عاد شهيداً مضرجاً بدمائه، وحوله مسلّحون سارعوا إلى التجارة بدمه وهم يتهمون النظام السوري بقصف سيارته بقذيفة في حي العسالي في دمشق، ويصوّرون بطاقته الشخصية ويوصون بعضهم بحفظها لتسليمه لابنه
لن تضع الحرب السورية أوزارها، إلا بعد أن يغتالوا آخر ما تبقى من أشياء جميلة في ذاكرة شعب ووطن. دقائق قليلة بثت أمس على يوتيوب كانت كفيلة بإعادة أيقونة الكوميديا السورية ياسين بقوش (1938ـــ 2013) إلى الواجهة. لكنه لم يعد ليضحك الوطن العربي بسبب مقالب غوار الطوشة، أو لـ«سحسوحة» يتلقاها من أبو عنتر. هذه المرة، الجمهور هو من «أكل الضرب» وتلقى الصفعة! عاد ياسينو على غير الهيئة التي حفرت مكانها عميقاً في ذاكرة الجماهير.
عاد شهيداً مضرجاً بدمائه، وحوله مسلّحون سارعوا إلى التجارة بدمه وهم يتهمون النظام السوري بقصف سيارته بقذيفة في حي العسالي في دمشق، ويصوّرون بطاقته الشخصية ويوصون بعضهم بحفظها لتسليمه لابنه، قبل أن يختموا بالتكبير! ولأنّ قاتليه هم ألد أعداء الفرح، فقد مثّلوا بالوجه السمح كأنّهم يريدون الانتقام لكل بسمة وضحكة انتزعها من ملايين المشاهدين الذين حفظوا أعماله عن ظهر قلب، وواظبوا على متابعتها حتى بعد عقود طويلة على إنجازها. كأنّ قاتليه لديهم مشكلة قديمة مع ذاكرة السوريين.
هكذا، ستقضي روح ياسين بقوش هذه الليلة إلى جانب رفيقي دربه الراحلين نهاد قلعي وناجي جبر، بينما لن يعلم غوّار (دريد لحام) ما حلّ برفيقه لأنّ أحد أفراد عائلته قال لـ«الأخبار»: «لن نخبره هذه الليلة. سنؤجّل خبراً مفجعاً كهذا إلى الغد (اليوم)». أما أبو صياح (رفيق السبيعي) فظن حين اتصلنا به أنّنا نعزّيه بزميله صباح عبيد، لكنّه سيفجع بالخبر حين نعلمه به ويرتجف صوته ويتلعثم بدموعه مردداً: «لا حول ولا قوة إلا إلا بالله. رحمك الله يا ياسين. متى نخرج من هذا المستنقع اللعين الذي غرقنا به؟».
لن يكون مجدياً التعريف بتاريخ «ياسينو»، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن بقوش انطلق من المسرح القومي قبل أن يؤسس مطلع الستينيات مع رفاقه أشهر كوميديا عرّفت العالم العربي إلى دمشق، من «صح النوم» و«حمام الهنا» إلى «مقالب غوار» و«ملح وسكر» وعدد من الأعمال التي استثمرت كاراكتير «ياسين» الذي ابتكره الراحل نهاد قلعي، على أن يكون معادلاً موضوعياً لبلاهة الشعب العربي. كذلك، حضر بقوش في المسرح التجاري وقدم العديد من العروض، ولم تنقذه الأعمال الإذاعية من فقر الحال ولم تحترم مكانته الرمزية. وحده المخرج محمد عبد العزيز سيعيد اكتشاف جوانب جديدة في شخصية الممثل السوري ليلعب بطولة فيلميه «نصف ميلغرام نيكوتين»، و«دمشق مع حبي». يقول المخرج الشاب محمد عبد العزيز لـ«الأخبار»: «هذا التاريخ يوم أسود في مهنة صناعة الفرح».
وفي الوقت الذي لا يعرف فيه أحد إن كانت عائلته ستتمكن من تسلّم جثمانه وتنفيذ مراسم الدفن، اشتعل الفايسبوك بصور الراحل وبالتعليقات الحزينة وبلينكات لمشاهد من «صح النوم». وبادر نجوم الدراما السورية كأمل عرفة وجمال سليمان وفراس ابراهيم إلى نعي بقوش الذي ينتمي إلى جيل مؤسِّس للكوميديا السورية. بعد سنين من التجاهل والنسيان والنكران، ها هي قذيفة عمياء تغيّب ياسينو عن الحياة، فهل سيتمكّن مجرم آخر من محو تاريخه الفني الطويل؟