إذا كانت حياة زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن مثيرة للجدل الى أقصى الحدود فإن موته، سواء في طريقته أو تداعياته، لن يكون أقل إثارة للجدل.
كتب عماد في صحيفة السفير في عددها الصادر في 3-5-2011:
إذا كانت حياة زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن مثيرة للجدل الى أقصى الحدود فإن موته، سواء في طريقته أو تداعياته، لن يكون أقل إثارة للجدل.
بعد سنوات من الكرّ والفرّ سقط الرجل بالضربة الأميركية القاضية في باكستان، مخلّفا وراءه مشاعر متفاوتة، تراوحت بين ذروة السعادة لدى الغرب وإسرائيل ومعظم الأنظمة العربية، وذروة الحزن في أوساط «قاعدة» بن لادن وجمهوره في العالمين العربي والإسلامي وصولا إلى العديد من الحركات السلفية والأصولية التي انبثقت «جينيا» عن خطه الفكري، أو تلك التي كان يحتضنها بـ«التبني»، وإن كانت لا تنتمي «بيولوجيا» إلى تنظيم «القاعدة».
لم يكن هناك من مجال أمام الحلول العاطفية الوسط في التعامل مع عملية قتل بن لادن، وكما انقسم العالم في حياته بين من هو معه ومن هو ضده، هكذا كانت طبيعة الانقسام حول مماته. وفي كل الحالات، وسواء كنت من محبي الرجل أو كارهيه، فإن الأكيد أنه شكل حالة استثنائية ومركبة، تحتاج إلى التفكيك بعناية وتدقيق بعمق، قبل إصدار حكم نهائي عليها.
ليس خافيا أن جزءا كبيرا من كاريزما بن لادن في العالمين العربي والإسلامي إنما هي مستمدة بالدرجة الأولى من عدائه الشديد للولايات المتحدة وشجاعته في محاربتها، ولكن امتناعه عن مواجهة إسرائيل وخلو سجلات «القاعدة» من أي عملية ضدها أثارا العديد من علامات الاستفهام حول سبب عدم ضم العدو الأخطر إلى «بنك الأهداف» للتنظيم الذي يملك فروعا في قارات أربع، برغم أن قضية احتلال فلسطين هي القضية المركزية، وما تبقى هو الفرع وليس الأصل.
إشكالية أخرى، أرخت بظلالها على تجربة بن لادن، وتمثلت في رؤيته الفقهية التي كانت تقوم على أساس فرز مذهبي حاد، يُفترض أنه يتناقض بشكل جذري مع متطلبات الحرب على أميركا. إذ بدل أن تكون الأولوية هي لتحسين شروط خوض هذه الحرب من خلال تجاوز التناقضات الثانوية لصالح توسع جبهة الحلفاء على قاعدة التناقض الأساسي، لم يتردد بن لادن خلال عز «فتوحاته» في التصويب على مجموعات إسلامية معادية للولايات المتحدة وإسرائيل، ولكنها تختلف فقهيا أو مذهبيا مع «القاعدة»، كما حصل على سبيل المثال لا الحصر حين هاجم تأييد حزب الله للقرار 1701 وقبوله بوجود القوات الدولية في جنوب لبنان، قافزاً فوق الانتصار الذي تحقق في مواجهة عدوان تموز 2006، أو كما جرى عندما انتقد قبول حركة «حماس» بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية، من دون أن يتوقف كثيراً عند مساهمتها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين.
ولئن كانت مبارزات بن لادن مع «الكاوبوي» الأميركي في ساحات عدة، قد أثارت إعجاب الغاضبين على واشنطن والناقمين على سياستها، حتى لو لم يكونوا من المتطرفين دينياً، إلا أن هؤلاء لا يغفلون في معرض المراجعة أن الولايات المتحدة وجدت في هجمات «القاعدة»، وخاصة هجمات أيلول 2001 ذريعة ذهبية لشن حملة عسكرية استعمارية على الشرق الأوسط، قادتها أولا إلى أفغانستان ثم العراق، ما يبرر من وجهة نظرهم اتهام بن لادن بالقصور في المقاربات الاستراتيجية، فيما ذهب آخرون إلى حد الكلام عن دور أشد تعقيداً له، يصل إلى حد الافتراض بأنه خدم مصالح الولايات المتحدة أكثر مما أساء إليها.
لكن بن لادن يظل في عيون أنصاره ومحبيه رمزاً لمقاومة الطغيان الأميركي، في عقر البيت الأبيض حيث لا يجرؤ الآخرون، والملاحظات على تكتيكاته يجب ألا تخفي، وفق قراءتهم، الجوهر الرئيسي الكامن في أن زعيم «القاعدة» ضرب كبرياء الولايات المتحدة في الصميم من خلال عملية 11 أيلول الشهيرة التي حطمت برجي نيويورك العملاقين وأصابت مبنى البنتاغون، والأهم أنها زعزعت هيبة القوة الأعظم في العالم، قبل أن يمرغ لاحقا وجهها في الوحل الأفغاني ثم العراقي.
كيف تلقى إسلاميو لبنان خبر مقتل بن لادن؟
ترك موت زعيم «القاعدة» وقع مدوياً في الأوساط الأصولية والسلفية على الساحة الإسلامية في لبنان، وبدا أن مناخا من التأثر والتعاطف ساد صفوفها، في أعقاب انتشار نبأ تصفيته.
وتؤكد شخصية أصولية بارزة في لبنان، «إنه يوم كئيب»، مشيرة إلى إنها حزنت لـ«استشهاد بن لادن»، إذ يكفي برأيها أن يكون مقتله قد أفرح أميركا وإسرائيل، حتى يصبح ذلك مدعاة للأسى والألم لدى أعدائهما.
وإذ تلفت تلك الشخصية الانتباه إلى أن لديها العديد من الملاحظات الجوهرية على سلوك بن لادن وخياراته، تشير إلى وجوب الاعتراف في الوقت ذاته بأنه كان صاحب شكيمة قوية ومخلصا لأفكاره ودينه، وأنه استبدل عن سابق تصور وتصميم الحياة الرغيدة بشظف العيش في الأدغال، دفاعا عن قناعاته وتبشيراً بها.
وتعتقد الشخصية الأصولية نفسها أنه ما دام جرح فلسطين المحتلة نازفا، فإن العشرات من «أسامة بن لادن» سيظهرون تباعاً، وإذا كان الأميركيون قد قتلوا واحداً منهم اليوم فإن غيره سيولد غداً، بالتالي فهم لن يشعروا بالاستقرار والأمان، إن أصروا على الاستمرار في التعامل مع نتائج الكره لهم، ولم يعالجوا الأسباب التي تفرز مشاعر الغضب وأعمال العنف ضدهم، والتي يمكن اختصارها بانحيازهم التام إلى جانب إسرائيل وعدائهم لحقوق الفلسطينيين ومعاندتهم لتطلعات الشعوب العربية.
وترى هذه الشخصية أن بن لادن، وبرغم تطرف بعض طروحاته، إلا أن ورثته المحتملين قد يكونون أخطر منه، باعتبارهم يملكون رؤى سياسية وفقهية تتجاوز في حدتها وتشددها ما ذهب إليه زعيم «القاعدة»، ولعل أبو مصعب الزرقاوي الذي قتل في العراق يرمز إلى هذا المنحى في التفكير.
ولا تتوقع الشخصية الأصولية انهيار «القاعدة» وأخواتها بعد مقتل قائدها، لافتة الانتباه إلى أن بن لادن توقف عن الإدارة الميدانية للخلايا المسلحة منذ وقت طويل بفعل الظروف التي تحيط به، ما جعل دوره يقتصر إلى حد كبير على الجانب الإيحائي والفكري، ولذلك فإن فعالية الخلايا قد لا تتأثر كثيراً على الصعيد العملاني، والأرجح أنها ستواصل عملها انطلاقا من قاعدة «اللامركزية» التي تعتمدها.
وتوضح الشخصية نفسها أن مآخذها على تجربة بن لادن تتلخص بأمرين:
الأول، يتصل برؤيته السياسية المشوشة والتي أوهمته بأنه يحارب «الصليبية العالمية»، في حين أن هذا المفهوم ليس دقيقا، والأصح أن الحرب هي مع الصهيونية العالمية بامتداداتها المختلفة. وهكذا، قاده سوء التشخيص إلى توسيع بيكار معركته وفتح جبهات عدة، في وقت واحد، ما أدى إلى بعثرة طاقته وإكثار أعدائه من دون طائل، علماً أن دولاً مثل فرنسا وروسيا والفاتيكان على سبيل المثال كانت ضد الغزو الأميركي للعراق، وكان يمكن تحييدها في ذاك الظرف، بدلا من وضع العالم كله، من أميركا إلى الأنظمة العربية مررواً بأوروبا وحتى بعض الحركات الإسلامية، في سلة واحدة.
والمأخذ الثاني، وفق قراءة الأصولية اللبنانية، يتعلق بنظرة بن لادن الفقهية الضيقة والتي كانت تلغي الآخر المختلف عنه أو معه في الاجتهاد، وهذه الغشاوة جعلته يتجاهل انتصار المقاومة عام 2006، حيث لم يميّز بينه وبين خلافه المذهبي مع «حزب الله»، وحتى حركة «حماس» التي يُفترض أن تكون أقرب إليه لجهة الانتماء الديني لم تنجُ من انتقاداته أحيانا نتيجة اعتراضه على انخراطها في آليات السلطة الفلسطينية، من دون أن يعير اهتماما كبيراً لدورها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.