لم يعد بمقدور الملك الأردني عبد الله الثاني التكتم عن هواجس تتزايد بتطور أحداث المشهد السوري. لم ينتظر ملك الأردن مطولاً بعد نصيحته الرئيس السوري بالتنحي
لم يعد بمقدور الملك الأردني عبد الله الثاني التكتم عن هواجس تتزايد بتطور أحداث المشهد السوري. لم ينتظر ملك الأردن مطولاً بعد نصيحته الرئيس السوري بالتنحي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 حتى خفت صوته فجأة، لينطق فيما بعد بكلام لم يرق للحلفاء قائلاً: متوهم من يعتقد أن سقوط الأسد مسألة أسابيع.
في أحاديثه الخاصة، يُقر رابع الملوك الهاشميين لزواره أنه ميال لبقاء الرئيس بشار الأسد في منصبه، واصفاً سقوط الأسد بالكارثة العربية. ويُسهب الملك في الحديث عن تماسك الجيش السوري وعن القاعدة الشعبية التي يحظى بها الرئيس. ورغم نفيه لإمكانية إسقاط النظام السوري عسكرياً، لا يتردد الملك في مجالسه بإبداء تخوفه الجدي من تقسيم في سورية من شأنه أن يفتت المنطقة بأسرها.
"البديل في سورية" هو أكثر ما يقلق عاهل الأردن، ويذهب أبعد ليتحدث عن مخاوفه مما أطلق عليه "المحور المتطرف" الذي باتت تشكله كلٍ من: تركيا ومصر وقطر. لا تدافع تركيا عن حرية الشعب السوري بقدر ما تعاديه طائفياً، فيما تهدد سياسات قطر المنطقة بأكملها وهي تنفق الأموال "ليشتمني الناس"، يقول عبد الله الثاني. ويضيف ان ما يخشاه في مصر هو وضع يد الاخوان على الأزهر كمؤسسة دينية جامعة.. ثم يشير بصراحة إلى خشيته من هيمنة الإسلام السياسي على المنطقة.
كلها مخاوف عبر عنها بصراحة ملك الأردن في لقاء جمعه مؤخراً بشخصيات قومية ويسارية. ولم تكن صدفة أن يختار الملك بأن يجتمع بتلك الشخصيات المعروف موقفها مما يجري في سورية، إذ أن غالبية الحضور هم "نشطاء في اللجان الشعبية الداعمة لسورية ولنهج المقاومة، ويعبرون عن موقفهم بصراحة الرافض لأي تدخل أردني في مواجهة مع الجيش والشعب السوريين"، بحسب المسؤول في حزب الوحدة الشعبية ضرغام هلسة.
محور "التطرف"
الموقف الأردني المنحاز لسورية ليس قراراً شخصياً أو فجائياً للملك عبد الله الثاني، بل هو نتيجة تفاهمات نُسجت مع التيارات اليسارية المعارضة التي قدمت تنازلات داخلية على أساس أن الأحداث السورية تشكل أولوية. فيؤكد اليساريون أن ما تتعرض له سورية هو مؤامرة لكونها بلداً احتضن قوى المقاومة، وينظرون إلى أن ضرب سورية هو ضرب لخط المقاومة في المنطقة، ويقتنع النظام أن صعود الإخوان في سورية يهدد بقاءه.. فكان تقاطع المصالح بين الإثنين.
تشارك معارضة اليسار الملك نظرته لناحية القلق من تمدد حلف "التطرف" -كما تروق لهم التسمية-. فيتحدث الكاتب والمحلل السياسي الأردني ناهض حتر عن مشروع اقليمي للاخوان يهدد المنطقة بأسرها، قائم على "تفاهم استراتيجي بين الولايات المتحدة من جهة وبين الاخوان من جهة أخرى بوساطة قطرية... والتحشيد المذهبي لتصوير إيران على أنها العدو المركزي بدلاً من اسرائيل، هو الهدف الذي مضى لتحقيقه الاخوان المسلمين مقابل تمكينهم من السلطة".
ويضيف حتر لموقع المنار إن التحالف الاستراتيجي مع الأميركيين بواسطة قطر "افتضح أمره بعد تسلم الاخوان مقاليد الحكم في مصر، وموافقتهم الإبقاء على معاهدة كامب ديفيد".
اليوم، ينظر تيار اليسار إلى أن الاخوان في الأردن جزء من تنظيم عالمي للجماعة، يعمل لتحقيق أهداف تتخطى بحدودها المملكة الأردنية، وفي هذا المجال يوضح الناشط السياسي ضرغام هلسة لموقع المنار أن الاخوان المسلمين لا يريدون إسقاط سورية ليحكموا الأردن، بل هم يسعون لأن يكونوا جزءاً مهماً من شرق أوسط جديد يُشكل حالياً.
حياد أم إعادة تموضع؟
وعلى الصعيد الدولي، تنشط الزيارات الدبلوماسية بين الأردن ودول الجوار أو تلك الداعمة للمملكة. يُقال إن هناك نوعاً من التفاهم والتناغم بين الأردن والإمارات، فيما تُثار أسئلة عما إذا كان هناك نوع من إعادة التموضع بعد الزيارة الأخيرة لروسيا.
ساهمت زيارات الملك الأردنية، والعلاقات الوثيقة بين البلدين بإحداث تغيير في الموقف الإماراتي تجاه ما تشهده سورية، ورغم أن العلاقات مع السعودية غدت متأرجحة حسبما يصفها المحلل الأردني ناهض حتر مفسراً ذلك بوجود مراكز قوى مختلفة في المملكة دفع نحو انخراطها في الأزمة السورية، ما وضع علاقاتها مع الأردن على محك التورط في عداء دمشق.
وأتت تصريحات وزير خارجية بريطانيا ويليام هيغ مؤخراً التي وصف فيها سورية بأنها باتت وكراً للإرهابيين في المنطقة، وتصريحات أخرى لمسؤولين بريطانيين حول ما تشكله جبهة النصرة من تهديدات لأوروبا لتؤكد ما ذكر حول دور استثنائي لعبته المملكة الهاشمية في تغيير موقف بريطانيا.
وفي حديثه يصف الكاتب السياسي حتر زيارة الملك عبد الله إلى روسيا أنها جاءت لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في إطار مساعي الروس لاستعادة نفوذهم في المنطقة.
"تبدو موسكو اليوم أكثر ميلاً إلى التصريح باهتمامها ببلد يجاور الأزمة السورية"، يقول حتر.
ويضيف: " يعرف الملك عبدالله الثاني أنّ ما تطلبه منه موسكو هو في حدود إمكانياته وقدرته، خلافاً لطلبات حلفائه التقليديين. فكلفة المساهمة في تسوية الأوضاع السورية المتأزمة لا تقارن بكلفة القبول بالتصدي لمهمة إطاحة النظام في سورية، بينما كلفة التعامل مع هذا النظام مستقبلاً، هي أفضل بما لا يقاس من التعامل مع وضع عراقي في سورية".
جرى البحث في سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري ثم التعاون العسكري التقني، ويوضح حتر أن نتائج التعاون أخذت تتبدى إذ أن "صاروخ كورنيت بات ينتج في مصانع الجيش الأردني... وقد جرى قبل ايام اطلاق أول دفعة من هذا الصاروخ المنتيج أدرنياً ويُسمى (هاشم)". وتعزيزاً للسياحة الدينية أنشأت روسيا كنسية أرثوذوكسية في منطقة المغطس الواقعة في الأغوار على نهر الأردن، وبلغت قيمة الاستثمار حوالي 40 مليون دولار.
وفيما يعتبر تطوير العلاقات الأردنية –الإيرانية بالأمر الصعب، لا يستبعد حتر بأن يساهم تعزيز العلاقات مع العراق في فتح جسور مع الإيرانيين، و"هو ما يرحب به الملك وجهات أردنية أخرى". ويعبر الكاتب الأردني عن تفاؤله بأن العلاقات مع العراق ذاهبة نحو نسج تحالف قد يساهم في كسر حدة الاصطفافات المذهبية في المنطقة.
بالمقابل، ينقل ضرغام هلسة لموقع المنار أن الملك أشار في لقائه مع تيار اليسار إلى أنه لا يمانع في الانفتاح على إيران، إلا أنه أبدى تخوفه من ضغوط أميركية وسعودية قد تمارس على الأردن جراء هذا الانفتاح.
وإعادة التموضع التي ألمح إليها حتر في حديثه لموقع المنار، استبعدها هلسة مشيراً إلى أن النظام الأردني لا يمكنه الانعتاق من التبعية السياسية لأوروبا الغربية، وأن حساباته تبقى خاضعة لمقاييس السياسة الأميركية وصندوق النقد الدولي والسعودية.
ماذا عن تدريب مقاتلي "الحر"؟
ومؤخراً نشرت صحيفتي "لوفيغارو" الفرنسية و"التايمز" البريطانية تقاريراً أظهرت تورط عمان بتدريب مقاتلين لما يُعرف بـ "الجيش السوري الحر" في معسكرات أردنية. الصورة التي عكستها التقارير أتت لتشوش على كل ما نُقل وكُتب عن انتهاج الأردن سياسة الحياد الايجابي تجاه الأزمة في سورية.
تؤكد مصادر أردنية المعلومات، وتشير إلى أنه جرى تدريب نحو 500 مقاتل لما يُعرف بـ "الجيش الحر" في معسكرات أردنية صيف العام 2012. وتقول إنه جرى تدريب المسلحين على خوض عمليات نوعية، "لتأمين المنشآت التي تضم أسلحة كيميائية في سورية".
إلا أن المصادر الأردنية لفتت أن البرنامج سرعان ما أوقف وبشكل فجائي، "ولم يتم إرسال أي من أولئك المقاتلين إلى سورية، وذلك قبل حسم السياسة الأردنية باتجاه الانتقال إلى الحياد الإيجابي نحو الأزمة السورية، وتعزيز التفاهمات مع روسيا بشأن حلها في تسوية سياسية واقعية".
وتُثار اليوم علامات استفهام حول خلفيات تسريب هذه بعد ستة أشهر من إلغاء البرنامج التدريبي. وترجح المصادر أن السر يكمن في رغبة قوى إقليمية في إحراج عمّان، والتشويش على مساعيها الحالية لدعم الرؤية الروسية للتسوية في سورية، وتسريعها بما يجنّب الأردن خطرين محدقين: "التزايد الكبير في عدد اللاجئين السوريين القادمين إلى البلاد، والتسلل الإرهابي".
الأردن: عشائر.. إخوان
وفي الداخل، تتقاطع هواجس النظام الأردني مع مخاوف تحكم العشائر المحلية، جراء تورط قيادات اخوانية وسلفية في الأردن بدعم المسلحين في سورية. ما أفرز انقساماً في الشارع الأردني بين تيارين مؤيد للنظام السوري وآخر داعم لإسقاطه.
ويشرح ناهض حتر طبيعة التداخل العميق بين البلدين من حيث الحدود والعلاقات الاجتماعية، ما يجعل للأزمة السورية تأثيراً مهماً على الداخل الأردني، ومفصلاً في اتخاذ المواقف.
يقول حتر إن الإفتراق في الشارع الأردني برز في تموز/ يوليو 2011، "عندما حاول الإخوان السيطرة على محافظة المفرق، المحاذية للحدود السورية، بهدف تحويلها إلى منصة للتدخل في سورية لتسلل المقاتلين.. فواجهتهم العشائر وجرى طردهم من المنطقة."
وتسود قناعة في أوساط العشائر أن الإخوان المسلمين في الأردن كما في خارجها يمارسون ضغطاً على النظام لإجباره على التدخل في سورية، من خلال تحريك الشارع تحت عناوين مطلبية. فيقول ناهض حتر إن الجماعة أظهرت استعداداً للتخلي عن مطالبها السياسية إذا ما وافقت الحكومة الأردنية على التدخل.
وتطالب تيارات إسلامية على رأسها الأحزاب السلفية وجبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تحظى بثقل شعبي في عمان والزرقاء بدور أكبر للنظام الرسمي يحقق تغييراً في المعادلة السورية الداخلية. فتجد جبهة العمل الاسلامي أن تعاطيها مع مشاكل المملكة الداخلية لا يقل أهمية عن موقفها المبدئي بدعم المعارضة السورية، وعن إعلان "التأييد للشعب السوري في ظل الجرائم التي يرتكبها النظام السوري" على حد تعبير عضو مجلس شورى الجبهة علي أبو السكر لموقع قناة المنار.
وفيما ترفض الجبهة أي حديث عن استغلالها المطالب الداخلية للضغط على الحكومة من اجل التدخل في سورية، تصف ما يُذكر بأنه "خلط للأوراق" إذ أن حراكها في الأردن وطني وتأييدها للمعارضة السورية سياسي ومستقل، بحسب عضو شورى الجبهة.
وترى أن موقفها مما يجري في سورية يأتي إنسجاماً مع مواقف سابقة تصدت فيها لدعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ولدعم النظام السوري نفسه عندما واجه الكيان الصهيوني. فيما يتعاطى "النظام الأردني مع الأزمة بحسابات سياسية.. وهو خاضع لضغوط خارجية باتجاهات مختلفة، وليس هناك اتجاه واضح ومحدد يحكم موقفه من الأزمة السورية"، يقول أبو السكر.
وفي الوقت الذي يرفض فيه القيادي في الجبهة أي حديث عن دور لحزبه في دعم المعارضة عسكرياً، يؤكد أنهم على استعداد لتقديم هكذا دعم متى استدعت الحاجة، مقراً في الوقت نفسه أن هناك من دخل ليُقاتل مع المسلحين في الداخل السوري ولكنهم ليسوا من الإخوان بل محسوبون على تيارات سلفية أردنية.
ولعل في إقرار أبو السكر تبرير لحملة إعتقالات واسعة لشخصيات سلفية نفذها الأمن الأردني، نظراً لدورهم المتصاعد في دعم المسلحين في سورية.
يدرك الأردنيون على اختلاف مواقفهم أن انعكاسات الأزمة السورية في حال رجحان كفة المعارضة لن ترتد إيجاباً إلا على الإخوان، بحسب حتر. ما دفع النظام لاتخاذ موقف واضح تجاه الأزمة، تُرجم لاحقاً في موقف الجيش الذي أحكم سيطرته على المناطق الحدودية لمنع تسلل مسلحين أو تهريب أسلحة إلى الداخل السوري.
وبالخلاصة، يعي الأردن جيداً مخاطر ما قد تؤول إليه الأمور في سورية، وسواء أتخذ من في الأردن موقف الحياد أو قرر إعادة التموضع، النتيجة سيان: لا خروج عن دائرة إجماع شريحة واسعة من الجمهور الأردني، تترقب ما يجري في دمشق رافضة الاستجابة لدعوات قد تجرها للغرق بالوحل السوري.