاً عاماً بقرار بلدي في عام 1983 في عهد الرئيس شفيق الوزان يستخدم من قبل الذين لا يمكنهم تحمل تكلفة المسابح الخاصة. وتقوم جمعيات منتخبة من ضمن المجتمع المدني، في كل عام، بإطلاق خطة للصيف تتعلق بكيفية إدارة وتشغيل الشاطئ لضمان وصول الخدمات البلدية للشاطئ العام.
خلال فترة التسعينيات، طرأ تحول في الشروط التي تحكم الشاطئ، إذ دارت الأحاديث في وسائل الإعلام وبين الناس حول «خصخصة» الشاطئ. ولكن ما معنى ذلك في مكان هو في الأساس ملك خاص؟ في الواقع، يشير البحث (كما مثال منطقة الدالية) الى أن نقطة التحول لم تكن «الخصخصة»، بل كانت شراء شركات عقارية لمعظم قطع الأرض الموجودة على الشاطئ ـــ شركات يملكها الراحل رفيق الحريري. شراء حقوق الملكية من قبل الحريري، ضمن إطار قانوني مصمم لمصلحة المطورين العقاريين، كانت الخطوة العملية الإولى لإمكانية سحب الوظيفة الاجتماعية للرملة البيضاء وتحويلها إلى الاستخدام الخاص ـــ وهذا لم يكن ممكناً إلا بعدما أصبحت الأرض ملك مستثمر كبير ووحيد يملك السلطة المالية والسياسية لتغيير القانون (من خلال استثناء خاص كمثال الموفنبيك) للتمكن من استغلال الأرض، عكس أصحاب الأرض السابقين.
من وجهة نظر الشركة المالية، كان سيتم بناء مشروع عقاري على الشاطئ، بحسب جمعية الخط الأخضر، وكان سيتضمن فندقاً من خمس نجوم ومرسى لليخوت. إلا أن المرسى يتطلب، بحسب المرسوم 4810، أن يملك باني المرسى جميع الأراضي المزمع البناء عليها. لذا، فإن ما أوقف المشروع فعلياً هو قطعة أرض واحدة تملكها بلدية بيروت منذ عام 1975. علمنا في دراسة أكاديمية أن الحريري تمكن لاحقاً من شراء هذه الأرض من البلدية من خلال عملية بيع غير قانونية، ولكن لم نتمكن من التأكد من هذا الأمر، إذ إن الدوائر العقارية رفضت إعطاءنا الصحيفة العقارية لذلك العقار.
باختصار، جرى تلاعب بتعريف الحيّزين الخاص والعام. على غرار ما حدث على بقية ساحل بيروت، هذا التلاعب كان نتيجة، أولاً، المرسوم 4810 الذي فتح الباب أمام استغلال الواجهة البحرية لمنافع خاصة. التعديلات الحديثة في قوانين وأنظمة استخدام الممتلكات البحرية استغلت الملكية الخاصة للشاطئ، على الرغم من كونها ضمن مناطق لا يسمح البناء عليها بتاتاً، ما يجعلها تلقائياً مفتوحة للعامة. ثانياً، الارتباط القوي بين فئة السياسيين ومستثمري الساحل ـــ في حالة الرملة البيضاء، هو ارتباط رئيس الوزراء السابق بأعضاء المجلس البلدي من أجل شراء العقارات التابعة لبلدية بيروت والتفاوض على اتفاق... بعيداً عن المصلحة العامة.
* بحث ونصّ: عبير سقسوق، كتابة وإدارة العرض: تانيا خوري، منتج منفّذ: بترا سرحال، رسم الخرائط والتصميم: نادين بكداش