الحرب بدأت في مالي. هذه هي الحقيقة الواضحة لغاية الآن، أما ما عداها من وقائع حول ظروف هذه الحرب ومدتها وخواتيمها، فيلفّه الغموض
الحرب بدأت في مالي. هذه هي الحقيقة الواضحة لغاية الآن، أما ما عداها من وقائع حول ظروف هذه الحرب ومدتها وخواتيمها، فيلفّه الغموض، وإن كانت المؤشرات تشي بعواقب إنسانية ومادية خطيرة ستخلفها هذه الحرب التي يرجّح المراقبون بأنها طويلة الأمد.
ومع بدء العمليات الفعلية يوم الجمعة الماضي، في إطار ما عُرف بحملة «القطة المتوحشة» بقيادة فرنسا، سارع المحللون إلى التكهن بقدرة القوى الفرنسية على تدمير الجيوب الإسلامية، في وقت عاد البعض إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي لـ«القارة السوداء»، محاولاً تحميل الفرنسيين وزر ما يحصل من تطرف في مستعمراتها السابقة، بحسب ما جاء في مجلة «فورين بوليسي».
في هذه الأثناء، شبّه بعض المحللين مالي بـ«أفغانستان الجديدة»، حيث حذّر الأستاذ في العلوم السياسية سيرج ميخايلوف في صحيفة «جورنال دو ديمانش» من أن تخلّف الحرب تطورات شبيهة بحرب أفغانستان. وهكذا، بحسب ميخايلوف، لو نجحت فرنسا في حصر العمليات العسكرية ضدّ الإرهاب فحسب سيكون شيئاً جيّداً، لكن لو خاضت حرب عصابات ضدّ الجماعات الإسلامية التي تتحرك في أرض توازي أضعاف مساحة فرنسا، فهي ستكون في وضع حرج للغاية.
في الواقع، ثمة مخاطر جمة تحيط بالحرب الفرنسية في مالي، برغم كل ما خرج من تصريحات سياسية تؤكد أن الحرب كانت حتمية في وجه الخطر الداهم الذي كان يهدّد العاصمة، في وقت بدت باريس المعني الأكبر بمحاربة الجماعات المسلحة، أكثر من مالي ودول الجوار بأشواط مضاعفة.
وفي سياق المخاطر، يسوّق المحللون الصعوبات التي تأتي من جنوب مالي ذاتها، كالوضع السياسي القلق في باماكو والذي يؤثر على القتال في الشمال، وسيطرة قادة الانقلاب العسكري المستمرة على الجيش المالي وممارسة الحكم من خلف الكواليس، مع العلم أنهم كانوا ضدّ التدخل العسكري الخارجي، ثم تأتي صعوبة التنسيق الكامل بين القوة الأفريقية وبين حكومة باماكو والجيش المالي. أضف إلى ذلك صعوبات تتعلق بنمط الحرب، فالمتمردون في شمال مالي ليسوا كتلة متجانسة يمكن محاربتها بسهولة من جهة، والكوارث الإنسانية التي ستسببها الحرب لدول الساحل والقارة من جهة أخرى.
وعلى صعيد السياسة الفرنسية، تشير مجلة «فورين بوليسي» إلى أن قرار التدخل في مالي يعكس تحولاً في السياسة الفرنسية. فباريس قالت في وقت سابق إنها لن تتدخل، وإن كانت مستعدة للمساعدة في تنسيق تدخّل متعدد الأطراف في البلاد.
وبرغم حصول التدخل بطلب من الرئيس المالي ديونكوندا تراوري، إلا أن وجود قوات فرنسية على أرض كانت في السابق مستعمرة للفرنسيين (حتى العام 1960) تجعل الأمور بالتأكيد أكثر تعقيداً. وهذه هي المرة الثانية التي تتدخل فيها فرنسا في بلد أفريقي فرانكوفوني خلال السنوات الماضية، وذلك بعد مساعدتها في اعتقال الرئيس الإيفواري لوران غباغبو في العام 2011.
وإن كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بطل الحرب المالية الآن، فهذا يعني أن مبدأ التدخل العسكري الجديد الذي أرساه الرئيس السابق نيقولا ساركوزي خلال أشهره الأخيرة (التدخل في ليبيا على سبيل المثال)، لم يكن مجرّد أداة انتخابية.
وتستعرض المجلة ما جاء في كتاب بيتر تشيلسون الجديد عن الحكومات التي تستعين بقوى دولية لمواجهة الإسلاميين والذي تناول الدور الفرنسي في تاريخ مالي، مشيراً إلى مدى تأثير الاستعمار على المشهد الجيو ـ سياسي للبلاد، ودوره في التسبب بالعديد من المشاكل الحالية.
ولفهم الصورة الأشمل لمشاكل مالي، تعيدنا المجلة إلى العام 1904، عندما قسّم الفرنسيون حوالي 1,8 مليون ميل مربع من الغابات الماطرة والصحارى والسهول إلى ثماني مستعمرات. حلم الفرنسيون حينها باستثمار المعادن والوفرة الزراعية عبر بناء سكة حديد من جنوبي البحر المتوسط عبر الصحراء وصولاً إلى منطقة جنوب صحراء أفريقيا. القليل وقف في وجه فرنسا. منافستها العظيمة، بريطانيا، أبدت اهتماماً ضئيلاً باستعمار الصحراء. وعليه رسمت فرنسا مستعمراتها على الورق، لكنها لم تهتم كثيراً في تثبيت هذه الحدود على الأرض. أما ما عقّد المسألة أكثر فهو أن فرنسا لم تفكر يوماً بترتيب استقلال مستعمراتها الأفريقية.
القرار الفرنسي تناولته بدورها مجلة «التايم» التي قالت إن لفرنسا دافعين كي تكون معنيّة بما يحصل في مالي. الأول: التاريخ. لا شك في مقاربة فرنسا اليوم هناك رواسب استعمارية، وهي معنية أكثر من غيرها في التدخل بشؤون الدول الفرنكوفونية. ثانياً: الخوف المهيمن على باريس من إمكانية تهديد إسلاميي مالي المتطرفين لفرنسا، لا سيما أن أغلبية الإسلاميين هناك يتحدثون باللغة الفرنسية ولديهم العديد من الصلات والأقارب على الأراضي الفرنسية. كما ان «القاعدة» في المغرب العربي كانت ذكرت فرنسا، ممثلة القوى الكبرى في المنطقة، كهدف أولي لعملياتها. أضف إلى ذلك ما تعاني منه قوات «الإيكواس» من انقسام وتراجع في المؤهلات.
وفي السياق، اعتبر المختص في شؤون الأمن أندري بورجو أن هولاند تسرّع في إعطاء أوامر بتحرك القوات الفرنسية في مالي، في وقت اتهمه بالاختباء وراء «الإيكواس» لتبرير الحرب.
ويبقى السؤال، هل سينجح الفرنسيون في إيقاف الزحف الإسلامي؟ يعزز طرح هذا السؤال تحول الحديث، بعد أقل من يومين من بدء العمليات، من الكلام عن «حرب خاطفة» إلى «حرب قد تطول». وفي الوقت الذي ينشغل فيه الغرب بمحاربة «الإرهاب» والسيطرة على الموارد الطبيعية وضمان تدفق النفط من غرب أفريقيا، فإنه يغفل طبيعة أقاليم الشمال التي يتداخل فيها الديني بالعرقي بالسياسي، ما يعني ذلك إمكانية انتشار المزيد من الفوضى نتيجة لتداعيات الحرب التي قد تقود إلى تفتيت مالي.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه