الدول الأوروبية ممثلةً في (الاتحاد الأوروبي)، بدت ثقيلة السمع بالنسبة لمتطلّبات الولايات المتحدة، وعلى كافة المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وباتت على سياسة أكثر استقلالاً وتحرراً عن تصوراتها
د. عادل محمد عايش الأسطل
الدول الأوروبية ممثلةً في (الاتحاد الأوروبي)، بدت ثقيلة السمع بالنسبة لمتطلّبات الولايات المتحدة، وعلى كافة المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وباتت على سياسة أكثر استقلالاً وتحرراً عن تصوراتها وقراراتها، حيث مارست ما تراه مناسباً لها في العديد من القضايا، وقد شعرنا بذلك التغير حول العديد من القضايا، وخاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث كانت المواقف الأوروبية من العوامل المؤثرة، في تليين السياسية الأمريكية تجاه القضية، خلال الفترة القريبة الماضية وجعلتها أكثر فهماً لها. ودأبت أوروبا أيضاً على استعادة جنودها من جبهات القتال المساندة للجيش الأمريكي، بشكلٍ يخالف الرغبة الأمريكية، كما أن الأزمة المالية التي عصفت بالولايات المتحدة منذ أواخر عام 2010، لم تكلّف أيٍ من الدول الأوروبية نفسها بغية تدارس تلك الأزمة، إلاّ قي نطاق مصالحها فقط، ولم تأخذها بها عون ولا رأفة.
منذ التوغل العسكري الأمريكي شرقاً عقب أحداث 11 سبتمبر عام 2001، باتجاه أفغانستان لخوض ما يسمى (الحرب على الإرهاب) ثم غزوها العراق في أبريل عام 2003، بحجة منع العراق تنفيذ برامج نووية، عانت الولايات المتحدة الأمرّين في (الأنفس والأموال وفقدان الأنفة) طيلة سنوات الحرب، ولذلك فإن الولايات المتحدة لم تجد خيراً ولن تنتظر خيراً آخر من أفغانستان المدمرة، مع تخفيض وجودها العسكري في 2014 هناك، بل ستزداد احتمالات أن تحل طالبان محلها، إن لم يكن ذلك بعد الانسحاب مباشرةً، فسيكون بالتدريج. وأيضاً لم تجنِ من عملية الغزو للعراق غير البؤس والمزيد من الضعف مضافاً إليها عبارات ولعنات أخلاقية مكبّرة، تطاردها طوال الوقت.
ثم ما لبثت أن ارتطمت بمسائل ومعضلات، بدت أشد من الحروب التي خاضتها نفسها، وأهمها قضية النووي الإيراني، التي أوصلت الملاّحين الإيرانيين لشواطئ الولايات المتحدة بحجة صيد السمك. ولا أقل منها بكثير المسألة النووية الكورية الشمالية، حيث تمادت الكورية، بسحق القوة الأمريكية في عقر دارها، قبل مسح الكورية الجنوبية من الأرض، وذلك بعد إعلانها عقب تجربتها النووية الثالثة (صراحةً) بامتلاكها صواريح باليستية ونووية.
بدورها أدارت الصين حملة أخرى عبر الدول المحيطة والبعيدة أيضاً، من أشكال التوسع العسكري والاقتصادي، وباتت تهدد بالحرب دولاً مهمة قي المنطقة (اليابان والفلبين)، وعزز اقتصادها خطوات مهمة في مجموعة دول آسيا، التي وإن كان الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" قد لقي ترحيباً لدى بعض دولها، لكن ذلك الترحيب لم يرقَ إلى حد الارتباط معه على أي شكل. ومن ثمّ أفرطت كثيراً في اعتمادها على الصين الصاعدة لافتراضها الأساسي، بأن الولايات المتحدة في طريقها إلى التلاشي والاضمحلال، وباتت متأكدة من تحقيق نبؤات الخبراء الدوليين على اختلافهم، بسيطرة النجم الصيني على العالم، ضمن فترة لن يجهد العالم كثيراً في انتظارها.
أيضاً روسيا التي غمرت أذنيها بالطين تماماً، ضد الولايات المتحدة، حول قضايا مصيرية أهمها، القضية النووية الإيرانية، حيث تقف حائلاً دون التمادي الأمريكي والإسرائيلي بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد منشأت إيران النووية. وفي الأزمة السورية، داومت بمعاندنها للولايات المتحدة، داخل مجلس الأمن وبقية المحافل الدولية الأخرى، بإضافة أن "أوباما" لا يستطيع فعل شيء في متنافضات أمام عينيه، فهو يريد سوريا نظيفة من الأسد، ولا يريد إسلاميين بأي شكل، وفضًل ترك الحبل على الغارب واللعب على الحظ، إضافةً إلى بروز التنافس الروسي الحاد من جديد، فيما يتعلق بأمكنة وجداول بيع السلاح والعتاد، والتفنن في جني الأرباح.
أيضاً كانت هناك أحداث الربيع العربي منذ أواخر عام 2010، حيث أبدت الأنظمة العربية الجديدة وبخاصة (مصر)، توجهات أقل (غربية) بالرغم من وضوح الحاجة إلى الغرب وبالذات إلى الولايات المتحدة لارتباطات سياسية وعسكرية واقتصادية سابقة، ويمكن إضافة حراك الشعوب الأخرى حول العالم، حيث كان لها الأثر المهم في أن تلعق الولايات المتحدة أوساخها بنفسها لتبدو بصورة أكثر اعتدالاً.
حتى هنا، في الساحة الفلسطينية، فقد فقدت الولايات المتحدة المزيد من الوزن الزائد (بدون وصفة)، الذي كان سبباً في تماهي السلطة الوطنية مع المقترحات الأمريكية الضالة والمنحازة، والتي ترتب عليها تأخّر قرارات فلسطينية واجبة، وأهمها التوجه للأمم المتحدة بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية كعضو (مراقب) على حدود عام 1967. وبات نشاطها ضعيفاً جداً على مستوى حل القضية على أي من المشاريع، بما فيها نموذج (حل الدولتين). ولم تجد الكثير لتفعله أمام المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة (حماس)، لا سيما بعد أن نجح مديرو حملة "أوباما" في المعركة الانتخابية الأخيرة، في تنحية موضوعات السياسة الخارجية والأمنية ووضعها فيما خلف الدواليب.
ولا ننسَ أن جولة "أوباما" أواخر مارس/آذار القادم إلى المنطقة، والتي ستستمر 48 ساعة، 4 ساعات منها أو أكثر من ذلك بدقائق معدودة فقط لرام الله، من أنها وبرغم كونها (رسمية) التي من شأنها أن تأخذ طابع العمل، لكنها ستكون للاستماع فقط وليس أكثر، وذلك لعدة أسباب أهمها، عمق الفجوة القائمة بشأن التصورات الفلسطينية – الإسرائيلية للحل النهائي، والتي ترى الولايات المتحدة نفسها في ورطة كبرى، بحيث لا تستطيع تحريك ساكناً، كما أن حركة التمرد الإسرائيلية الآخذة بالتوسع داخل القيادةً والشرائح المتديّنة، ضد السياسة الأمريكية وبالذات سياسة "أوباما" الذي طالما حار في فهم المتطلبات الإسرائيلية المختلفة، سواء حول ما تحتاجه إسرائيل وفق وجهة نظرها (اقتصادياً وعسكرياً) أو داخل الولايات المتحدة، حول ما من شأنه تعزيز الوجود اليهودي والسيطرة اليهودية هناك. حتى أنه كان أشد حيرة عند تعيين السيناتور الجمهوري السابق "تشاك هاغيل" لرئاسة البنتاغون كوزيرٍ للدفاع، بسبب الرفض اليهودي والمناصرين له، إذ لم يتسنّ له الحصول على مبتغاه حتى وقّع مع "هاغيل" على ورقة إسرائيلية بيضاء.
على أيّة حال، أنا لست مع الذين يقولون بأن الولايات المتحدة، هي نفسها التي كانت طيلة العقدين الماضيين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الكتلة الشرقية التي يقودها، وحازت بالتالي لقب (القطبية الواحدة)، حتى وإن جدّت (كما تريد) بإعادة انتشارها السياسي على نحوٍ جديد يُخالف السابق، لكن أنا كغيري، الذين كتبوا وحللوا، وفي ضوء المعطيات السابقة وغيرها من المؤشرات المختلفة، من أنه يمكن الاعتقاد، بأن الولايات المتحدة منذ الآن وحتى عقدين مقبلين، ستشهد وقفات مؤلمة ومختلفة، تدل كل وقفة على تراجعات مهمة، تنبؤ بالمزيد من الانحسار، السياسي والعسكري، وبدرجةٍ أعلى غياب تأثير القرار السيادي خارج حدود الدولة، إضافةً إلى اضطراب الوضع الداخلي المتلاحق، من حيث التعثر الاقتصادي والتكنولوجي، واتساع الفوارق الاجتماعية والعزلة الذاتية عن المجالات الخارجية، وربما لن يتبقَ من القوة الأمريكية التي يتمتع بها جيشها (فقط) سوى فرصة محاربة أشكال الأفاعي في أماكن تواجده.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه