حركة التّديّن في الإجتماع الإنساني تواجه جملة من الأزمات والتّحدّيات" كأزمة الرّياء وانجرار الخطاب الدّيني إلى تسويق قضايا الخلاف السّياسي، وقصور المرجعيّات الرّوحيّة بدورها في المحافظة على سلام العالم.
أطلقت الأمم المتحدة مناسبة "الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان" وربما هي لا تقصد ضمنياً الإضاءة على حروب دينية تاريخية عاشتها الإنسانية، بالأخص في أوروبا استمرت قروناً من الزمن، لأخذ العبرة والدروس منها في ظل ما يحدث راهناً في المنطقة العربية من ظاهرة تكفير دينية وقتل باسم الدين .. في مفاربة لافتة ومهمة عقدت مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر والمركز الإسلامي الثّقافي الإسلامي ندوة حوارية تحت عنوان: "الأديان سبب للصراعات أم خلاص للبشريّة؟"، ألقيت فيها ثلاث مداخلات تعد بحق من أهم ما تم طرحه حول هذه الإشكالية التاريخية.
كلمة مدير مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر، الذي أدار الندوة، الدكتور السّيّد نجيب نور الدّين، كانت بحد ذاتها مداخلة أساسية مهدت الحديث عن الإشكالية حين طرح تساؤلات عن سر الصراع بين الأديان في حين أن الرب واحد،"فلم هذه الحروب ولم تسال كل هذه الدماء باسم الله.. وبسذاجة نسأل هل الحوار مرتجى حقاً بين الأديان أم أن الحقيقة تحتاج إلى وئام بين من يدعون الوصاية على الأديان؟". وقال إن الحاجة تكمن في أن يتحاور من يدّعي الوصايا على الأديان حوارٌ "يحرّر الله من سجن المتدينين، ويحرر الأديان من أسر القابضين على روحها"، مؤكداً أنَّ الحوار يجب أن يتركّز على "الكيفية التي نعيد من خلالها موقع الدين في عقولنا وقلوبنا وعقائدنا ورسالتنا، وهو مصدر الحبّ والعدل واللّطف والرّحمة". ولفت الدكتور نور الدين في ختام مقدمته إلى تساؤل مهم بقوله "ألسنا ما نقوم به نحن البشر يعاكس مشيئة الله ومحبته لعباده؟.. حين نقرر نحن من يحيه الله ومن يكرهه الله!!"..
العلامة الشيخ حسين شحادة : استغلال الدين لخوض حروب السلطات السياسية
المداخلة الأولى كانت لمدير ملتقى حوار الأديان والثقافات العلامة الشيخ حسين شحادي، التي حملت وعياً عميقاً بالكشف عن وجه الصراع الحقيقي بين الشرق والغرب، بأنه أبداً لم يكن حروباً دينية، في إشارة الحروب الصليبية مثلا، بل هي حروب مغلفة باسم الدين ، ولم يكن الصراع في التاريخ الإسلامي بين المذاهب بل هو بين الحركات والتيارات السياسية الإسلامية. ورأى العلامة شحادة أنَّ "حركة التّديّن في الإجتماع الإنساني تواجه جملة من الأزمات والتّحدّيات" كأزمة الرّياء وانجرار الخطاب الدّيني إلى تسويق قضايا الخلاف السّياسي، وقصور المرجعيّات الرّوحيّة بدورها في المحافظة على سلام العالم. ورأى فضيلته أنَّ "المرتجى من حوار الأديان والثقافات أن تؤسّس لثقافة نقد الذّات في زمن النّزعات الإقصائية والتّعالي على الآخر"، مؤكّداً على ضرورة "المراجعة النّقديّة الشّاملة للتّديّن السّياسي والتّديّن الأعمى الغارق في ظلمات فصل الدّين عن الأخلاق"، كما مراجعة ظاهرة العنف. وختم العلامة شحادي:"مشروعنا هو العمل على محو الأميّة الدّينيّة والإنتقال بالحوار الدّيني إلى حوارٍ موضوعه القيم والتّنمية والإنسان".
وعدد العلامة الشيخ حسين شحادة الأزمات التي تقف عائقا ليكون هناك وئام بين الأديان : أولا أزمة الحوار والتي تتجلى بانجرار الخطاب الديني إلى رؤية السياسي الحاكم، والثانية أزمة قصور المرجعيات الروحية عن القيام بدوره في العالم بتركها إدارة العالم للقوى والحركات السياسية. وثالثا ازمة التسامح الديني في علاقة المؤمنين أنفسهم في الدين الواحد، ورابعا أزمة الرؤى الخلاصية في حدود التفسير المذهبي للدين برؤية عصبية متشددة، وخامسا أزمة الفصل بين الرؤية الالهية للإنسان وبين تشويه النصوص المفسرة لهذه الرؤية.
الدكتور الأب ضو: البعد الأخروي في الإيمان هو الأمل للأديان لتكون خلاصنا
مداخلة الأب الدكتور فادي ضو مدير مؤسّسة أديان ، لم تقل أهمية عن غيرها، فقد أقام موازنة مدهشة بين الأسباب التي تجعل الدين سبباً للحروب والصراعات أو سببا لخلاص البشرية وذلك في إزدواجية قائمة على ميول الإنسان نفسه، وإرادته في كيفية استخدام الدين. وأما أن تكون سبباً للصراعات، فذلك –حسب رؤيته- ناتجٌ عن اعتماد الأديان المواقف التّكفيريّة، وعن الموقف الجماعوي، أو الأخروي، الّذي يعد أنَّ الدّين صاحب رسالة تتحقق بكاملها على الأرض، كذلك بسبب الإستغراق في الموقف السلطوي والنّفعي من خلال تواطؤ السّلطة الدّينيّة مع السّلطة السّياسيّة. بينما تكون الأديان سبباً للخلاص عندما يجمع الدّين بين العناية بجماعته والعناية بالإنسان، عندما يقدّم شهادةً للقيم، وعندما يساعد في تحوّل المؤمنين من رعايا تتحكّم بهم المؤسّسة الدّينيَّة إلى شهود. والنتيجة التي خلص إليها الأب ضو في معرض كلمته انه لا يمكننا أن نفهم الدين حتى لو اعتبرناه واحدا الإ إذا اعترفنا بالتعددية الدينية وهذا يقودنا إلى التمييز بين الدين بصفته حقيقة إلهية وبين أن هنالك أديان على قياس البشر.
الأب ضو لموقع المنار : ما يحدث اليوم من تكفير شبيه بأوروبا منذ ثلاثة قرون
وألفت الأب ضو إلى أن المسيحية في بعض مراحلها التاريخية وقعت في مازق التكفير ومرت بما سمي أنذاك بمحاكم التفتيش وكانت تحكم بالإعدام والحرق على كل من كان يخالفها الرأي والمعتقد. وفي هذا الجانب طرح موقع المنار الالكتروني على الأب ضو السؤال "أنه ما دام يمكن للإنسان أن يحول الدين سبباً للوئام والسلام والتلاقي وسببا للصراع والحروب، وربط بدورك البعد الأخروي من رؤية الدين الذي يجعل الإنسان المؤمن أن يعيش الإيمان الحقيقي بجوهرها الذي هو بأصله يمكّن من التلاقي مع الأخر فكيف يمكن أن يتحقق هذا الشرط الذي هو بعيد عن عامة الناس؟ ". فرأى الأب ضو أن :" هذا الشرط مرتبط بالتعليم الديني والتربية الدينية التي هي سائدة في المجتمع وهنا مسؤولية المؤسسات الدينية والروحية كبيرة جداً. فإذا ربينا الناس على البعد الأخروي للإيمان والحياة والقيم يمكن عندها أن يتحقق لهم السلام الداخلي لينعكس بدروه على السلام الخارجي بين أفراد المجتمع على اختلاف أيمانهم ودينهم، ويبتعدون عن كل ما يسبب الصراع والخلاف الذي هو مرتبط بالمصالح والسلطة.
وتابع وفق رأيه " أن الدين في هذا المعيار أبعد ما يكون عن التسلط على رقاب الناس ونمط حياتهم". وحول التشابه في الظروف التاريخية بين ظاهرة التكفير التي عاشتها الكنيسة الأوروبية وبين ما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط، رأى الأب ضو أن " ان بعض المؤرخين يقولون إن هناك تشابها كبيرا بين الظاهرتين التي حدثت في اوروبا، منذ ثلاثة قرون، والتي تحدث اليوم في بلداننا العربية، ولا أرجو ذلك لأن ذلك أدى إلى حروب دامية في أوروبا ودفع بالناس أن يخرجوا الدين نهائيا من حياتهم، فأمل أن يكون هناك من النخب والعاملين والمسؤولين بين العلماء ورجال الدين الوعي الكافي لكي نستبق هذه الأحداث ونذهب مباشرة إلى النتيجة وهي تقبل الأخر والعيش معاً رغم الاختلاف.
القاضي محمد النقري : سوء فهم النصوص القرأنية يسيء للدين
الكلمة الأخيرة كانت لقاضي شرع بيروت الشّيخ محمّد النّقري الّذي رأى أنَّ الأديان تمثّل خلاصاً للبشريّة من خلال العلم والتّوعية ويقظة الضّمير وبإشاعة المحبّة بين جميع النّاس، واجتزاز الخطاب الدّيني التكفيري من أصوله. وقد أشار القاضي الشّيخ إلى أنَّ "الفهم الملتوي والمنحرف لمفهوم الأولويات الدّينيّة هو سبب من الأسباب الرّئيسيّة التي جعلت من الدّين مادّة للصّراع والتّناحر بين البشر"، وقال:" يجب فهم النّصوص الدّينيّة كافّة بدون استثناء على أنّها أوحي بها من ربٍّ رحيم مشفق محبّ عادل يريد بها سعادة النّاس جميعاً من خلال دعوتهم إلى الإلتقاء والتحابب والتّعارف فيما بينهم ونبذ التّعصّب والتّقاتل.
أقيمت الندوة في قاعة المحاضرات في المركز الإسلامي الثقافي، بحضورٍ عددٍ من المفكرين والممثقفين والصحفيين وعلماء مسلمين.
تصوير : زينب الطحان - محمد عمرو