في خضم السجال الدائر حول موضوع سلسلة الرتب والرواتب، صُدمت بحالة غريبة بتنا نرصدها في الشعارات والتصريحات. هو سلوك يبدو لي أن تسميته المناسبة هي: التكفير الاقتصادي.
في خضم السجال الدائر حول موضوع سلسلة الرتب والرواتب، وممارسة الحق الديموقراطي في التعبير عن الرأي والاقتناعات، صُدمت بحالة غريبة بتنا نرصدها في الشعارات والتصريحات. هو سلوك يبدو لي أن تسميته المناسبة هي: التكفير الاقتصادي.
ولمن فاتته متابعة التطوّرات الأخيرة في ملفّ السلسلة والمواقف التي تُطلق في إطارها، هذا التكفير هو إطلاق الأحكام المسبقة المعلبة بحسب المنصب، الصفة، الثروة أو حتّى النجاح. تحوّل تلك الأحكام كل صاحب أموال مغتصبا لحقوق الناس، سارقا بعيدا عن همومهم، تُرفع صوره على لائحة العار في التظاهرات وكأنّه رمز للطغيان.
هكذا يتحول كل وزير أو مسؤول فاسدا حتماً، ذنبه أنه في موقع المسؤولية ليُصنّف مع أصحاب الرساميل، حيتان المال ذات المصالح الدنيئة. للأسف، باتت هذه العبارات تستهدف كل صناعي وتاجر، مستثمر وصاحب مصرف بنى ثروته بالإنتاج والعمل الدؤوب.
تنطبق تسمية "مغتصب أموال الشعب" على كل من استفاد من المال العام لبناء ثروته، وهذا حديث آخر، أمّا أن يصار إلى اتهام كل صاحب ثروة بأنه ضد مصالح الشعب، فهذا تعميم لثقافة خطيرة على الصعيد الاقتصادي وعلى صعيد الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
اليوم، بات تصوير الوضع على أنّه مواجهة بين هيئة التنسيق النقابية (موظّفو القطاع العام والمعلمين) ومجموعات أصحاب العمل (طبقة الأثرياء) من أصحاب المصارف والمصانع وكبار التجار، ليُصبح كلّ من لا يتبنّى وجهة نظر هيئة التنسيق على لائحة العار. أوليس هذا تكفيراً؟ ..أصبح من يخلق فرصة عمل في لبنان ويحرك الدورة الاقتصادية ويحافظ على علاقة تكامل مع عماله عبر الحقوق والواجبات، "متهما". وهي نظرة جديدة في المجتمع اللبناني تؤسّس لمفاهيم خطيرة على مستوى الاقتصاد الوطني، وتنقل المشكلة إلى مكان آخر، ففي الحقيقة لا خلاف اليوم على حقوق الموظفين في القطاع العام، بل إنّ النقاش هو على كيفية حماية هذه الحقوق وإيصالها إلى برّ الأمان.
كان من الأسهل لي أن أدعم إقرار السلسلة من دون نقاش، كما فعل الكثير من الساسة، أو أن أخفي تخوّفي وأقف على الحياد، إذ يرى البعض أن هذا الموقف شعبوي وسيظهرني بمظهر المدافع عن الموظفين بدون شروط، أو ربما كان هذا الموقف سيُجنّبني حملة افتراءات كبيرة بدأت باتهامي بأنّني استهدف معاشات التقاعد، أو التصريح زوراً عن لساني بأنني طلبت أن يبقى راتب التقاعد حتى سن السبعين فقط، أو بأنّني أعتبر أنّ المتقاعد يعيش في بذخ، وغيرها من الأفكار والمواقف التي لم أصرّح بها بأيّ شكل من الأشكال.
إنّ التساؤلات التي أطلقتها هي تساؤلات مشروعة بل ضرورية من كل مسؤول، كيف بالأحرى إذا كان يتعاطى الشأن الاقتصادي؟ تساؤلات ضرورية لأيّ دولة تخطط لاستدامة الاقتصاد والوظائف ولرواتب التقاعد ومعاشاته وتعويضات نهاية خدمة. إنّها مراجعات وتحليلات اعتمدتها كل دول العالم في تحليل أدائها ومستقبلها ومستقبل شبابها. هي تخوّف من قدرتنا على التمويل كي لا نقع في المحظور، هي مقارنة الأجور بالفاعلية وبالخدمات المقدمة.
هل من الجرم أن نتساءل عن الفرق الشاسع في التغطية الاجتماعية بين القطاعين العام والخاص؟ هل من الجرم أن ندعو للتفكير بقانون ضمان شيخوخة شامل وبطاقة صحية يطالان كل لبناني، وهو مشروع كنا أوّل ما طالبنا به في تكتل التغيير والاصلاح؟ هل من العدل أن يبقى الموظف في القطاع الخاص بدون أي شبكة حماية اجتماعية، من دون تغطية صحية ومعاش تقاعدي، بعد نهاية الخدمة؟ هل من العدالة أن تكون اشتراكات موظف القطاع العام أقل والتقديمات أكثر بكثير من موظف القطاع الخاص؟..
في الواقع، أضحى التساؤل عن كيفيّة ترتيب نظام التقاعد ضرباً من الكفر الاقتصادي!
أليس من العدالة الاجتماعية السؤال عن الغبن اللاحق بموظّف القطاع الخاص الذي يدفع 8.5% اشتراكاً في نظام التقاعد، ويقبض في نهاية خدمته الطويلة تعويضاً أقل من نصف تعويض موظف القطاع العام الذي يدفع 6%؟.
التساؤل حول مدى كفاية اشتراك موظف القطاع العام لتمويل المعاش التقاعدي على مدى السنوات ومنها الى الورثة والفتيات غير المتزوجات او تعويض نهاية الخدمة، هو تساؤل واجب. فهل الاستمرار على هذه الوتيرة سيحقق العدالة للمتقاعدين المقبلين؟ هل الاستمرار على هذا النمط سيؤدي الى إيصال الحقوق إلى اصحابها، بعدما تبيّن أن غالبية خطط التقاعد غير الترسملية في العالم، وقعت في عجز رهيب؟.
هذه التساؤلات مشروعة في علم الاقتصاد وتستوجب الحوار والتحليل ودرس دقيق للنتائج. وكنا قد طلبنا إرسال السلسلة إلى منظمة العمل الدولية لأخذ رأي خبرائها في كلفتها الحقيقية كي لا تتحول صراعا طبقيا هدفه ابتلاع الموظفين، وأن يتحوّل من يخلق فرص عمل محتكرا رأسماليا يأكل تعب الفقير، ويتهرب من الضرائب، علماً أنّ كبار المكلّفين هم الأكثر التزاماً بتسديد ضرائبهم وبتمويل صندوق الضمان الاجتماعي، وأنّ التهرّب الأساسي هو من الشركات الوهمية والصغيرة.
فلنعالج بموضوعية جميع المخاوف، من دون تكفير وارهاب كل من له رأي آخر، لان الاقتصاد علم وأرقام.
http://newspaper.annahar.com/article.php?t=eco&p=4&d=25013