30-11-2024 04:38 AM بتوقيت القدس المحتلة

المالكي في عمّان: أكثر من أنبوب نفطي

المالكي في عمّان: أكثر من أنبوب نفطي

سألتُ الملك عبدالله الثاني عمّا إذا كان الوقت قد أزف لاستعادة العلاقات الأردنية ــــ العراقية، أجابني بأن شيئاً ما سيحصل «في غضون شهرين».

ناهض حتر

لقاء عبد الله المالكيسألتُ الملك عبدالله الثاني عمّا إذا كان الوقت قد أزف لاستعادة العلاقات الأردنية ــــ العراقية، أجابني بأن شيئاً ما سيحصل «في غضون شهرين». لكن لم يمرّ أسبوعان على هذا الحديث حتى كان رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، في عمان (الاثنين 24 كانون الأول الجاري) في زيارة عاجلة وناجحة، تدل على أن تسارع التطورات الإقليمية لم يعد يسمح بتباطؤ الاستجابات السياسية الملائمة للأطراف؛ نحن، إذاً، في مرحلة إعادة التموضع.

اتفق الجانبان على المشروع العراقي الكبير لمدّ أنبوب نفط (بطاقة إنتاج تساوي مليون برميل يومياً) إلى ميناء العقبة، بما يضمن زيادة مؤثرة في الصادرات النفطية العراقية في ظروف آمنة. وسيحصل الأردن على احتياجاته النفطية من هذا الأنبوب، منهياً بذلك سنوات تكبّد خلالها أعباء فواتير الطاقة بالأسعار العالمية التي أرهقت الخزينة والاقتصاد اللذين تعوّدا النفط العراقي الرخيص حتى الاحتلال الأميركي في 2003.

السر الذي كشفه مسؤولون أردنيون، الآن، هو أن حكومة المالكي كانت عرضت المشروع قبل بضعة أشهر على عمّان التي اعتذرت، حينها، بسبب خشيتها من انفراط كامل لتحالفها التقليدي مع السعودية. المفارقة أن السعوديين يبيعون النفط للأردن بالأسعار العالمية (بحسب بورصة سنغافورة) بينما يكلّف برميل النفط العراقي الأردنيين 22 دولاراً فقط. وقد وافق المالكي على مضاعفة كمية النفط الثقيل المصدّرة إلى الأردن فوراً (حالياً 30000 برميل يومياً) وعلى الطلب الأردني المزدوج: الحصول على هذه الكمية من نفط البصرة الأكثر جودة من نفط كركوك، وعن طريق البحر بدلاً من الطريق البري المكلف بسبب الاضطراب الأمني. لكن هذا هو الطريق نفسه الذي ستمرّ عليه الشاحنات التي ستنقل الصادرات الزراعية إلى الأسواق العراقية التي قرر المالكي فتحها أمام الأردنيين.

هنا مربط الفرس؛ أمن طريق عمان ــــ بغداد. وهو منوط، سياسياً ولوجستياً وأمنياً، بالتحالف العراقي ــــ الأردني. بوضوح، نحن نتحدث، إذاً، عمّا سُمّي بالمثلث السني، غربيّ العراق، على الحدود الأردنية، حيث يتمتع الأردنيون بنفوذ تقليدي بين العشائر السنيّة، وقدرات استخبارية، وإمكانيات فعّالة لسدّ الثغر الحدودية للتدخل السعودي ومكافحة الإرهاب، وإغلاق منافذه.

هو أكثر من أنبوب نفطي بكثير، وأكثر من طريق دولي للصادرات والواردات. إنه ما يستلزمه الأنبوب والطريق من تفاهم استراتيجي على ضمان إغلاق الخلفية الإقليمية للانشقاق الطائفي للمنطقة الغربية العراقية، ووقف التمرد العشائري على الحكومة المركزية في بغداد، وقطع طريق الإرهاب، والتوصل إلى تفاهمات جيوسياسية تؤمن البوابة العربية التقليدية للعراقيين. هكذا، يمكن إعادة اكتشاف الأهمية الاستراتيجية للحلف الأردني ــــ العراقي، سواء من وجهة نظر بغداد كما هو واضح، أو من وجهة نظر عمان التي اكتشفت حقيقتين؛ أولاهما أنه لا يمكن الركون إلى دعم اقتصادي سعودي وخليجي، فعال وثابت ومستقرّ، وثانيتهما أن الخليج لا يمثّل عمقاً استراتيجياً للكيان الأردني، بقدر ما يمثّل مصدراً للضغوط السياسية والأمنية.

المساعدات السعودية والخليجية ــــ حتى في ذروتها ــــ ظلت وتظل تشكّل حُقناً مالية برّانية، بينما العلاقات مع العراق هي علاقات تكامل اقتصادي جوّانية، تقوم على الاعتماد المتبادل والمصالح المتبادلة، وتتفاعل، داخل البلدين والاقتصادين والمجتمعين، في شبكة متعاضدة متداخلة معقدة، تنعكس على كل مناحي الحياة في البلدين المتقاربين في بنيتهما الاجتماعية والثقافية.

تاريخيّاً، لم تتمكّن الدولتان من الفرار من الدكتاتورية الجيوسياسية التي ربطتهما منذ نشأتهما، مطلع عشرينيات القرن العشرين، بممر بري عريض يقطع بادية الشام. وإذا كان راسمو الخرائط الإنكليز قد أرادوا منه تأمين مواصلات الإمبراطورية في مناطق نفوذهم بين بغداد وحيفا، فإن مكر التاريخ حوّله إلى حلقة اتصال استراتيجية بين البلدين الشقيقين، تفرض عليهما التواصل والتكامل اللذين لم يشهدا سوى انقطاعات موقتة، حتى كسرهما الاحتلال الأميركي.

أذكّر بأن العشائر العراقية (الشيعية) والأردنية (السنيّة) قاتلت الغزوات الوهابيّة، قبل أن تنشأ الدولتان، وبعد نشوئهما، ورسمت بدماء أبنائها الحدود بين حضارة الهلال الخصيب وصحراء الوهابيين، بينما وجدت بغداد وعمان نفسيهما، مراراً، في خندق واحد مع فيصل وعبد الإله وعبد الكريم قاسم وصدام حسين، سواء بسواء؛ إنها دكتاتورية الجغرافيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من الأردن بوابة العراق وعاملاً رئيسياً من عوامل وحدة العراق وأمنه، وتجعل من بلاد الرافدين العمق الاستراتيجي للكيان الأردني في مواجهة التحديات الإسرائيلية والسعودية الخليجية، كما في مواجهة التحديات الاقتصادية، وأهمها التحدي الرئيسي المرتبط بالطاقة.

كان المالكي في عمان صريحاً، سواء لجهة دعمه الحياد الأردني نحو الأزمة السورية، أو لجهة تكوين رؤية مشتركة لمواجهة التطرف الطائفي في المنطقة. ومن الواضح أنه وجد آذاناً صاغية وأحضاناً دافئة لدى الأردنيين.

 

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه