تنشر صحيفة «الأخبار» ابتداءً من اليوم حلقات من كتاب «الإبراء المستحيل» الذي أصدره تكتل التغيير والإصلاح، يتضمن بعضها تقارير عن الحسابات المالية للدولة اللبنانية وتعامل وزارة المال معها.
تنشر صحيفة «الأخبار» ابتداءً من اليوم حلقات من كتاب «الإبراء المستحيل» الذي أصدره تكتل التغيير والإصلاح، يتضمن بعضها تقارير عن الحسابات المالية للدولة اللبنانية وتعامل وزارة المال معها. الكتاب يشير إلى استحالة إبراء ذمة أي حكومة في مرحلة ما بعد الطائف عن الإنفاق الذي قامت به والإيرادات التي حصلّتها. خلاصة الكتاب تشير إلى أن هذه الحكومات أنفقت 250 ألف مليار ليرة بلا مستندات كافية لإبراء ذمتها. كان الأمر أقرب إلى الإسراف في تبذير مليارات الدولارات يميناً ويساراً. لم تكن هناك رقابة، ولم يكن هناك من يسأل، ولم يتطوّر هذا الوضع إلى مرحلة المحاسبة، ولم ينكشف إلا أخيراً.
«الإبراء المستحيل»، ليس مجرّد عنوان لكتاب أصدره تكتل التغيير والإصلاح، بل هو عنوان الوقائع والمعطيات المتّصلة بعدم قدرة السلطة في لبنان على إقرار أي موازنة بالشكل الدستوري والقانوني منذ عام 1993 إلى اليوم. هذا يعني أن كل الإنفاق منذ ذلك الوقت إلى اليوم لم يخضع لأي رقابة أو تدقيق، وهو ما يعكسه مضمون الكتاب الذي يُظهر أن الإنفاق العام خلال العقدين الماضيين وصل إلى 250 الف مليار ليرة.
هل تصنّف هذه المبالغ ضمن إنفاق الدولة على التنمية والرفاه الاجتماعي أم كانت عبارة عن إسراف وتبذير سياسي ومافياوي لم يكن متاحاً مراقبته قبل إنفاقه، ولا يمكن التدقيق فيه اليوم؟ ما يثبته الكتاب بالوثائق والأرقام أن الجزء الأكبر من هذه المبالغ ليست له مستندات قانونية في أدراج الدولة اللبنانية، وإذا وُجدت مستنداته فهي إما ناقصة أو مشوّهة ولا تعكس وجهة إنفاقه الفعلية. ينطبق على هذه المبالغ ما هو شائع عالمياً في مجال المحاسبة والتدقيق: غياب مستند واحد هو مفتاح للشكّ بكل الملف؟ فكيف إذا كانت غالبية المستندات مفقودة!
الفصل الأول من كتاب «الإبراء المستحيل» يذكر حجم الإنفاق العام للدولة بين الأعوام 1993 – 2010 بما يعادل 165.8 مليار دولار. لهذه المبالغ قصّة طويلة، فالسنوات الـ 17 المذكورة تجسد فترة ما بعد الحرب الأهلية التي انتهت باتفاق الطائف. وأهمية هذه المرحلة أنها تنطوي على كثير من المؤشّرات على طبيعة الممارسات الحكومية والإنفاق وآليات الرقابة والمحاسبة، أي أنها شاهد على هذه المرحلة وكل ما فيها من ممارسات سياسية تمتدّ جذورها إلى إنفاق الإدارات والتوظيف والمشاريع، أي كل ما يندرج ضمن توزيع المغانم. فما يظهره الكتاب والوثائق التي يستند إليها أن كل الموازنات في هذه الفترة لم تنجز وتقرّ وفق الأصول الدستورية، ما يدفع إلى التشكيك فيها، وأن مجلس النواب لم يصادق على أي من مشاريع قطوعات الحساب، بل كان يقرّ مشروع الموازنة العامة مع التحفّظ على قطع حساب السنة السابقة، علماً بأن قطع الحساب يعرّف وفق نص المادة 78 من الدستور على أنه «حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة». وهذه الحسابات «يجب أن تعرض على المجلس (النيابي) ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة». كذلك، تنص المادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب على أن «يصدق المجلس أولاً على قانون قطع الحساب، ثم على موازنة النفقات ثم قانون الموازنة وفي النهاية على موازنة الواردات».
ويفترض أن يتضمن قطع الحساب أرقام النفقات الفعلية والواردات الفعلية، لتجري مقارنتها لاحقاً مع أرقام الموازنة العامة التي ترتكز على التقديرات. وعندما ينجز قطع الحساب، ترسله وزارة المال إلى ديوان المحاسبة مرفقاً بحسابات المهمة لتجري مطابقتهما والتدقيق بكل مستند أنفق. وحسابات المهمة، هي عبارة عن مستندات تثبت كل الأموال الداخلة والخارجة من الخزينة. بعدها يرسل قطع الحساب مرفقاً برأي ديوان المحاسبة إلى مجلس النواب حيث تطبق المادة 118 المذكورة.
في الواقع، يستند الكتاب إلى عدد من الوثائق التي تثبت أن سلطة ما بعد الطائف لم تقرّ أي قطع حساب أو حساب مهمة منذ عام 1979 لأسباب عديدة، منها ما هو يتصل بالحرب ومنها ما يتعلق بالتلاعب بالحسابات.
في الجانب الأول من هذا الأمر، استعملت ذريعة فقدان المستندات بسبب الحرب لتصفير الحسابات، ثم بدأت الحكومات تؤسس عليها لتفادي إقرار الحسابات. ثم بدأت مرحلة التلاعب. ففي عام 1995، وأثناء نقاشات مجلس النواب لمشروع موازنة عام 1995، يجزم وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة (في حينه كان الرئيس رفيق الحريري وزيراً للمالية) أنه بسبب الحرب، «ليس هناك سجلات محاسبية، فيما اقتصر إنفاق الدولة على الشؤون الملحة، بالإضافة إلى تشتّت الإدارات وإصابتها بأضرار جسيمة وبعثرة المستندات وتلف جزء منها وفقدان الاتصال بين الوزارات والإدارات وبين وزارة المال وديوان المحاسبة».
وكان لافتاً أن السنيورة أقرّ يومها بأن قطع حساب عام 1993 يظهر وجود «فروقات ما بين حساب الموازنة وحساب الخزينة لدى مصرف لبنان». ويضيف أن «مجلسكم الكريم (مجلس النواب) أعفى ديوان المحاسبة من التدقيق في السنوات بين عام 1979 و1990 بسبب صعوبات عملية جداً في إعداد قطع حساب لهذه الفترة لأن جزءاً كبيراً من المستندات مفقود أو أتلف». بناء على ذلك، طلب السنيورة اعتماد الطريقة نفسها بالنسبة لعام 1990، موضحاً أن وزارة المال «عاكفة على التدقيق في كل المستندات المتوافرة وسيصار إلى إعلام مجلس الوزراء والمجلس النيابي عن وضع قطع حساب لعامي 1991 و 1992». ثم اتفق لاحقاً على «تصفير الحسابات» بتاريخ 1 كانون الثاني 1993، ولا سيما حسابات الصندوق وحسابات الخزينة لدى مصرف لبنان.
ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم، إن الصورة كما يرسمها الكتاب هي على النحو الآتي :
ـــ سلّم وزير المال قيود محتسب المالية المركزي وقيود الحسابات الملاءة النهائية إلى المركز الالكتروني وإلى فريق محاسبة خاص من العالمين بالساعة.
ـــ استعاض وزير المال عن نتائج الحسابات المالية النهائية ببيانات مقتضبة تعدّها وحدّة الـ UNDP في وزارة المال.
ـــ عمل وزير المالية على تفريغ مديرية الخزينة ومديرية المحاسبة العامة من الموظفين وأمّن الحماية للمقصّرين والمهملين من بين العاملين في المركز الالكتروني وفريق المحاسبة الخاص.
ـــ أعدّ محتسب المالية المركزي حسابات مهمة غير صحيحة عن السنوات 1993 ـــ2000.
ـــ لم يعدّ محتسب المالية المركزي حسابات مهمته عن الأعوام 2000 – 2010.
ـــ أهمل محتسب المالية المركزي متابعة تسجيل سلفات الخزينة والهبات ومعظم حسابات الغير في قيوده.
ـــ أهمل محتسب المالية المركزي متابعة تسديد سلفات الخزينة كما تقضي أحكام قانون المحاسبة العمومية.
ـــ لم تعدّ مديرية المحاسبة العامة في وزارة المال قطع حساب الموازنة عن عامي 1991 – 1992.
ـــ اهملت مديرية المحاسبة العامة ملاحقة محتسب المالية المركزي لإعداد حسابات مهتمه ضمن المهل.
ـــ أهملت مديرية المحاسبة العامة إعلام الرؤساء التسلسليين وديوان المحاسبة عن إهمال محتسب المالية المركزي.
إزاء هذا الوضع، لم يتمكن ديوان المحاسبة من إصدار اي بيانات مطابقة، واستعاض عنها بقرارات قضائية موقتة بشأن حسابات المهمة، وتوقف عن ملاحقة النقص الحاصل في حساب الصندوق وحساب الخزينة.
ورغم كل ذلك، كان مجلس النواب يلعب دوراً مكملاً لكل التجاوزات، فقد اكتفى بـ«الموافقة على الإعفاء من موجب إعداد الحسابات المالية النهائية (قطع حساب وحسابات مهمة) عن السنوات السابقة لسنة 1990، ووافق على موازنات الأعوام 1991، 1992، 1993، 1994 من دون تقديم الحسابات المالية النهائية للسنوات التي تسبقها، ووافق على قطع حساب موازنة عام 1993 رغم أنها ناقصة موازنة الاتصالات، ووافق أيضاً على قطع حسابات موازنات الاعوام 1993 – 2003 «مع التحفّظ بالنسبة لرقابة ديوان المحاسبة».
بعد ذلك، بدأت نتائج كل التجاوزات المذكورة تظهر تباعاً. ففي عام 2009 تبيّن أن هناك تجاوزات في الإنفاق عن الأعوام 2006، 2007، 2008، 2009، بقيمة 11 مليار دولار. أما قطوعات الحسابات فكانت مقرّة بلا تدقيق حتى عام 2003، فيما ردّ ديوان المحاسبة كل حسابات المهمة عن الأعوام 1993 – 2000 بسبب عدم وجود مستندات تثبت صحّتها. وفي مرحلة ثانية ردّ ديوان المحاسبة إلى وزارة المال كل الحسابات عن الأعوام 2001 – 2010 للسبب نفسه. وبما أنه لم يقر قطع الحساب، ولا حسابات المهمّة، فإن مجلس النواب لم يقرّ أي موازنة منذ عام 2005 إلى اليوم.
لاحقاً، في عام 2010، تبيّن أن إقرار هذه الحسابات هو أمر مستحيل بسبب فقدان المستندات التي تثبت صحّة إنفاق 250 ألف مليار ليرة. بقي سؤال واحد: كيف يمكن التأكد من أن هذه الحسابات غير قابلة للإبراء؟ يجيب الكتاب عن هذا السؤال من خلال وثيقة صادرة عن ديوان المحاسبة في عام 2012 بعنوان: «تقرير خاص موجّه إلى وزارة المال». يشير التقرير إلى أن «قطوعات حسابات الأعوام 2008، 2009، 2010، أرسلت إلى ديوان المحاسبة من دون حسابات مهمة محتسب المالية المركزي التي لم ترسل منذ عام 2001»، موضحاً أن مدير المحاسبة العامة «أشار في تقاريره المرفقة إلى كثير من الملاحظات والمخالفات في قطوعات الحسابات، ما يعني أن عملية التدقيق لم تنته».
ويضيف الديوان العديد من الملاحظات والمخالفات المرتكبة، ثم يتحدث عن بيانات غير صحيحة بالنسبة لقيود الهبات وهبات غير مسجّلة وقيم مالية غير صحيحة وتفاوت في القيود المؤقتة (…) ثم خلص إلى قرار يقضي بإعادة قطوعات الحسابات وأوصى بـ «وجوب تقيد وزارة المال بأحكام اقوانين والأتظمة قبل إيداع الديوان الحسابات سواء أكانت حسابات إدارية او حسابات مهمة».
انفجرت مسألة الحسابات في أكثر من مكان: مجلس الوزراء، ديوان المحاسبة، لجنة المال والموازنة. يومها كان النقاش حامياً بشأن قطع الحسابات والتجاوزات البالغة قيمتها 11 مليار دولار، فوضعت لجنة المال والموازنة في شباط 2010 منهجية جديدة للموازنة تتضمن مبادئ عديدة أبرزها «سنوية الموازنة أي أن الإنفاق يحتسب على أساس سنة واحدة وليس لسنوات عديدة، وشمولية الموازنة أي أن تتضمن كل إنفاق الدولة» يقول النائب ابراهيم كنعان. إلا أنه مع انفجار أزمة الحسابات وارتفاع منسوب الغموض فيها، تطوّر النقاش لم يلبث النقاش بشأن قطع الحسابات أن تطوّر إلى انفجار كبير دفع ديوان المحاسبة إلى إعادة قطوعات الحسابات إلى وزارة المال وعقد جلسة طائرة لمجلس الديوان يطلب فيه من وزارة المال المسارعة إلى إيداعه «قطع الحسابات عن السنوات الماضية بما قيها عن 2008 وحسابات المهمّة العائدة إلى الاعوام 2001 – 2008 لأنه يستحيل على الديوان من الناحيتين العملية والحسابية أن يدرس قطع حساب سنة معيّنة ويدقق فيه بمعزل عن حساب المهمة العائد إلى السنة عينها».
سريعاً، عاد النقاش إلى لجنة المال والموازنة التي كثفت عقد جلساتها لتبيان كل الوقائع المتصلة بالحسابات العامة. وقعدت اللجنة أكثر من 54 جلسة خلال شهرين استدعت خلالها وزراء مال حاليين وسابقين وحاكم مصرف لبنان وقضاة ديوان المحاسبة ومديرين من الفئة الأولى والثانية في وزارة المال. انتهت بلجنة تقصي حقائق ولجنة تحقيق برلمانية ينشر في الحلقات المقبلة بالتزامن مع فصول من كتاب «الإبراء المستحيل» بعض ما ورد في تقاريرهما وخلاصاتهما.
السنيورة هو المسؤول
استوقفني حديث لنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في ميلانو ــــ إيطاليا تحدث خلاله عن موجب تقديم الحساب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقدم المثال على موجب تقديم الحساب على كل إنسان من صاحب الدكان إلى إدارة الشركة، وتساءل عما إذا كان هناك من أحدٍ لا يقدم حساباً، فتذكرت بأن موجب تقديم الحساب ارتقى في لبنان إلى مرتبة الموجب الدستوري حيث نصت المادة 87 من الدستور على «أن حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة وسيوضع قانون خاص لتشكيل ديوان المحاسبات». وتذكرت أيضاً بأن هناك من يعتبر نفسه فوق الدستور وخارج نطاق موجب تقديم الحساب فيمتنع عن التقيد بهذا الموجب، لا بل يلجأ إلى تصفير الحسابات حيناً، ويدعو إلى تكرار عملية التصفير كلما جرت مطالبته بهذا الموجب، عنيت بذلك رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة والفريق السياسي الذي ينتمي إليه.
فقد تبين لي، بنتيجة الخبرة والتجربة المكتسبتين على مدى السنوات الثلاث المنصرمة، أن هذا الفريق السياسي قد لجأ إلى تصفير الحسابات في مطلع العام 1993، وقدم حسابات منقوصة عن السنوات من 1993 ولغاية 2003، وامتنع عن تقديم أي حساب منذ ذلك التاريخ، ولم يحترم أحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية في إعداد الموازنة وتقديمها إلى المجلس النيابي، وأنفق على أساس مشاريع موازنات لم تُقدَّم إلى المجلس النيابي، أو قُدِّمت بعد انتهاء السنة المالية، وتجاوز في الإنفاق العام خلال السنوات 2006 – 2009 وحتى ما قبلها، وخالف أحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية في تدوين الهبات والمساعدات النقدية المقدمة إلى الدولة، ومنح سلفات خزينة خلافاً لأحكام قانون المحاسبة العمومية، لا بل عاد ليطالب على لسان بعض نوابه بتصفير الحسابات مجدداً بنهاية العام 2010.
كما تبين لي بأن علة عدم الالتزام بموجب تقديم الحساب تكمن في موقعين: الإدارة السياسية لوزارة المالية، والإدارة المالية لهذه الوزارة.
فكانت مطالبتي بتغيير كل من هاتين الإدارتين لكي تنتظم شؤون المالية العامة في لبنان.
وقد تأكدت صحة ما ذهبت إليه إذ تغيرت الإدارة السياسية لوزارة المالية منذ حوالي السنة ونصف السنة من دون أن يقترن ذلك بأي تغيير على صعيد الالتزام بموجب تقديم حسابات سليمة وصحيحة تسمح بإجراء رقابة برلمانية فعالة وتحقق مبدأ التلازم ما بين الصلاحية والمسؤولية، والسبب في كل ذلك استمرار الإدارة المالية في وزارة المالية دون أن يطالها التغيير المنشود.
أمام هذا الواقع المرير الذي آلت إليه المالية العامة في لبنان وجدت نفسي أمام أمرين : إمّا إبقاء ما تبين لي خلال السنوات الثلاث الماضية، بعيداً عن علم الرأي العام، وأما إعلام الرأي العام ليكون على بيّنة مما جرى باسمه وعلى حسابه وضد مصلحته.
وقد تغلَّب الحسُّ بالمسؤولية تجاه الوطن والمواطن اللبناني الذي أولاني شرف تمثيله في البرلمان لأدافع عن مصالحه وأحاسب باسمه، وأشركه في المحاسبة عندما تتعذَّر طرق المحاسبة القضائية والبرلمانية، فكنت أعقد المؤتمرات الصحافية لإطلاع الرأي العام على بعض ما يتوفر لدي من معلومات ومخالفات، إلى أن تبين لي أن مناسبة تجديد ولاية المجلس النيابي هي الأفضل لأطلع الرأي العام اللبناني على ست عشرة قضية تتعلق بالمال العام لعلّه يحسن اختيار ممثليه في الندوة البرلمانية القادمة مما يسهِّل محاسبة ومساءلة كل من استباح المال العام وجعل الدستور والقانون مجرد وجهة نظر، فكان هذا الكتاب.
غير أنّ لبنانياً عتيقاً اقترح أن يُقَرِّب القضايا الست عشرة إلى المواطن العادي فلخَّصها في ست عشرة خبرية باللغة المحكيّة، كما اقترح أن يكتب الخاتمة باللغة ذاتها، فكان له ما أراد.
إن القضايا الست عشرة موثَّقة بالمستندات والبيِّنات والقرارات القضائية والنصوص القانونية التي لا يمكن ضمُّها إلى هذا الكتاب لأنّها تحوِّله إلى مجلّدات عديدة، إلا أنها جاهزة لإبرازها أمام المراجع المختصَّة عند الطلب.
وتدليلاً على ذلك سأكتفي بضمِّ المستندات التالية: تقرير ديوان المحاسبة الخاص بتاريخ 24 أيار 2012 بشأن الحسابات المالية العائدة للسنوات 2008-2009-2010. بيان مجلس ديوان المحاسبة بتاريخ 5 تشرين الأول 2010، قرار ديوان المحاسبة القضائي رقم 1 تاريخ 21 آب 1997 بشأن الحسابات المالية العائدة للسنوات 1991-1992-1993، قرار ديوان المحاسبة القضائي رقم 34 تاريخ 16 آذار 2009 بشأن مخالفة التيكوتاك، مذكَّرة النيابة العامّة لدى ديوان المحاسبة ذات الرقم 156/1660 الصادرة بتاريخ 20 تشرين الثاني 2008، قرار مجلس الوزراء رقم 76 تاريخ 9 أيلول 2004 المتعلق بتحويل جزء من الهبة الأوروبية. المرسوم رقم 13388 تاريخ 10 أيلول 2004 المتعلق بإعطاء سلفة خزينة إلى الهيئة العليا للإغاثة.
النائب ابراهيم كنعان
المحاسبة الكبرى
في عصرنا الحديث أصبح الرقم، الضرورة المطلقة في كلّ نشاط، أكان ذلك في الحياة الخاصّة أو في القطاع العامّ. فلو استثنينا الوجدانيّات لتبيّن لنا أن الحسابات المكوّنة من أرقام وأعداد هي المَعْلَم الذي يوجّه قراراتنا وأعمالنا فينظّمها ويبعدنا عن ارتكاب الأغلاط الجسيمة فيقينا شرّ مشاكل معقّدة نعجز عن إصلاحها في أغلب الأحيان.
ربّة المنزل بحاجة إلى حساب نفقاتها العائليّة كي لا تستهلك راتب زوجها قبل استحقاق الراتب التالي، لئلاّ تثقل كاهل العائلة بالديون فتتفاقم أوضاعها وتصبح فريسة الحاجة المتصاعدة.
أيضاً صاحب الدكّان الصغير، بحاجة إلى دفتر يسجّل فيه موارده ومصاريفه، كي يبقى مطّلعاً على وضعه الماليّ، ويحصي أرباحه أو خسائره، ليحدّد مساره نحو الربح أو لتجنّب خسارة متمادية، فيعدّل في سلوكه التجاريّ بما يقتضي لتصحيح أخطائه.
وكلّما كبرت المؤسّسات وزاد حجمها كلّما زادت أهمّيّة الحسابات فيها، فتقدّر مواردها وتحدّد نفقاتها وقواعد صرفها ومراقبتها وأصول إعدادها ومهل تقديمها وإلاّ فقدت قيمتها ومبرّرات وجودها. وإن كان هذا حال الأفراد والمؤسّسات الخاصّة في الالتزام بموجب تقديم الحساب، فكيف بالحري الحكومة التي تدير ماليّة الدولة بكاملها وتراقب جميع المؤسّسات الخاصّة والعامّة وتفرض تطبيق القوانين والأنظمة؟ وهنا نطرح التساؤل عمّا يحدث في الدولة إذا تفلّتت الحكومة من احترام ضوابطها وتمنّع البرلمان عن مراقبتها ومحاسبتها وخصوصاً عندما يتعلّق الموضوع بإدارة المال العامّ .
لقد شملت المخالفات جميع الموادّ الدستوريّة والقوانين والقواعد المُلزم احترامها من قبل الحكومة ونامت نواطير مجلس النوّاب فأسقطت مراقبة أعمال الحكومة ومحاسبتها، وأهملت إبراء ذمّتها بالتحصيل والإنفاق؛ فغطّى صمت النوّاب جميع المخالفات وتصدّر أبطال الفضائح المجتمع السياسيّ، فكانوا أبلغ المتكلّمين عن العفّة.
لن أسهب في الكتابة عن الموادّ القانونيّة التي تطبَّق في مثل هذه الحالات فالعمل يعود إلى القضاة الذين سيتولّون التحقيق. وتبقى النتائج التي ترتّبت على هذا التصرّف والتي سيتحمّل مفاعيلها أولادنا وأحفادنا، فكلّ مولودٍ جديد يأتي إلى لبنان يجب أن يفتح له أبوه حساباً بالأحمر قيمته على الأقلّ خمسة عشر ألف دولار أميركيّ .
وما يتحمّله المواطنون من نفقات إضافيّة، نتيجة إهمال متمادٍ للحكومات المتعاقبة في إنتاج الطاقة وتطوير شبكات المياه وبناء السدود، يفوق سنويّاً السبعة مليارات دولار ممّا يحمّل كلّ فرد ألف وثمانمائة دولار أميركيّ. وهنا يجب التوقّف عند هذا الواقع المرير في إدارة المال العامّ وتوظيفه في المشاريع غير المنتجة وتبديد القسم الأكبر منه، هذا ما يشرحه مضمون الكتاب.
انطلاقاً ممّا تقدّم يجب أن تنظّم حسابات ماليّة تبيّن أوجه هذا الإنفاق وصحّته وهل تمّ في سبيل المصلحة العامّة؛ وهذا الأمر يستوجب إصلاحاً جذريّاً فوريّاً في مسك حسابات الدولة واحترام المبادئ الأساسيّة. فحجم الأخطاء المرتكبة وطبيعتها لا يمكن أن يكونا صدفة، وللخروج من هذه الحال يجب الكفّ عن ارتكاب المخالفات الجسيمة.
إنّ المخالفات الجسيمة المرتكبة توجب محاكمة من تثبت إدانته من السياسيّين والمسؤولين والموظّفين عن إساءة استعمال المال العامّ وعن سوء إدارته.
ويجب أن يطال التغيير في وزارة الماليّة إدارتيها السياسيّة والماليّة العاجزتين عن حسن إدارة المال العامّ، والمقصّرتين عن التزام أحكام الدستور والقانون التي ترعى الإنفاق العامّ، وإعداد الحسابات الماليّة السليمة.
وكذلك، يجب علينا إرساء ثقافة المراقبة والمحاسبة والشفّافيّة في تعاطي المال العامّ، والمحاسبة في المجلس النيابيّ وأمام المراجع القضائيّة المختصّة.
أمّا المحاسبة الكبرى فهي من قبل الشعب اللبنانيّ في صناديق الاقتراع...
العماد ميشال عون