كانت رسالة أوباما بشكل عام هي أن هناك أمورا أخرى مهمة إلى جانب شغل الجمهوريين الشاغل المتمثل في خفض العجز في الموازنة العامة
استغل الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابه عن حالة الاتحاد ليل الثلاثاء في محاولة تجاوز المعارك المالية التي هيمنت على فترة ولايته الأولى ومازالت تهدد فترة ولايته الثانية ووضع جدول أعمال يأمل أن يترك به بصمة. كانت رسالة أوباما بشكل عام هي أن هناك أمورا أخرى مهمة إلى جانب شغل الجمهوريين الشاغل المتمثل في خفض العجز في الموازنة العامة، وذلك قبل ثلاثة أسابيع فقط من احتمال حدوث خفض تلقائي للانفاق على مستوى البلاد.
قال أوباما للكونغرس إن هذه الأمور الأخرى تشكل بعض القضايا التي عادة ما يهتم بها الليبراليون مثل رفع الحد الأدنى للأجور، ومتابعة مبادرات حماية البيئة، وأمورا حظيت بدعم الحزبين مثل إصلاح قوانين الهجرة والحد من العنف المسلح.
وقال أوباما 'اغلبنا متفق على ان جدول أعمالنا يجب أن يتضمن خطة لخفض العجز... لكن لنكن واضحين: خفض العجز وحده لا يمثل خطة اقتصادية'.
لكن مع الانقسام الحاد الذي تشهده واشنطن بدا من المستبعد ان يحقق خطاب أوباما الكثير فيما يتعلق بمساعدة الرئيس الديمقراطي ومعارضيه الجمهوريين على إيجاد أرضية مشتركة للتخفيف من حدة الخلافات الفكرية بين الطرفين. فهو لم يعرض تنازلات جديدة ملموسة من جانبه. غير أن احساسه بحرج الموقف والاحباط كان ظاهرا. فقد انتقل مرارا بين ملاطفة المشرعين وتقريعهم، بينما كان يستعرض بالتفصيل رؤيته لإدارة أكثر سعيا للإصلاح في نغمة يكرهها المحافظون وميزت خطاب تنصيبه لفترة ولايته الثانية يوم 21 كانون الثاني/يناير الماضي.
وحث أوباما الجمهوريين على حل الخلافات المتعلقة بالميزانية والأوضاع المالية بدون اللجوء لإثارة المشاعر قائلا 'الشعب الأمريكي لا يتوقع من الحكومة أن تحل كل المشاكل. إنه لا يتوقع من الموجودين في هذه القاعة أن يتفقوا على كل الأمور. لكنه يتوقع منا أن نضع مصلحة الأمة قبل مصلحة الحزب'. ويدرك اوباما أن الوقت يمضي سريعا. وهو لم يتمكن من تحقيق وعده في فترة ولايته الأولى بأن يكون رئيسا قادرا على إحداث تحول في البلاد وتجاوز المصالح الحزبية فيما يرجع جزئيا إلى الصراعات المتعلقة بالميزانية.
ويجمع المراقبون في واشنطن على أن أمامه فرصة محدودة ربما لا تمتد أكثر من عام ونصف العام للاستفادة من ارتباك الجمهوريين بعد الانتخابات والدفع بأولوياته في الكونغرس قبل ان يجد نفسه في مأزق.
وبعد ثلاثة أسابيع فقط من تحدثه عن فلسفة ليبرالية واضحة في خطاب تنصيبه استخدم اوباما خطاب حالة الاتحاد في البدء في تحديد أولويات أهدافه خلال فترة ولايته الثانية. أوضح أن توفير فرص العمل ودعم الطبقة المتوسطة سيتصدران قائمة أولوياته، لكنه أولى اهتماما لإصلاح قواعد الهجرة والحد من العنف المسلح اللذين انتقلا لمواقع متقدمة في قائمة أولوياته في مستهل فترة ولايته الثانية.
وبدا أن تأكيده مجددا على القضايا الاقتصادية التي هيمنت على حملته في عام 2012 يعكس وجهة النظر القائلة بأن تحقيق مبادرات أخرى من شأنها ترك بصمة سيعتمد على أسلوب تعامله مع القضايا الاقتصادية التي لم تستكمل في فترة ولايته الأولى.
والعديد من الخطط الاقتصادية التي عرضها في خطاب حالة الاتحاد مألوفة، ومنها مقترحات رفضها الجمهوريون من قبل مثل تخصيص تمويل جديد لتحديث البنية الأساسية وتعزيز الانتاج الصناعي وخلق فرص عمل في قطاع الانشاءات والعمل على تخفيف الاعباء عن كاهل أصحاب قروض الإسكان.
وهناك ما يكفي من الاسباب للشك في ان هذ المبادرات - حتى وإن أعيدت صياغتها- ستحظى بتأييد أكبر داخل الكونغرس الذي مازال منقسما وحيث يهيمن الجمهوريون على مجلس النواب ومن المتوقع أن يعارضوا أي انفاق جديد يقترحه أوباما.
لكن أكثر ما يتوقع أن يعترض عليه الجمهوريون قد يكون دعوة أوباما لزيادة الحد الأدنى للأجور إلى تسعة دولارات للساعة، وهي فكرة ليبرالية في الأساس وكذلك مطلبه أن ينتهج الكونغرس 'حلا يعتمد على اقتصاديات السوق' للتغير المناخي مع تحذير يفيد إنه إذا لم يتخذ المشرعون إجراء قريبا 'فسأفعل أنا هذا'.
فقد إقترح اوباما رفع الحد الادنى للاجور بأكثر من 20 بالمئة وإستثمار 50 مليار دولار على تشييد وتحسين الطرق والجسور وإنفاق 15 مليار دولار على برنامج للوظائف بقطاع التشييد في مسعى لتعزيز النمو الاقتصادي.
كما حث الكونغرس على دعم خطته التي ستشمل اصلاحات للضرائب والتعليم تعتقد إدارته انها ستساعد في اجتذاب المصنعين للعودة الي الولايات المتحدة. وقال مسؤولون كبار بالادارة الامريكية للصحافيين ان الحد الادنى للاجور سيرفع دخول 15 مليون امريكي وسيجري تنفيذه على مراحل مشيرين الي ان عددا متزايدا من رؤساء الشركات يؤيدون مثل هذه الخطوة. وقال المسؤولون ان دراسات اقتصادية تظهر ان زيادة الحد الادنى للاجور عامل فعال في خفض الفقر مع تقليل التكاليف على الشركات.
وفيما يتعلق بالبيئة والتغير المناخي قال اوباما 'في حال لم يسن الكونغرس سريعا القوانين لحماية الاجيال المقبلة' من التغيير المناخي 'سوف اقوم بذلك'. واضاف 'سوف اعطي الاوامر لمكتبي ليرفع لي نصوصا بامكاننا اقرارها الان وفي المستقبل من اجل تقليص التلوث واعداد شعبنا بالتالي لنتائج التغيير المناخي وتسريع الانتقال نحو مزيد من مصادر الطاقة المتجددة'.
واوضح 'قبل اربع سنوات، هيمنت دول اخرى على سوق الطاقة النظيفة وخلقت وظائف تتلائم معها. بدأنا نغير هذا الامر. العام الماضي، مثلت الطاقة البديلة حوالى نصف القدرات الجديدة لانتاج الكهرباء في اميركا. اذن فلننتج المزيد منها. اصبحت الطاقة الشمسية سوقا افضل هذا العام، اذن فلنخفض المزيد من التكاليف'.
وقال ايضا 'عندما تواصل دول مثل الصين تطوير الطاقات النظيفة، فيجب ان نتوجه اليها ايضا'. وبالنسبة للنفط، وخصوصا الغاز، اكد اوباما ان حكومته 'سوف تسرع اعطاء رخص جديدة'. ولكنه قال ايضا انه يريد 'العمل مع الكونغرس من اجل تشجيع البحث والتكنولوجيا لمساعدة الغاز على الاحتراق بطريق انظف وحماية هوائنا ومائنا'.واقترح تخصيص قسم من العائدات النفطية لصندوق امن الطاقة كي تتيح الابحاث والتكنولوجيا للسيارات والشاحنات تخفيف تبعيتها للنفط.
وحدد الرئيس الاميركي اخيرا 'هدفا جديدا لاميركا تخفيض نصف الطاقة التي نصرفها في منازلنا وشركاتنا خلال السنوات العشرين المقبلة'. من جهة ثانية من المتوقع أن يعارض الجمهوريون دعوة أوباما لبرنامج لتوسيع نطاق التعليم التمهيدي السابق لمرحلة التعليم الأساسي بحيث يشمل أبناء الاسر محدودة الدخل. وليس هناك شك في أن الرئيس يعلم أن العديد من هذه المقترحات خاصة التي تحتاج لانفاق قد تلقى رفضا بالكونغرس فور عرضها عليه. لكنه ربما يعول على اتهام الجمهوريين بالتعطيل في انتخابات التجديد النصفي المقررة في 2014 -كما فعل بنجاح نسبي في حملته عام 2012- بينما يسعى الديمقراطيون لاستعادة السيطرة على مجلس النواب.
ويظل أوباما على خلاف مع الجمهوريين بشأن الميزانية والضرائب ولم يطرح خطابه أي مبادرة لحل هذا الخلاف حتى مع اقتراب الموعد المقرر في الأول من آذار/مارس لإحداث خفض حاد في الانفاق على مستوى البلاد بشكل تلقائي ما لم يتم التوصل لاتفاق. وسيعقب ذلك خلاف منتظر يوم 27 آذار بشأن استمرار تمويل الحكومة. وفي حين يهيب أوباما بالجمهوريين أن يعملوا معه للتوصل إلى اتفاق بشأن عجز الميزانية، ويقر بالحاجة إلى 'إصلاحات متواضعة' في برامج مثل برنامج الرعاية الصحية (مديكير)، فإنه يتمسك بمطلبه بالتخلص من ثغرات في قانون الضرائب تتيح للأثرياء المراوغة وهو أمر يعارضه العديد من الجمهوريين.
لكنه ضغط بشدة على الجمهوريين الذين تمكن من التفوق عليهم في مواجهات مالية سابقة لكي يتعاملوا بشكل ينم عن المسؤولية في فترة الولاية الثانية. وقال 'أكبر أمة على وجه الأرض لا يمكن أن تستمر في إدارة أعمالها وهي تنجرف في أزمات مصطنعة الواحدة تلو الأخرى'. لكن الجمهوريين لم يبدوا اي بادرة تنازل فيما يتعلق بخفض الانفاق. وقال الجمهوري جون بينر رئيس مجلس النواب أمس 'الرئيس كانت أمامه فرصة هذه الليلة ليعرض حلا لكنه أضاعها... لا تفصلنا سوى اسابيع عن العواقب الوخيمة المترتبة على خفض الانفاق التلقائي والرئيس فشل في تقديم مقترحات الخفض المطلوبة بدلا من ذلك'.
وعلى الرغم من التوترات المتغلغلة بدا أوباما أقل ميلا للصدام مع الجمهوريين مما كان عليه في مناسبات علنية سابقة منذ فوزه في انتخابات الرئاسة على المرشح الجمهوري مات رومني. لكن بعض المحللين السياسيين حذروا من أن أوباما يواجه خطر وضع سياسات كثيرة غير قابلة للتنفيذ الفعلي وهو خطأ شائع في فترات الرئاسة الثانية. فمسعى الرئيس السابق الجمهوري جورج بوش الإبن لإصلاح نظام التأمينات الاجتماعية لم يحظ بقبول الرأي العام ولم يحرز أي تقدم.
وقال كوستاس باناغوبولوس استاذ العلوم السياسية بجامعة فوردهام في نيويورك 'المشكلة في طرح كل هذه المقترحات هي ان الأمر سيؤخذ باعتباره مبالغا فيه وستعرض عنها الجماهير وستنتهي بعض المبادرات قبل ان تبدأ'. وكما كان متوقعا أعلن اوباما في خطابه بدء محادثات للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي المؤلف من 27 دولة. كما اعرب اوباما عن امله في انهاء المفاوضات التي اطلقت في 2004 حول اقامة منطقة تبادل حر اخرى هي اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية للمحيط الهادئ والتي تشمل خصوصا الولايات المتحدة واستراليا وتشيلي والبيرو.