لعبت قطر دوراً كبيراً في الأزمات التونسية والمصرية، وكذلك في الأزمة الليبية حيث أعطت من مالها الوفير، لكن عندما واجهت الملف السوري وتعقيداته بدأت الصعوبات تظهر حجم قطر الحقيقي ووزنها
الثورة، أية ثورة تحتاج إلى السمو أكثر من حاجتها إلى الحتمية..
روجيه غارودي..
مقدمة.....
هذا كتابي الثاني بعد كتاب «صناعة شهود الزور»؛ وللمفارقة فإنَّ ما احتواه الكتاب الأول شرح مسبقاً الأحداث التي اهتم بها هذا الكتاب، خصوصاً في مسألة الصراع على سوريا وفي سوريا.
الوجه الآخر للثورات العربية حصيلة عمل ومتابعة دقيقة ومرهقة لأحداث الربيع العربي طوال عامين كاملين من عمر الأحداث العاصفة بالعالم العربي، وقراءة تفصيلية للمقدمات التي هيأت الطرق الموضوعية لحدوث الانفجار العربي الكبير الذي تحضّرت أرضيته منذ احتلال العراق عام 2003، وتحدّدت ساعة انطلاقته تزامناً مع الانسحاب الأميركي منه.
لقد واكبت أحداث تونس مباشرة مع غالبية من تعاقبوا على الحكم بعد سقوط زين العابدين بن علي مروراً بالثورة المصرية والحرب الليبية وصولاً إلى الأزمة السورية أو الثورة السورية كما يسميها المعارضون السوريون، ومن بينهم أصدقاء شرفاء لهم التقدير، وإن اختلفت الرؤية السياسية والمواقف في ما بيننا، والتي تفصلها عن بعضها بعضاً أنهار دم من هنا وهناك.
الحدث السوري ليس جديداً على صعيد لعبة الأمم، ولكن الجديد هو وصول هذه اللعبة إلى الداخل السوري، ونجاحها في ركوب موجة الاحتجاجات، وتسييرها في عملية تسلح عنيفة حملت أبشع ما في التاريخ العربي من فتاوى تكفيرية وماض دموي مظلم تضمنته كتب التاريخ العربي والإسلامي خدمة لمصالح من احتل العراق؛ وكانت سوريا السبب الأساس في إخراجه منه، وكل هذا بمعزل عن مصالح الشعب السوري والوطن السوري..
كان العمل الجدي والمهني يتطلب تواصلاً مع شرائح ونوعيات من المجتمع مختلفة المشارب والتوجهات والانتماءات، لذلك اعتمدت في معلوماتي على مصادر مفيدة وأكيدة؛ هذا بالتوازي مع الأخبار المتداولة من هنا وهناك، والتي قد يكون بعض منها صحيحاً، لكنها في معظمها تحمل الكثير من الشكوك والغلّ.
لقد استندت في عملي هذا إلى ستة أصناف من البشر:
1 - سياسيون وبرلمانيون ودبلوماسيون على شيء من التواصل مع خفايا السياسة الفرنسية عبر صداقات قديمة وحالية، فضلاً عن إعلاميين جمعتني بهم الزمالة والتعاون المهني.
2 - العسكر ورجال الأمن، وهذه الشريحة من المجتمع هي الأكثر إفادة في مثل هذه الأزمات، والأكثر اطلاعاً وجدية في تعاطيها مع الخبر، كما أنها تملك عقلية ممنهجة في تحليلها السياسي للأحداث الحاصلة كافة.
3 - الباحثون في معاهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية، وأساتذة العلوم السياسية في الجامعات، فضلاً عن ناشطي حقوق الإنسان والمجتمع المدني والأهلي.
4 - رجال المال والعلاقات العامة لما لهم من تأثير وعلاقات مع النافذين في البلد؛ فالمال عصب كل شيء، ومن أجله تشنّ الحروب وتسفك الدماء.
5 ـ الوسط السوري المعارض والموالي في بلد مثل فرنسا شكّل رأس حربة في الحملة على النظام السوري.
6 ـ الأحزاب الأوروبية وناشطو المجتمع المدني الأوروبي..
7 ـ الأحزاب الكردية في سوريا وتركيا والعراق والناشطون الأكراد..
فإلى كل الذين تعاونوا، والذين ساعدوا في إخراج هذا الكتاب، أقدم شكري الخالص، ومحبة ملؤها الأمل...
الملف القطري
حمد الباريسي..
الزمان، حزيران عام 2009، المكان، بلدية باريس.. وتحت شمس حارقة، وقفت طوابير السيارات بسبب إقفال الطرقات المحيطة بمبنى البلدية. أما المشهد الضخم فهو حفل استقبال أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني. خارج المبنى الواقع على ضفاف نهر السين، في الدائرة الخامسة في باريس، وعلى بعد أمتار قليلة من الحي اللاتيني الذي يوصف بحي الفلاسفة ومثقفي اليسار الأوروبي والعالمي، تواجد الأمير الأكثر ثراء في العالم، تحميه من الجو طائرات هليكوبتر أزعج ضجيجها الآذان... وعلى الأرض كانت الشرطة الفرنسية مخفورة بفرقة مكافحة الشغب تنتشر في كل مكان، بينما أقفلت الطرقات إلى المدينة ما زاد من زحمة السير التي تعانيها باريس، ومعها تطاولت الألسنة على الضيف والمضيف.
الحديث بين رئيس بلدية باريس وأمير قطر دخل في موضوع الاستثمار الشره والمرضي للإمارة الصغيرة التي دخلت خلال أشهر قليلة في رأس مال شركات أوروبية رائدة مثل شركة (سويز) وبنك (باركلي) وشركة (بورش)؛ يومها قال ولي العهد القطري تميم بن حمد للحضور: عليكم أن تعرفوا أننا نشتري جيادنا الأصيلة من مصر، واللؤلؤ من الهند في إشارة إلى الغنى الفاحش لدولة قطر الذي جعل آل ثاني يستغنون عن تربية الخيول والاتجار باللؤلؤ[1]. الأمير الصغير كما والده والحاشية، بحاجة لمن يستمع إليهم، بحاجة إلى طرف دولي يعطيهم الأمان والاعتراف الذي يلهث آل ثاني وراءه من دون أن تطمئن قلوبهم أنهم سوف يصلون يوماً ما إليه، فتعدو دولتهم في مصاف الدول العادية غير المصطنعة وغير المركبة والمفبركة على قياس قبيلة وعائلة ومن أجلها؛ والفرنسيون يعرفون نقطة الضعف هذه عند هؤلاء، لذا تصبح المراسم في استقبالهم غير عادية؛ فأي فرحة وشعور بالعظمة يشعر بها حمد بن خليفة، وهو يسمع هدير طائرات الهليكوبتر وهي تحوم فوق باريس لحمايته بينما لم يحصل مثل هذا للرئيس الأميركي.
هي دولة قطر الصغيرة بحجمها وبعدد سكانها، والعملاق الاقتصادي الذي يبحث عن اعتراف سياسي عبر استخدام المال الآتي من آبار الغاز الأكثر تطوراً في العالم، ما شجعها على التدخل بطريقة شيخ القبيلة في كل اتجاه.
اشترت بمالها الوفير في السنوات الأخيرة كأس العالم لكرة القدم للعام 2022، وتقوم ببناء بنية تحتية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات لاستقبال[2] البطولة، كما اشترت نادي (سان جيرمان) الباريسي العريق، واستثمرت في مناجم الذهب في اليونان، وابتاعت نسبة في بنك (سانادير) البرازيلي أكبر مؤسسة مالية في أميركا اللاتينية، وابتاعت استوديوهات سينما (ميراماكس) من شركة (ديزني)، وتستثمر في سندات الخزينة لدى أكثر من بلد في العالم.[3]
بالتوازي مع الاستثمارات المالية، ركبت قطر حصان الثورات العربية، عبر تغطية قناة الجزيرة الإعلامية لأحداث تونس ومصر، ولعبت المشيخة الصغيرة دور الغطاء العربي في الحرب على ليبيا من خلال شن حملات إعلامية وسياسية، والعمل على جلب التدخل عسكري الغربي الذي قاده صديق أمير قطر الشخصي الرئيس الفرنسي (نيكولاي ساركوزي)، وهي تسعى، بكل قوة، لاستدراج تدخل عسكري في سوريا على طريقة التدخل في ليبيا.
سياسة الرقص على رؤوس الأفاعي..
تقيم قطر علاقات جيدة مع إيران، وفي الوقت نفسه فتحت أبوابها عام 2003 أمام الجيوش الأميركية لإقامة أكبر قاعدة جوية أميركية خارج الولايات المتحدة دفعت الإمارة الغنية تكاليف بنائها، وتدفع أيضاً تكاليف صيانتها ومصاريفها على مدار السنة.[4] في العام 1990 أقام أمير قطر علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وبالرغم من الحديث عن قطع التواصل منذ حرب غزة إلا أن الصحف العالمية مليئة بأخبار الاجتماعات بين حكام قطر والإسرائيليين، ومنها الاجتماع في قصر الإليزيه في أيار عام 2011، لتنسيق الجهود في الثورات العربية خصوصاً في سوريا[5].
وفي قلقها الدائم من إغضاب أي طرف ، تحولت المشيخة في الوقت ذاته إلى أرض احتضان واستقبال لكل المعارضات الإسلامية للأنظمة القائمة في العالم العربي، من معارضي معمر القذافي أمثال علي الصليبي إلى الجزائري عباسي مدني مروراً بالشيخ راشد الغنوشي والشيخ يوسف القرضاوي من دون أن ننسى أسامة بن لادن الذي كانت بياناته وخطبه تبث دوماً عبر قناة الجزيرة؛ أما الهدف من هذه الدورة الكاملة والمتناقضة من العلاقات فهو الحفاظ على مسافة واحدة مع الرياض ومع طهران، والأهم هو التأكد من الحصول على المرور المستمر في مضيق هرمز الممر الإجباري لتصدير الغاز القطري إلى العالم.
قطر دولة غنية تسبح على بحر من الذهب، لكن حكامها يعرفون حجمهم جيداً؛ ففي منطقة ملتهبة مضطربة تعيش عائلة آل ثاني عقدة الضعف والهزل، وهي بحسب جريدة لوموند الفرنسية لا تبحث سوى عن الاعتراف بوجودها[6].
ما كان لدولة صغيرة المساحة وغير آهلة بالسكان أن تلعب هذا الدور لولا الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت كبار هذا العالم في حالة عجز ونقص في السيولة؛ وبينما تعتبر الدول الغربية روسيا والصين دولاً لا يمكن التعامل معها نظراً لقوتها على الأصعدة كافة، كان التوجه نحو دول الخليج العربي الغنية والضعيفة في آن واحد بحيث يمكن الحصول على المال المتوافر لديها بحجة حمايتها، وفي الوقت ذاته ليس هناك خطر من التعامل معها بسبب ضعفها العسكري والديمغرافي، وبالتالي الإستراتيجي.
أتى الربيع العربي بهدية لآل ثاني في صعودهم الظرفي؛ فليس حمد بن خليفة شخصية مولعة بالديمقراطية، لكنه استغل ضعف الكبار في العالم العربي فحاول ملء المكان الفارغ، خصوصاً وأنَّ مصر مشغولة بمشاكلها السياسية والاجتماعية، وبوضعها الاقتصادي الصعب، وسوريا غارقة في شبه حرب أهلية يساهم أكثر من نصف العالم، إضافة إلى دول خليجية في تغذيتها فضلاً عن حصار دولي منذ عشرات السنين، والعراق لا يزال يعاني ما يعانيه، والمغرب بعيد، ولديه وضعه الخاص، والجزائر غارقة في مشاكلها التي لا تنتهي. إذن، هناك فراغ ملأته قطر مكان الكبار، شبهته صحيفة لوموند بحالة إفلاس قد تصيب ألمانيا وفرنسا ما يجعل سلوفينيا تقود الاتحاد الأوروبي.
قطر مثل صاروخ انطلق بالمصادفة، وهذا الصاروخ لا بد أنه سوف يصطدم بالواقع الذي يضطره للعودة إلى الأرض.[7]
حليفنا بشار ...
لعبت قطر دوراً كبيراً وبسهولة كبيرة أيضاً في الأزمات التونسية والمصرية، وكذلك في الأزمة الليبية حيث أعطت من مالها الوفير ولم تخسر شيئاً من قدرتها الدبلوماسية، لكن عندما واجهت الملف السوري وتعقيداته بدأت الصعوبات تظهر حجم قطر الحقيقي ووزنها الفعلي على الرغم من الدعم الغربي الكبير لإسقاط النظام السوري، والدخول التركي القوي على الساحة إضافة إلى السلاح والمال والمقاتلين من كل العالم.
لقد انقلب حمد بن خليفة على حليفه بشار الأسد الذي طالما نسق معه في ملفات عديدة. ولم تدخل قطر المحور السنّي الذي سعت إليه السعودية ونجحت نوعاً ما في تأسيسه مع مصر والأردن، والذي جعل مواجهة إيران أولوية، خصوصاً في السعي الحاصل لإخراج سوريا من المحور الإيراني في المنطقة. وعلى العكس اختارت المشيخة طريق الحوار مع إيران ومع حلفائها في المنطقة، وسعت عبر مالها في إعمار بعض قرى الجنوب اللبناني عام 2006، كما أنها شجعت نيكولاي ساركوزي على التقارب مع دمشق عام 2007.
هذه السياسة القطرية كانت بمثابة موقف من السعودية أكثر منه تقارباً مع الحلف السوري الإيراني، كما أنَّ اشتراك قطر وإيران في استغلال حقل غاز في مياه الخليج جعلها تسعى إلى عدم استفزاز طهران؛ وحتى ربيع 2011 عند بدء الأحداث السورية كانت المشيخة في حالة تردد إلى أن حسمت موقفها ضد النظام في سوريا بعد عودة أميرها من زيارة لواشنطن في نيسان من العام ذاته، وكان أوباما قد قال للصحافة على هامش هذه الزيارة: «إنَّ لقطر دوراً كبيراً في الثورات العربية».[8]
ظهرت نتائج زيارة حمد لواشنطن من خلال تغير جذري في تغطية الجزيرة، وفي تصريحات صدرت عن أمير قطر ووزير خارجيته تطالب سوريا بالإصلاحات، وحصلت القطيعة في نهاية شهر حزيران عندما قام أمير قطر بزيارة دمشق حاملاً معه شروطاً أميركية ولكن الرئيس السوري رفض استقباله[9].
وينسحب هذا التحول أيضاً في النهج المتبع مع إيران التي لا تنظر بارتياح إلى تحركات قطر الهادفة لإسقاط حليفها السوري، وأتت زيارة أمير قطر لطهران خلال صيف2011 حاملاً معه رسائل أميركية إلى القيادة الإيرانية تعيد تكرار الطلب نفسه الذي لم تتوقف الولايات المتحدة الأميركية عن إرسال الموفدين العرب إلى إيران طالبة موافقتها عليه، وهو يتمثّل برغبة أميركا في التمديد لقواتها في العراق سنتين جديدتين بموافقة أو «تطنيش» إيراني، وهذا ما رفضته طهران مع الموفد السعودي، وأعادت رفضه مع المبعوث القطري الذي سمع كلاماً قاسياً من القيادة الإيرانية[10].
هذه الزيارة حصلت نهار السبت 31 آب 2011، وفي تفاصيلها أنه كان من المقرر أن تتم نهار الأربعاء الذي سبقه، غير أنَّ الإيرانيين قالوا لأبي مشعل (أمير قطر) إنهم قادرون على استقباله نهار الخميس، ثم أعادوا تأجيل الزيارة إلى السبت. تكلم حمد بن جاسم نيابة عن الأميركيين طالباً تعاوناً من إيران في التمديد للقوات الأميركية في العراق فضلاً عن تعاون مماثل في لجم كتائب حزب الله - العراق وعصائب أهل الحق، حيث بلغت العمليات التي تنفذها المنظمتان ضد الجيش الأميركي حداً لا يطاق بالنسبة إلى الولايات المتحدة. كما أنَّ الزائر القطري حمل أيضاً طلباً أميركياً حول أفغانستان في الاتجاه ذاته، إذ تحدث عن ضرورة أن تساهم إيران في وقف العمليات العسكرية ضد الجنود الأميركيين في بلاد الأفغان.
ومن ثم تطرق الأمير القطري إلى الوضع السوري، وبالتحديد عن مرحلة ما بعد حكم الرئيس بشار الأسد، فردّ الرئيس الإيراني على ضيفه القطري بعبارات قاسية، كقوله له: أول صاروخ سوف يسقط عندك.
الموقف الإيراني الرافض لإسقاط النظام السوري سمعه أردوغان أيضاً في زيارته التي قام بها إلى طهران في أيلول 2011، هكذا أفادني مسؤول إيراني رفيع في جلسة في مطار طهران بحضور رجل القرضاوي المخلص الشيخ (على محيي الدين القره داغي) الأمين العام للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وحصل اللقاء والحديث مصادفة بينما كان المسؤول الإيراني يودع الشيخ (داغي)، وكنت متواجداً في قاعة الذهاب.
وزاد الأمر تعقيداً بالنسبة إلى السياسة القطرية صمتها عن التدخل العسكري السعودي في البحرين، وتجاهل قناة الجزيرة للحراك الشعبي هناك، وعدم إعطائه أي مساحة في التغطية اليومية للقناة التي ركزت على سوريا بشكل كبير.
الروس في جيبي...
يروي معارضون سوريون من الذين حضروا اجتماعات أطياف المعارضات السورية في القاهرة قصصاً عمّا يطلقون عليه (عنجهية) القطريين، والتي، على كل حال، لا تتناسب مع حجم قطر ولا مع واقعها. ومن القصص التي يتندر بها الجمع السوري المعارض كلام ينسبونه إلى الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء ووزير خارجية قطر في جوابه عن الدعم الروسي لنظام الرئيس بشار الأسد حين قال لهم: «روسيا في جيبنا». ويقول المعارضون السوريون إنَّ حمد بن جاسم لوح بيده نحو الأسفل عند كلامه هذا، واستكمل قائلاً: «نحن نؤيد المجلس الوطني السوري، ونريد منكم جميعاً الانضواء تحت عباءته»، في حين أنَّ الاجتماعات كانت تتم تحت رعاية الجامعة العربية شكلاً لا أكثر.
هذه عينة من الطريقة التي أدارت بها مشيخة قطر الملف السوري، بعد إدارتها للملف الليبي.
اعتمدت قطر بالتنسيق مع تركيا وفرنسا استراتيجية واحدة في مقاربتها للأزمة السورية تتمثل في جلب التدخل العسكري الخارجي كما حصل في ليبيا. غير أن حجم سوريا وقوة تحالفاتها الإقليمية والدولية حكمت على هذا الثلاثي بالعمل على استدراج الولايات المتحدة الأميركية، وبالتحديد، للتدخل في سوريا تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، لكن سوريا ليست ليبيا الضعيفة، وساركوزي لا يمكن له القيام بالتصرف ذاته حيالها، والأتراك لن يتدخلوا من دون أميركا الغارقة في الحروب في أكثر من منطقة، والرازحة تحت ضغط أزمة اقتصادية خانقة، وبالتالي، فهي ليست في وارد الدخول في نزاعات أخرى على حدود العراق في الوقت الذي تغادر فيه بلاد الرافدين تاركة النفوذ فيها لعدوها اللدود إيران[11].
فقطر ليست دولة يحسب لها حساب في العلاقات الإستراتيجية؛ فهي مشيخة بلا شعب تقريباً، وعديد جيشها اثنا عشر ألف جندي، غالبيتهم الساحقة من البلوش ومن سيريلانكا، لكنّ أهميتها تكمن في مخزون الغاز الضخم الذي تحويه، فضلاً عن وجود أكبر قواعد الجيش الأميركي في الشرق الأوسط فوق أراضيها، إضافة إلى امتلاكها قناة الجزيرة الإخبارية التي تعد سلاح المشيخة الفتاك في وجه كل الآخرين ،والذي استعملته بقوّة في أحداث الربيع سعياً منها للحصول على نفوذ يعطيها مشروعية البقاء والاعتراف الذي تبحث عنه كدولة وكيان[12].
في الحرب الليبية أمنت قطر الغطاء العربي للتدخل العسكري، وفي الأزمة السورية سعت قطر ولا تزال لفعل الشيء ذاته. يروي معارضون سوريون كلاماً كثيراً لوزير خارجية قطر حمد بن جاسم في هذا الموضوع، وينقلون عنه قوله في بداية الأزمة: «لن تستطيع روسيا الوقوف في وجهنا»، كما يروون عنه قوله: «روسيا في جيبنا»، إضافة إلى تبرمه من هيئة التنسيق السورية، ومن شخص هيثم مناع بالتحديد، ويقولون إنه قال في إحدى جلساته: «يجب حرق هيثم مناع»[13]، وكذلك قوله لوزير خارجية الجزائر: «لا تدافع عن سوريا، جاييكم الدور سوف تحتاجوننا»[14]. ويروي عنه الجمع السوري المعارض أنه قال لهم بعد زيارة وليد المعلم للدوحة على هامش الاجتماع الأول للجنة الجامعة العربية حول سوريا «تكلمت مع السوريين من فوق»، ولعل أكبر عثرات حمد بن جاسم كانت في موضوع المراقبين العرب، فهو الذي طالب بإرسالهم، وهدد السوريين من على شاشات التلفزة بكلام لم يقله هتلر لخصومه[15]، ومن ثم كان أول من قام بإطلاق النار عليهم عندما لم يجاروه في مشروعه، وكان فشله في موضوع المراقبين العرب السبب في ذهابه إلى مجلس الأمن، وتلقيه الصفعة الثانية من روسيا والصين ومن ثم تبعتها صفعة الفيتو الثالث يوم 19 تموز 2012.
أسباب العداء
بتاريخ 13 كانون الثاني عام 2011 زار رئيس تركيا رجب طيب أردوغان قطر، واجتمع مع أميرها لبحث الأزمة اللبنانية التي نشبت بعد استقالة المعارضة اللبنانية السابقة، والوزير الوديعة عند رئيس الجمهورية، واتفق الرجلان على أن خروج الحريري من رئاسة الحكومة أمر غير مقبول للدولتين فضلاً عن تلقي الطرفين تعليمات أميركية برفض الإطاحة بالحريري ووجوب العمل على إعادته عبر الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد[16]. إنَّ للدولتين مصلحة في عودة الحريري؛ فقطر اعتبرت استقالة وزراء المعارضة من الحكومة اللبنانية ضربة قاضية لاتفاق الدوحة الذي رعته، والذي يشكل النجاح الوحيد لدبلوماسيتها بعد تعثر الحلول التي قامت بها في اليمن ودارفور، واعتبرت سقوط الحريري إنهاء لدورها السياسي والدبلوماسي في المنطقة، بينما كان أردوغان الساعي إلى الدخول عبر البوابتين الفلسطينية واللبنانية لإظهار نفوذه لدى الولايات المتحدة على دول المنطقة يشعر أن الأمور تجري من دون استشارته؛ ولمن لا يعلم عن طبيعة العلاقة بين سعد الحريري وأردوغان يكفيه الرجوع إلى أحداث أيار عام 2008، عندما اقتربت المعارضة اللبنانية يومها من أسوار قريطم حيث كان يتواجد سعد الدين الحريري، وهروب القوات الخاصة السعودية عبر البحر، تاركة تيار المستقبل وميليشياته في الساحة، يومها، لجأ سعد الحريري إلى رجب طيب اردوغان طالباً إليه التدخل لدى القيادة السورية لوقف إطلاق النار.
وفي 17 من الشهر نفسه، أي بعد أربعة أيام على اجتماع الثنائي أردوغان وآل ثاني في الدوحة، انتقل الرجلان إلى دمشق للاجتماع بالرئيس السوري بشار الأسد ونقلا إليه مطلبهما بعودة الحريري رئيساً للحكومة ووقف الاستشارات النيابية لتحديد رئيس جديد يكلف بتشكيل حكومة جديدة في بيروت. وبالاستناد إلى مصادر أكاديمية فرنسية في باريس فقد أبلغ الثنائي أردوغان وبن خليفة الرئيس الأسد أنَّ الأميركيين يريدون عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة فوراً. وتضيف المصادر إنَّ الرئيس السوري لم يمانع، ولكنه قال إنه لا يمكن له الضغط على حلفائه اللبنانيين، وخصوصاً حزب الله بعدما أفشل الحريري ورقة الحل السوري السعودي.
خطة المسؤولين الأتراك والقطريين المتمثّلة بعودة الحريري سقطت من خلال رفض أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله لها.
هذا الأمر هو أساس الغضب الكبير الذي انتاب أمير قطر ضد الرئيس السوري بشار الأسد، والذي تحول إلى حملة شعواء من التحريض الإعلامي تقوم به الجزيرة على مدار الساعة في تغطيتها للحدث السوري، بينما كانت الخسارة التركية كبيرة لدى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا خصوصاً وأنَّ تركيا التي عاد إلى السلطة فيها، حزب العدالة والتنمية، أمامها استحقاقات سياسية واقتصادية كبيرة سوف تؤثر على قوتها وتماسكها على عكس ما يشاع في الإعلام؛ فالسياحة التركية معرّضة لانخفاض حاد في المداخيل بسبب الأزمة الاقتصادية الأوروبية الحادة بعد أن استفاد الأتراك من قوة اليورو التي جعلت السائح الأوروبي يغير وجهته اليونانية نحو تركيا الأكثر رخصاً، كما أنَّ تركيا أمام استحقاق كردي حاسم بعد أن علت الأصوات الكردية متهمة أردوغان بالكذب عليهم طوال ثماني سنوات. ولا ننسى أن الجبهة مع حزب العمال الكردستاني اشتعلت بعنف الخريف الماضي حيث استعملت تركيا الطائرات الحربية والجنود في حملة عسكرية شنتها ضد مواقع الحزب الكردي الثائر.
هذه المآزق التركية المستجدّة، أراد أردوغان القفز فوقها وتجنّبها عبر الدخول في عملية الضغط على سوريا كسباً للغرب، وفي إعادة للعلاقات مع إسرائيل، وهو الذي سوف يحتاج إلى المال الغربي للاستمرار في الانتعاش الاقتصادي لديه فضلاً عن السعي الاستراتيجي الأكبر، وهو الحظوة بنفوذ إقليمي يمكّنه من فرض نفسه على المستوى الدولي.
هذا كله يضاف إلى المأزق القطري الذي لم يستطع إلزام حليفه الفرنسي باحترام الوعد الذي قطع للثورات العربية بالاعتراف بدولة فلسطينية في أيلول 2011، إذ اصطدم الأوروبيون بالرفض الإسرائيلي الأميركي الحاسم، وهذا ما شكل كارثة دبلوماسية على فرنسا بالتحديد التي اندفعت للحرب على ليبيا، وشجعت الضغوط على سوريا متغطية بوعدها الذي سوّقت له كثيراً[17].
غيفارا القطري..
بدأت قطر عملية سياسية لتوحيد المعارضة السورية تحت جسم واحد يمكن من خلاله تطبيق السيناريو الليبي في سوريا، وكانت أولى المبادرات الفعلية لقطر في هذا المجال استقبال الدوحة أعمال ندوة علمية تحت عنوان «سوريا بين خيارات ومصالح القوى السياسية والاجتماعية واحتمالات التغيير» التي نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره عزمي بشارة في الدوحة على مدى يومي السبت والأحد 30 و31 تموز 2011.
افتتح الندوة الدكتور عزمي بشارة بكلمة أكد فيها أنَّ التغيير في سوريا أمر لا محالة واقع، وأنَّ النظام في سوريا حاله كحال كل الأنظمة العربية المستبدة آيل إلى الزوال. وقد شهدت الندوة أولى محاولات إنشاء المجلس الوطني السوري بزعامة برهان غليون. وقد حاول عزمي بشارة، والقطريون من ورائه، خداع السوريين الحاضرين، غير أن وجود شخصيات سورية معارضة لها وزن وتاريخ في العمل السياسي أمثال هيثم مناع وحسين العودات وميشال كيلو منع الخطة القطرية من النجاح والتكوّن على الرغم من كل الضغوط التي مارسها عزمي بشارة الذي قال في اتصالاته مع وجوه المعارضة السورية أثناء توجيه الدعوات لحضور الندوة: «تعالوا إلى الدوحة كي ننشىء لكم مجلساً وطنياً موحداً وخلال شهرين يسقط النظام»[18]. هذه فكرة من أفكار عزمي بشارة الذي يقدم على أنه مفكر، وقد أثبتت فشلها وفشل من طرحها باسم الديمقراطية في قطر المشيخة التي لا تمتلك دستوراً، وكأن الوحي الديمقراطي نزل على آل ثاني حتى يحط فيها عزمي بشارة رحاله للنضال.
الجامعة العربية
ترأست قطر مجلس الجامعة العربية من حزيران عام 2011 حتى نيسان 2012، وهي اشترتها من دولة فلسطين التي كانت صاحبة الحق حسب الترتيب الأبجدي لأحرف اللغة العربية[19]. جاءت رشوة الرئيس الفلسطيني لتمكين قطر من ترأس مجلس الجامعة العربية بمثابة فتح الباب لاستعمال الجامعة الغربية غطاء في الحرب على ليبيا، ومن ثم في مساعي الحرب على سوريا، فبدأت في استخدامها للضغط على دمشق عبر تشكيل لجنة وزارية عربية برئاسة وزير خارجية قطر حمد بن جاسم آل ثاني وضعت بنوداً وشروطاً على دمشق تعلم هي مسبقاً أنَّ الرفض السوري لها أمر حتمي، وأعطى حمد بن جاسم للقيادة السورية مدة أسبوع لقبول شروط هذه اللجنة خلال الاجتماع مع وفد سوريا في الدوحة الذي تكلم فيه وزير خارجية قطر باستعلاء واضح مع الوفد السوري حسب بعض أعضاء الوفد المذكور.
بتاريخ 12/11/2011 أصدر مجلس الجامعة العربية قراره الأول حول سوريا جاء فيه :
إنَّ مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في جلسته المستأنفة للدورة غير العادية بتاريخ 12/ 11/ 2011 بمقر الأمانة العامة، وبعد اطلاعه على تقييم اللجنة العربية الوزارية لما آلت إليه الأوضاع في سوريا، وبعد استماعه إلى تقرير الأمين العام، ومداخلة رئيس وفد الجمهورية العربية السورية، ومداولات السادة الوزراء ورؤساء الوفود، ونظراً لعدم التزام الحكومة السورية بالتنفيذ الكامل والفوري لمبادرة جامعة الدول العربية التي اعتمدها مجلس الجامعة على المستوى الوزاري في اجتماعه الذي عقد يوم 2/11/2011، يقرر:
1 ـ تعليق مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، اعتباراً من يوم 16/11/2011 وإلى حين قيامها بالتنفيذ الكامل لتعهداتها التي وافقت عليها بموجب خطة العمل العربية لحل الأزمة السورية، والتي اعتمدها المجلس في اجتماعه بتاريخ 2/11/2011.
2 - توفير الحماية للمدنيين السوريين، وذلك بالاتصال الفوري بالمنظمات العربية المعنية، وفي حال عدم توقف أعمال العنف والقتل يقوم الأمين العام بالاتصال بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بما فيها الأمم المتحدة، وبالتشاور مع أطياف المعارضة السورية لوضع تصور بالإجراءات المناسبة لوقف هذا النزيف وعرضها على مجلس الجامعة الوزاري للبت فيها في اجتماعه المقرر يوم 16/ 11/ 2011.
3 ـ دعوة الجيش العربي السوري إلى عدم التورط في أعمال العنف والقتل ضد المدنيين.
4 ـ توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية ضد الحكومة السورية.
5 ـ دعوة الدول العربية لسحب سفرائها من دمشق، مع اعتبار ذلك قراراً سيادياً لكل دولة.
6 ـ دعوة جميع أطراف المعارضة السورية للاجتماع في مقر الجامعة العربية خلال ثلاثة أيام للاتفاق على رؤية موحدة للمرحلة الانتقالية المقبلة في سوريا، على أن ينظر المجلس في نتائج أعمال هذا الاجتماع ويقرر ما يراه مناسبا بشأن الاعتراف بالمعارضة السورية.
7 ـ عقد اجتماع على المستوى الوزاري مع كافة أطراف المعارضة السورية بعد توصلهم إلى الاتفاق كما جاء في «سادساً».
8 ـ إبقاء المجلس في حالة انعقاد دائم لمتابعة الموقف.
- الجمهورية اللبنانية والجمهورية اليمنية: اعتراض.
- جمهورية العراق: امتناع.
صفعة المراقبين العرب...
كان الهدف هو جلب التدخل الدولي بأي ثمن، وهذا ما سعى إليه حمد بن جاسم آل ثاني، ويتضح ذلك من المهل قصيرة المدى التي كان يعطيها للقيادة السورية إلى أن حصل من مجلس الجامعة على بند الذهاب إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن في مهلة أسبوع من تاريخ صدور القرار، وفي السادس عشر من الشهر ذاته، أي بعد أربعة أيام، اجتمعت اللجنة الوزارية العربية في الدوحة، وعلى جدول أعمالها موضوع واحد هو حرق المراحل الدبلوماسية وصولاً إلى مجلس الأمن الدولي حيث كانت فرنسا بالتنسيق مع قطر والسعودية تعد مشروع قرار يفتح الباب أمام تدخل عسكري غربي في سوريا منسوخاً طبق الأصل عن التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا. كان القطريون في اندفاعهم مثل طفل دخل ملعب الكبار، ويريد أن يثبت أنه بلغ سن الرشد عبر الصياح والصراخ والإصرار على الوصول إلى الهدف بسرعة من دون أية دراسة للعواقب كما فعلوا عند ذهابهم مرة ثانية إلى مجلس الأمن الدولي في شباط 2012.
دخلت طلائع البعثة البلاد في يوم الخميس 22 كانون أول عام 2011 بعد توقيع سوريا على المبادرة العربية قبل ذلك بثلاثة أيام، وانتهت أعمالها فيها في 16 كانون الثاني عام 2012، أي بعد أقل من شهر من إرسالها.
وافقت الحكومة السورية دون تحفظات في 2 تشرين ثاني 2011 على خطة وضعتها جامعة الدول العربية لسحب الجيش من المدن والإفراج عن السجناء السياسيين وإجراء محادثات مع زعماء المعارضة خلال 15 يوماً كحد أقصى، لكن ملاحظات سوريا على البروتوكول أجلت التوقيع على الخطة، فلجأت الرئاسة القطرية مرة أخرى إلى استعجال اتخاذ القرارات ضد سوريا وحرق المراحل، وتقدمت بمشروع قرار أمام مجلس الجامعة يقضي بتجميد عضوية سوريا، واضعة مهلة ثلاثة أيام للتوقيع على بروتوكول لإرسال مراقبين عرب إلى البلاد، وهو ما أثار سخطاً شديداً لدى الحكومة السورية، وتبعته هجمات واقتحامات لسفارات قطر والسعودية في دمشق، وقنصليتي تركيا وفرنسا في حلب واللاذقية، ثم تمددت المهلة حتى مساء يوم الجمعة 25 تشرين الثاني؛ ومع إصرار سوريا على عدم التوقيع إذا لم تؤخذ ملاحظاتها فرضت عليها عقوبات اقتصادية عربية في27 تشرين ثاني عام 2011.
وفي ظل الأخذ والرد بين سوريا واللجنة الوزارية العربية برئاسة قطر وتدخل روسيا الداعمة لدمشق في موقفها المطالب بتعديل بعض النقاط التي تعتبرها انتهاكاً لسيادتها تمدَّدت مهل الجامعة العربية لاحقاً حتى يوم الأحد 5 كانون أول 2012، ومن ثم استمر الأخذ والرد لمدة أسبوعين كاملين تاليين. وفي 19 كانون أول وافقت الحكومة السورية على توقيع المبادرة بعد شهر ونصف من المهل والجدال، فوصلت طلائع البعثة إلى البلاد في يوم الخميس 22 كانون أول 2012 فيما بلغَ إجمالي عدد المراقبين الذين كان يُفترض قدومهم 150 إلى 200 مراقب.
غيرت دول الخليج والغرب رأيها ببعثة المراقبين العرب بعد أن سعت أشهراً لإرسالها، وتخللت مهمتها هجمات دبلوماسية بدأها وزير خارجية فرنسا يومها (آلان جوبيه) الذي قال إنَّ مهمة المراقبين انتهت قبل أن تبدأ[20]، في حين بدأت قطر هجومها على المراقبين. وفي 22 كانون ثاني 2012 سحبت السعودية مراقبيها الذين هم أصلاً من جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين ألحقوا بوزارة الخارجية من أجل إرسالهم إلى سوريا[21]. وبعد يومين سحبت دول الخليج مراقبيها، وبعد أن احتجت الجامعة العربية بعدم وجود ميزانية للبعثة[22]، استحوذت الرئاسة القطرية للجامعة على قرار من مجلس الجامعة العربية بتعليق عمل البعثة التي قاتلت لإرسالها؛ والحقيقة أن القطريين وقعوا في شر أعمالهم، ولم يحالفهم الحظ، ولا التوجهات السياسية لغالبية أفراد البعثة فانقلبوا عليها.
ـ 22 يناير 2012، المملكة العربية السعودية تسحب مراقبيها الأربعة من سوريا.
ـ 24 يناير 2012، دول الخليج العربية تعلن أنها بدأت بالانسحاب من بعثة المراقبين.
ـ 28 يناير 2012، الجامعة العربية تعلق بعثة المراقبة بسبب «استمرار القتل في المدن».
لم يخطر على بال حمد بن جاسم آل ثاني أنَّ بعثة المراقبين العرب التي قاتل شهوراً من أجل إرسالها إلى دمشق سوف تكون من ألدّ أعدائه، ولم يكن يتوقع أن يصارع لإنهاء مهمة المبعوثين واعتبارهم عدوه الأول بعد أسبوع واحد من بدء عملهم. خرج الوزير القطري على قناة الجزيرة بعد أيام قليلة من إرسال المراقبين ناعياً بعثة الجامعة ومتّهماً أعضاءها بارتكاب أخطاء، وهو قبل شهرين كان يهدد السوريين بضرورة استقبال البعثة مشيراً بإصبعه أمام عدسة التلفزة، ومكيلاً الشتائم لدمشق بالقول: «بلا مراوغة ولا دوران»[22]، وهو كان قال لوزير الخارجية السوري وليد المعلم في اجتماعات الدوحة: «المبادرة العربية واضحة، إما تقبلونها وإما ترفضونها وتتحملون النتائج». فالذي هدد السوريين بتحمل نتائج رفضهم للبعثة، اتهمها بالتقصير وبارتكاب الأخطاء وبعدم المهنية، وضغط في الجامعة العربية حتى تمّ سحبها. بعدها توجه إلى مجلس الأمن الدولي موهماً المعارضة السورية أنَّ روسيا في جيبه لينال صفعة ثانية في شباط كانت أولى نتائجها دخول الجيش السوري حي بابا عمرو واتساع رقعة العف في سوريا. فما الذي حدث في بعثة المراقبين، وقلب الموقف القطري منها رأساً على عقب؟
يمكن القول إنَّ حمد بن جاسم وقع ضحية عدم خبرته في مجال البعثات الدولية، وضحية الوقت الذي لعب لمصلحة السوريين فضلاً عن تسرعه في حرق المراحل لزيادة الضغط على النظام السوري. وخلاصة ما حصل هي أن الجامعة العربية منذ شهر تشرين الثاني، وبعد قرارها تجميد عضوية سوريا طلبت من عدة جمعيات حقوق إنسان عربية معروفة، بعضها مركزه العالم العربي، وبعضها الآخر بلدان غربية أهمها فرنسا، طلبت من هؤلاء تقديم قوائم بأسماء مراقبين لإرسالهم إلى سوريا، وأعطت الجامعة موافقتها على كل الأسماء التي قدّمت من قبل الجمعيات المذكورة. وفي عملية الاستعجال التي أشرنا إليها طلبت الجامعة العربية حضور أعضاء البعثة فوراً إلى القاهرة، وهذا ما حصل بالفعل حيث حضر غالبية من قدّمت أسماؤهم. في الوقت ذته، بدأ الجدال بين دمشق والجامعة العربية حول بنود البروتوكول، وبدأت فترات التمديد للمهل، وطال انتظار المراقبين في القاهرة، مما دفع بعضهم لترك عمله والذهاب في إجازة، أو البقاء والانتظار. بعد ثلاثة أسابيع من الأخذ والرد، وقّعت سوريا البروتوكول المعدل، ولكن الغالبية الساحقة من المراقبين كانت قد غادرت القاهرة، كل إلى بلده وعمله، ولم يبقَ سوى بعض المراقبين أصحاب الخلفيات السياسية. وكانت الصفعة لقطر أنَّ غالبية هؤلاء من المحسوبين على التيارات القومية العربية، الذين لم يخضعوا لأجندة حمد بن جاسم في سوريا وقدموا تقريراً خالف الأهداف التي من أجلها سعى في إرسال البعثة، التي عوّل على وجودها لزيادة عدد التظاهرات خصوصاً في مدينة دمشق، لكن الصفعة أتت قوية أفقدته توازنه، فكان قرار سحب المراقبين وتجميد عمل البعثة الذي أتى دون تبريرات منطقية، والذي أثار استياء الروس، فيما شهدت الجامعة العربية خلافات حادة من جراء هذا القرار...
في 13 شباط 2012 عقد مجلس الجامعة العربية جلسة حول سوريا على مستوى وزراء الخارجية مما دفع الأزمة السورية نحو المسار الأشد خطورة، الذي أعاد إلى الأذهان السيناريو الليبي بحذافيره، عندما استدعى التدخل الدولي بشكله العسكري الذي يعني المزيد من الخراب والدمار والدم في سوريا، وذلك من خلال مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار بتشكيل «قوات حفظ سلام عربية ـ أممية مشتركة للإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار»، في خطوة مفاجئة تقفز فوق الفيتو الروسي الصيني.
وطلب المجلس الوزاري العربي في قراره، الذي تحفظ عليه لبنان، وحصرت الجزائر تحفظها باثنين من بنوده، وقف جميع أشكال التعاون الدبلوماسي مع النظام السوري، وقرر تقديم الدعم «السياسي والمادي» للمعارضة السورية. وسارعت دمشق إلى إعلان رفضها لهذه القرارات «جملة وتفصيلاً»، معتبرة أنَّ القرار العربي «أظهر حالة الهستيريا والتخبط التي تعيشها حكومات عربية بعد فشلها الأخير في مجلس الأمن الدولي لاستدعاء التدخل الخارجي في الشأن الداخلي واستجداء فرض العقوبات على الشعب السوري».
حاول رئيس الحكومة وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني طرح نصٍّ حول سوريا، خلال الاجتماع الوزاري العربي المتعلّق بفلسطين، يتضمن فقرة فيها: «يقرر المجلس الوزاري العربي الاعتراف بالمجلس الوطني السوري على أنه ممثل للشعب السوري، على أن يعلن الاعتراف رسمياً في مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس». واستفسر عدد من الحاضرين منه إذا كان قراراً أم مشروع قرار، فرد حمد بأنه قرار، لكن وزير خارجية لبنان عدنان منصور قال إن هذا القرار خطير جداً، فرد حمد «يمكنك التحفظ». وقال منصور «أنا أرفضه ولا أتحفظ عليه». وقال وزير خارجية العراق هوشيار زيباري: «موضوع الاعتراف بالمجلس الوطني السوري أمر سابق لأوانه، ولم نتفق عليه. نحن اتفقنا في الاجتماع السابق (حول سوريا) على بحث الموضوع في تونس». من جهته، وزير خارجية تونس رفيق عبد السلام استغرب حصر الموضوع بالمجلس الوطني، موضحاً أنَّ هناك أطيافاً كثيرة في المعارضة السورية، ولا يمكننا تجاهلها، طالباً ترك الأمر إلى اجتماع تونس. ورد حمد: «70 إلى 80 في المئة (من المعارضة) يمثلها المجلس الوطني».
[1]زيارة حمد بن خليفة لباريس، حزيران 2009.
[2] الجزيرة، 2 كانون أول 2010.
[3]مجلة ماريان الفرنسية، شباط 2012.
[4]قاعدة السيلية وقاعدة العديد.
[5]الكاتب في موقع المنار.
[6]صحيفة لوموند الفرنسية، 5 آذار 2012.
[7]المصدر السابق.
[8] الجزيرة، نيسان 2011.
[9]مجلة اكسبرس الفرنسية، 16/06/2011.
[10]مصادر إيرانية للكاتب.
[11]في مؤتمر صحافي مغلق في وزارة الخارجية الفرنسية قال مسؤول فرنسي إنَّ الرئيس هولاند لا يريد أن يزعج أوباما في عزّ حملته الانتخابية، لذلك لن تصعد فرنسا ضد إيران.
[12]جريدة لوموند الفرنسية.
[13]مصادر في المعارضة السورية للكاتب.
[14]المصدر السابق.
[15]كلامه في مؤتمر صحافي مشترك مع نبيل العربي.
[16]موقع تلفزيون المنار.
[17] الوعد قطعه نيكولاي ساركوزي في حزيران عام 2011 وأتى أيلول ولم يحترم الوعد.
[18] مصادر في المعارضة السورية دُعيت لحضور المؤتمر.
[19]حسب النظام المعمول به في جامعة الدول العربية.
[20]بيان وزارة الخارجية الفرنسية بعد يومين من وصول البعثة إلى سوريا.
[21]حسب أقوال بعض المراقبين العرب الذين كانوا ضمن البعثة.