«تريدون معرفة الفاعل؟ هل نسيتم من الذي قام بتفخيخ الكنيسة الإنجيلية المشيخية وتفجيرها؟ ومن الذي فجر أسوار الجامع الأموي لتحريره على حد زعمهم؟
كتب صهيب عنجريني في جريدة السفير :
حلب التي تجاوز عمرُها المعروف حاجز العشرة آلاف عام ليست «المدينة الأكثر دماراً منذ الحرب العالمية الثانية» كما اعتبرتها صحيفة «الغارديان»، ولا هي «ستالينغراد سوريا» كما يحلو للكثيرين تسميتها في غمار «غزواتهم الفايسبوكية»، بل هي أقرب إلى أن يُسمَّى بـ«مذبح التراث العالمي»، فما يحدث في حلب اليوم هو تدمير لمكون أساسي من التراث الإنساني بعمومه، تدمير تعدَّى المرحلة التي يمكن فيها اعتباره وليد الصدفة أو الخطأ، إلى مرحلة التدمير الممنهج.
العالم يخسر تراثَه..ويلتزم الصمت :
أثناء انعقاد الدورة العاشرة للجنة التراث العالمي في العام 1986، أُعلنت المدينة القديمة في حلب كجزء من التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة «يونيسكو»، ما يعني وفقاً لاتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي الموقعة في العام 1972، «وضع إشارة على صحائفها العقارية تثبيتاً لعدم جواز هدمها أو تغيير معالمها أو مواصفاتها حتى من قبل بلديتها إلا بعد أخذ موافقة الجهات الأثرية العالمية». فأين تلك الجهات مما يحصل اليوم في المدينة؟... وأين منظمة «المؤتمر الإسلامي» مما يحدث في المدينة التي اختيرت لتكون في العام 2006 أول عاصمة للثقافة الإسلامية بعد مكة المكرمة؟...
الزاوية الصيادية، والمكتبة الوقفية.. أحدث ضحايا الحرب :
بعد الخراب الذي طال العديد من معالمها «الجامع الأموي، الكنيسة الإنجيلية، الأسواق التاريخية، ... إلخ» انضم معلمان جديدان إلى قائمة ضحايا التراث العالمي، هما: الزاوية الصيادية، والمكتبة الوقفية.
وتقع الزاوية الصيادية أمام قلعة حلب من الجهة الشرقية، في «محلة أوغلبك الباب الأحمر»، وهي أول بناء أنشئ داخل أسوار المدينة القديمة على الطراز المتأثر بالعمارة الأوروبية. بناها أبو الهدى الصيادي - نقيب الأشراف في حلب وجميع ولايات سوريا وديار بكر وبغداد والبصرة - لتكون سكناً لوالده حسن وادي، واستغرق بناؤها قرابة 30 عاماً بين العامين 1878 و1908، ودُفن فيها شيوخ أسرة الصيادي، ثمَّ وهبها الورثة لأوقاف حلب فتحولت مقراً لدار الإفتاء، ودُمِّرت في شباط العام 2013 في العام الثاني من «الثورة السورية».
أما المكتبة الوقفية فقد تأسست في العام 1926 قرب الجامع الأموي الكبير في مقر «المدرسة الشرفية»، التي يعود تأسيسها إلى أواسط القرن السابع للهجرة. أغلقت المكتبة في تسعينيات القرن الماضي مدة عشر سنوات، ثم تقرر إعادة تجهيزها وافتتاحها بقرار من الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2006، وبالتزامن مع احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، وقد أنجز العمل في العام 2011 بعدما بلغت تكلفته حوالي 120 مليون ليرة سورية. وضمت المكتبة حوالي خمسة آلاف مخطوط جمعت من مدارس حلب الأثرية، من بينها 400 مخطوط مصحف شريف، بالإضافة إلى حوالي 27 ألف كتاب مطبوع. كذلك، ضمت قاعات اجتماعات ومكتبات الكترونية، وقسماً لترميم المخطوطات ومتحفاً. وأظهرت صور خلال الأيام الماضية دماراً هائلاً طال المكتبة، من دون توافر أي معلومات عن مقتنياتها.
مُتحاربانِ معلومان.. فهل الفاعل مجهول؟ :
جرت العادة أن يتبادل الطرفان المتحاربان ومؤيدوهما الاتهامات في كل ما يخص الأزمة السورية، وهذا ما حصل مع تدمير معالم حلب. يقول حسام، الطالب في كلية الآثار في جامعة حلب «هل تسأل حقاً عن الفاعل؟ الأمر واضح... إنه جيش النظام بلا شك، وهو المسؤول عن كل الخراب الذي شهدته وتشهده جميع الأراضي السورية». ولكن ما الفائدة التي سيجنيها النظام من تدمير تراث المدينة؟ وما الذي دفعه إلى ذلك؟ يجيب حسام بعد صمتٍ «هذا النظام لا يحتاج أسباباً للتدمير».
لكن طبيبة الأسنان ماري تسخر من هذا الرأي معتبرة أنه «كلام أقل ما يقال عنه إنه سخيف»، وتتساءل «تريدون معرفة الفاعل؟ هل نسيتم من الذي قام بتفخيخ الكنيسة الإنجيلية المشيخية وتفجيرها؟ ومن الذي فجر أسوار الجامع الأموي لتحريره على حد زعمهم؟ ثم من الذي دمر مصانع حلب وسرق آلاتها ونهب مستودعاتها؟ ومن الذي أزعجه احتفاظ حلب بأمنها وأمانها شهوراً طويلة فتسلل إليها وشرَّد أهلها؟ إنها عصابات تعمل بطريقة ممنهجة لتخريب حاضرنا وماضينا، بل ومستقبلنا بتوجيه من مموّليها».
أما المُدرّسة زكية فتقدم رأياً أقرب إلى الوسطية، وتقول «ما حصل في المعالم التاريخية يشبه ما حصل في مدارسنا، يتخذ أحد الطرفين من هذه الأماكن مقارّ له، فيقوم الطرف الثاني بمهاجمته، ونخسر نحن»، مضيفة «أعتقد أن هناك مخططاً بالفعل لتدمير البلد بأيدي أبنائه بالاستفادة من المزاج الجنوني العام الذي يحكم الأطراف المتحاربة عادة».
التاريخ يعيد نفسه.. مع تعديل جوهري :
ما يطالُ معالم حلب، سبقَ أن طال مدينة حماة القديمة في ثمانينيات القرن الماضي. ويقول الكاتب البريطاني الشهير باتريك سيل عن تلك الحقبة: «ظلت معركة حماة مستعرة ثلاثة أسابيع، وقد اضطرت الدولة لاصطياد المتمردين إلى إرسال قوات محمولة بالمروحيات لمساعدة الحامية المحلية على إغلاق مداخل المدينة قبل الانقضاض القاتل عليها، وتراجع العصاة إلى الأحياء القديمة على ضفاف العاصي.
وكان الناس البسطاء الذين يعيشون في أزقة المناطق العميقة الضحايا الأساسيين... وبعد القصف المركز، تحرك رجال الكوماندوس تدعمهم المصفحات، لإخضاع المتمردين الذين لجأوا إلى المساجد والكنائس، وخلال شهر من القتال الضاري دُمر تقريباً ثلث المدينة التاريخية». ولكنّ ثمة تعديلاً جوهرياً في ما تشهده حلب، إذ ان المسلحين اليوم لا يدخلـون المعالم التاريخية - دينية كانـت أم سواها للاحتماء بها، بل يدخلـونها «محـرِّرين».
مفارقة: دمار المدينة القديمة انتصار لمخطط فرنسيٍّ قديم
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، جرت محاولة لإعادة تخطيط مدينة حلب بشكل جديد، ففي العام 1954 اعتُمد مخطط معماري وضعه المعماري الفرنسي أندريه جوتون، الذي اقترح شق عدد من الجادات العريضة عبر المدينة لتتناسب مع دخول السيارات، وتحت هذه الذريعة و«بغرض التوسع» تم هدم العديد من الأحياء القديمة بين العامين 1954 و1983، خصوصاً في المناطق الشمالية مثل «باب الفرج وباب الجنان/جنين».
ولكن جهود أبناء المدينة وسعيهم الحثيث للحفاظ على معالمها أديا إلى إلغاء مخطط «جوتون» في العام 1979، لتتم الاستعاضة عنه بتخطيط لمهندس المدن السويسري ستيفانو بيانكو، الذي أطلق فكرة المحافظة على النسيج العمراني القديم لحلب القديمة، الأمر الذي مهد الطريق للـ«يونيسكو» لتضم مدينة حلب القديمة إلى التراث العالمي في العام 1986.